تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

التسامح من منظور حسام الآلوسي

raed jabarkhadomفي السنوات العشر الاخيرة من حياته، كثف المفكر العراقي الاستاذ الدكتور حسام محي الدين الآلوسي (1936ـ 2013) البحث والتأليف في الفلسفة السياسية والديمقراطية والحرية وحقوق الانسان والتسامح ونبذ العنف والطائفية والتعصب، وهو ما افرزته الازمة السياسية على الساحة العراقية المعاصرة، وانسجاماً مع ما تشهده الساحة العربية والاسلامية والعالمية من تحولات كبرى في الجانب السياسي والاجتماعي، ونحن اليوم وفي ظل الازمات والظروف المأساوية السيئة التي يعيشها الفرد والمجتمع العربي والاسلامي عامة والعراقي خاصة، بأمس الحاجة للتسامح والاستفادة من تجارب الشعوب والامم، وذلك ما اشار اليه الآلوسي في فكره من خلال كتبه ودراساته السياسية والاخلاقية والاجتماعية، وهذا ما سنبينه في هذا المقال.

اهتم الآلوسي اهتماماً كبيراً لبيان دور الفلسفة ووظيفتها وقيمتها الفكرية والحضارية والانسانية والاجتماعية، ومن مؤلفاته المهمة التي عالجت هذا الموضوع وقضايا الانسان والمجتمع كتاب

(الفلسفة والانسان) وكتبه الاخيره الصادرة عن بيت الحكمة عام 2010،وهي كتاب (في الحرية: مقاربات نظرية وتطبيقية) وكتاب (الفلسفة آفاقها ودورها في بناء الانسان والحضارة)، ففي هذا الكتاب الشامل، وفي الفصل الاخير منه تكلم الآلوسي عن (الفلسفة ودورها في بناء الوعي الحضاري للانسان في العراق) وهو ما تعرض فيه لدور الفلسفة في زرع وبث قيم التسامح في الفرد والمجتمع من خلال برنامج حدد ملامحه الالوسي في هذا الموضوع.

ينطلق الآلوسي في فهمه للتسامح من منطلق فلسفي، فهو في نظره يعني:

1ـ احترام ودي لآراء الآخرين، وذلك باعتبار هذه الآراء مساهمة في الحقيقة الشاملة، او هي استعداد عقلي او قاعدة سلوكية قوامها ترك حرية التعبير عن الرأي لكل فرد حتى وان كنا لا نشاطره رأيه.

2ـ الاحترام والقبول بتنوع واختلاف ثقافات عالمنا، كواجب اخلاقي وضرورة سياسية وقانونية تجعل السلام ممكناً عالمياً وتساعد على استبدال ثقافة الحرب بثقافة السلم.

يرى الآلوسي ان عدم التسامح يؤدي الى الكراهية والصراع والوصول الى العنف والاحتراب واراقة الدماء.

ويرجع الآلوسي سبب ومنابع ومصدر عدم التسامح في مجتمعاتنا الى (التعصب)، الذي يمثل الاعتقاد الباطل بأن المرء يحتكر الحقيقة او الفضيلة لنفسه، وبأن غيره يفقدها. وهذا الامر لا يقتصر على تعصب الفرد ضد الآخر، بل يصل الامر الى تعصب مجتمع كامل، ضد جماعة او فرقة او مذهب، و يرى ان ذلك يظهر جلياً لدى معظم المجتمعات الدينية والعشائرية والحركات الاصولية المتطرفة التي لا تتعامل مع افراد المجتمع على اساس الاختصاص العلمي والكفاءة في العمل واحترام وجهات النظر وحرية الرأي والعقيدة.

ويرى الآلوسي ان اسوأ انواع التعصب واشدها هو الذي يصيب العقل، وكثيراً ما يحدث ذلك في مجتمعاتنا، والمقصود من ذلك هو الانحراف عن معيار العقلانية، اما بشكل حكم متعجل، او مسبق او تعميم مفرط،او التفكير في اطار نمطي واحد يرفض تعديل الرأي مع ظهور الأدلة والبراهين الواضحة.

والنتيجة الحتمية للتعصب وعدم التسامح هي الوصول الى العنف بانواعه، الاجتماعي والديني والسياسي والعسكري، الذي يقودنا حتماً الى الاستبداد الذي يؤدي الى هدم الشعوب وابادة المجتمعات.

ويرى الالوسي ان التعصب الديني هو اشد انواع التعصب، لأنه غير قابل للتعديل والاصلاح والتغيير من قبل متبعيه، وهذا ما وجدناه شائعاً في اوربا قديماً وواقعنا العربي والاسلامي حديثاً، ولا يقل التعصب السياسي سوءاً وضرراً عن التعصب الديني، لان كلاهما مشترك في الاسباب والنتائج، وهو الانغلاق على الرأي الواحد والابتعاد عن الحوار وقبول الآخر وعدم التسامح مع الفئات الاخرى المختلفة في العقيدة والرؤية والمذهب. وهذا مايذكرنا بالمفكر العربي عبد الرحمن الكواكبي (1855ـ 1902م) في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) الذي اكد فيه على اثر الاستبداد السياسي والديني السىء على مصائر الشعوب والافراد والمجتمعات.

ولو سألنا الالوسي ما هي الطريقة التي نستطيع من خلالها تجفيف منابع اللاتسامح ومعالجة التعصب والعنف والاستبداد بانواعه؟ وهل من موقف وحل فلسفي لعلاج ذلك واشاعة فلسفة التسامح في عالم مختلف؟ وهل نحن مؤهلون لتغيير ثقافة العنف والتعصب والانغلاق الديني والطائفي والحزبي في مجتمعاتنا العربية والاسلامية واستبدالها بثقافة الود والاحترام والتعددية والتسامح كما هو الحال مع شعوب ودول العالم المتقدم؟

يجيب الآلوسي بأن الشعوب الاوربية استطاعت عبر سلسلة من التضحيات والازمات والصراعات المريرة التي شهدتها طوال قرون ضرجتها بالدماء، ان تصل بعد ذلك لرفض العنف والاستبداد والتطرف، وذلك الخلاص لم ولن يكن لولا جهود الفلاسفة والعلماء والادباء، الذين كان لهم الدور الكبير في نشر الوعي الحضاري والفكري والاصلاح الديني واصلاح طرق التفكير واشاعة المنهج العلمي ونشر الديمقراطية وقبول الاختلاف وحرية الاعتقاد.

هذا ما حصل فعلاً في الغرب، اما نحن العرب والمسلمون فما هو نصيبنا من تلك التجربة والثقافة، ومتى نصل الى وعي حضاري وفكري للخلاص من مآسينا وعزلتنا ومحننا المستمرة؟

يرى الآلوسي ان معالجة ازماتنا العربية وحصولنا على الوعي الحضاري والسياسي والثقافي وتحقيق التسامح لن يكون الا باعتماد الاسس الاتية:

اولاًـ محاولة الغاء، او على الاقل اضعاف السلطات التالية:

أ ـ الطائفية او التسلط الديني، وسلطة النص، ويمكن معالجة ذلك على اساس العلمانية، بفصل الدين عن الدولة وعن امور المجتمع المدني، وامور الحياة اليومية.

ب ـ العوام وسلطة الجهلة وانصاف المتعلمين والادعياء، المستندين الى سند ديني مزعوم، او قوة خفية يملكونها وما شابه ذلك من انواع التجهيل والتخويف. وسبب قوة هذا الجهل، العادات، سلطة الجهلة، المتدين الجاهل، قوة وسائل الاعلام المنغلقة او الطائفية.

ج ـ السلطة السياسية المستبدة، والمستفيدون من جهل الناس وقصور وعيهم السياسي، وعدم معرفتهم بما يدور في العالم، والذين تجمعهم العشائرية او العرقية او الطائفية والمصالح والمغانم.

د ـ الاعتقادات المتزمتة والتفسيرات الخرافية والطقوس البالية، التي ربما لا تتصل بالدين نفسه وهذه العادات والاعتقادات التي تبنى على الامل، والخوف من الموت.

ثانياًـ انشاء وايجاد تربية عصرية،عمادها العلم والعقل والحرية، واحلال وايصال الثقافة العالمية الى المجتمع والدوائر التعليمية والجامعات، ويكون ذلك عن طريق نقل خبرات وتجارب وعلوم وفنون الغرب الينا، فلا ظير من نقل تجارب الآخرين ما دامت تصب في مصلحتنا وتحقق نفعنا ونجاحنا، فهذا ما دعا اليه سابقاً فلاسفتنا المسلمون سابقاً امثال الكندي وابن رشد وغيرهما، فعلينا اذن ان نفتح نوافذنا لاستقبال كل طيبات العلم والثقافة والتجربة البشرية. فمن دون الاتصال والتواصل مع الآخر المختلف لا يحصل شيء من التقدم والتحضر والثقافة، فبفضل اتصال العرب والمسلمين بحضارات اليونان والهند وفارس وسواها، انتجت حضارة مزدهرة ومتقدمة شهدت لها الامم والحضارات وتأثرت بها ايضاً فيما بعد.

لقد اكد الكثير من الفلاسفة والمفكرين على اهمية اشاعة ثقافة وفكر التسامح بين البشر، وخاصة تلك المجتمعات التي تتعدد فيها الثقافات والقوميات والهويات، فقد كتب جون لوك ١٦٣٢ـ ١٧٠٤م (رسالة في التسامح) وكذلك فولتير ١٦٩٤ـ ١٧٧٨م، وغيرهم من الفلاسفة، فالتسامح امر ضروري في مجتمعات التعددية والاختلاف، ومنها مجتمعنا العراقي.

نعم اننا لا نستطيع ان نصل الى التعددية واحترام الآخر والتسامح من دون تحقيق هذه النظرة التكاملية التي دعا اليها مفكرنا الآلوسي. من خلال اصلاح وتغيير المنظومة التربوية والتعليمية والثقافية والدينية والسياسية لموسساتنا ومجتمعاتنا، التي اغلقت ابوابها ونوافذها امام الافكار والعلوم والفنون والآداب المعاصرة، والعيش في سجون التراث والماضي القديم، ودون محاولة من قبل المختصين والمفكرين والمسؤولين لتقديم مناهج وحلول ناجعة تنسجم وحياتنا الحاضرة.  

ان مجتمعاتنا اليوم بأمس الحاجة لتفعيل ثقافة وفكر التسامح والتعددية والاختلاف، والايمان بالآخر مهما كان لونه وشكله ولسانه، وهذا الامر يحتاج لجهد مكثف لتفعيل ذلك في مجتمعاتنا المأزومة والمنفعلة لتصل الى مستوى الفعل والتفاعل والانفتاح على الآخر من اجل التواصل وتحقيق التكامل الانساني.

                                     

د. رائد جبار كاظم

 

في المثقف اليوم