تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

الكون المرئي والأكوان الخفية أو الواحد والمتعدد

منذ ما قبل العصر العلمي والتكنولوجي الذي ساد البشرية ابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي، كانت هناك أطروحات تسمى بــ " تعدد العوالم" ثم تطورت حديثاً لتتخذ مسمى الكون المتعدد Univers multiples أو تعدد الأكوان multivers. فهذه الفكرة تعود إلى عهد الإغريق القديم، فلقد تطرق إلى الموضوع الفيلسوف آناكسيموند Anaximande، وكذلك ديموقريطس Démocrite، وأتباع المذهب الذري في ذلك الوقت إلى جانب عدد كبير من مثقفي تلك الفترة الذين كانوا يعتقدون بتعدد العوالم. إلى جانب الاعتقاد بتعدد الأكوان عند آبيقور Epicure و لوكريس Lucrèce. ثم أغرق العالم بالفكر الثيولوجي القروسطي، خاصة في العصور الوسطى، حيث حوربت فكرة تعدد الأكوان أو تعدد العوالم واعتبرت من الهرطقات يعاقب من يرددها بالموت، ازدهرت مرة أخرى تدريجياً في عصر النهضة مع علماء من أمثال نيكولاس دو كويه Nicola de Cues، وقد سبقه العبقري الشهيد جيوردانو برونو Giordano Bruno الذي أعدمته الكنيسة الكاثوليكية حرقاً وهو حي سنة 1600 عقاباً له على جهره بهذه الأطروحة وتصريحه بتعدد العوالم ومناقضة أطروحة الكنيسة الرسمية بهذا الصدد والتي تقول بنظرية الخلق المباشر من قبل الله لعالم واحد مركزه الإنسان والأرض التي يعيش فوقها. ونظيره الفرنسي رابليه Rabelais هو الآخر جهر بذلك أيضاً ولكن باتجاه معاكس مليء بالسحر والصوفية . ومع الفيلسوف المتنور ليبنيز Leibinz، بدأ العصر الكلاسيكي لأطروحة تعدد الأكوان حيث بدأت الفلسفة المعاصر تتبنى هذه الفكرة. أما في العصر الحديث، أي القرن العشرين والحادي والعشرين، فإن هذه النظرية غدت منتشرة بالرغم من امتعاض واعتراض بعض العلماء التقليديين في الوسط العلمي عليها. فهناك عدد من العلماء وضع مسافة بينه وبين المقترحات والأفكار الأنطولوجية المتعلقة بعلم الكائن والبرهنة على وجود الله الخالق، والمرتبطة بمفهوم الكينونة الواقعية باعتبارها كائناً حياً. ومن هذه الزاوية اعتبر بعض العلماء أن الخوض في هذا الجدل بلا طائل لعدم وجود تبعات أو انعكاسات ونتائج عملية تترتب على ذلك. ولكن حتى لو لم تتمكن البشرية لحد الآن، ولا في المستقبل المنظور، الذهاب لأكوان أخرى، فضلاً عن عجزها ولوج مناطق بعيدة جداً في كوننا المرئي ذاته، إلا أن إثبات وجودها من شأنه أن يؤثر جوهرياً على قناعاتنا وطريقة تقويمنا لما يحيط بنا. فلو حاولنا، على سبيل المثال، معرفة ما إذا كانت نظرية ما تصف، على نحو جيد ودقيق وعلمي، كوننا المرئي فالأمر سوف يعتمد على عدد الأكوان التي سوف تتنبأ بها هذه النظرية العلمية الكوسمولوجية أو تلك، وهو ليس خيار جمالي بقدر ما هو وضع غير طبيعي ذو صرامة علمية، ولكن كما نعرف أن كل من يخرج على الطريق السائد والمألوف يثير الإزعاج والتشكيك.

لم تكن نظرية النسبية العامة لآينشتين على تضاد مع نظرية تعدد الأكوان. فنظرية آينشتين أظهرت لنا أن الزمكان espace-temps ديناميكي وهو ليس معطى ثابت وجامد، كما كان حسب مفهوم الفيلسوف كانت Kant والعالم الرياضي نيوتن، أي ليس كما كان يوصف سابقاً كوعاء تحدث في داخله الأحداث والظواهر، فقد وصفته نظرية آينشتين بأنه هو بذاته ظاهرة ومعطى هندسي أو نسيج جيوميتري، وكان ذلك بحد ذاته بمثابة ثورة هائلة في المفاهيم العلمية.

وعندما نطبق أفكار آينشتين على كوننا المرئي، وعلى الفضاء أو المكان فيه، فإننا نكتشف، ليس فقط بأن توسعه ما هو إلا حالة تمدد ذاتية فحسب، بل وكذلك يمكننا إدراك أو تصور هيكليته أو جيوميتريته أي هندسته . وفي سياق الحلول الممكنة في علم الكون الكوسمولوجيا، فإن المكان ذو حجم لامتناهي. ولو أطلقنا تسمية كون على مجمل النقاط المتصلة والمتفاعلة في هذا المكان اللامتناهي، عندها سيكون بالضرورة وجود عدد لامتناهي من الأكوان، أو شكل بدائي أو أولي لكون متعدد يولد بدوره ظواهر مدهشة، أي أن كل ما هو ممكن حدوثه يجب أن يحدث أو يولد ويتكرر حدوثه وولادته على نحو لانهائي، وبالتالي يمكننا العثور على نسخ منا لديها نفس الماضي ولكن ليس بالضرورة نفس المستقبل.

المعضلة التي تواجهنا هي أن هذا الفضاء أو المكان اللامتناهي مليء بنقاط غامضة أطلق البعض عليها تسمية الثقوب السوداء، ولكن ما هي الثقوب السوداء بالضبط؟ هي أجسام أو أشياء مذهلة أو ظواهر كونية تشكل مناطق منفصلة عن النسيج العام وعن التطور الكوني الفيزيائي الملحوظ والمرصود للكون المرئي. يعتقد العلماء أن من الممكن الولوج إلى الثقب الأسود ولكن من المستحيل الخروج منه كما علمتنا نظرية آينشتين النسبية العامة، وهناك من يعتقد أن كوننا ربما يتواجد داخل ثقب أسود مهول في حجمه. فهذه الثقوب غامضة وغريبة . فعلى سبيل المثال، تكون سرعة جسم في حالة سقوط حر في قلب الثقب الأسود في لحظة دخوله للثقب، في أقصى حد ممكن لها، أي ما يقارب سرعة الضوء بالنسبة لمراقب محلي بالقرب منها، في حين تبدو هذه السرعة بالنسبة لمراقب بعيد عنها، في أدنى حد لها، يقرب من حالة السكون التام. ولكن هذا التناقض ظاهرياً فحسب، فالموجود إن هو إلا وصفات تكميلية متجانسة لنفس العالم في إطار معنى أو مفهوم نسبي. فالثقوب السوداء اعتبرت بمثابة إمكانيات نظرية افتراضية في الماضي، لكنها باتت اليوم جزءاً لا يتجزأ من مكونات الفيزياء الفلكية رغم إنكار بعض العلماء لوجودها. وهي تتكون نظرياً من انهيار نجم عملاق في نهاية عمره على ذاته تحت وطأة جاذبيته اللامتناهية، وهناك تفسير علمي جديد لم تثبت صحته بعد أو يتم تبنيه علمياً يقدم تفسيراً علميا للثقب الأسود، ولأول مرة في تاريخ العلم وخصوصا علوم الفضاء المعقدة، و يبيّن أن الثقب الأسود مكوّن من الأجسام النووية الأصغر من الكواركات وهي الماغنيتونات، و إنها كتلة باردة ذات مجال مغناطيسي عالي. وقد يوجد مئات الملايين من الثقوب السوداء بمختلف الأحجام في مجرتنا درب التبانة، وفي غيرها من المجرات، وهي مرتبطة، كظاهرة فلكية، بأطروحة تعدد الأكوان، إذ أن التجلي أو التعبير الرياضياتي للبنية الداخلية للثقوب السوداء في حالة الدوران، تظهر لنا أن هناك عدداً لامتناهي من الأكوان. ولا أحد يعرف ما إذا كان ذلك يمثل حادثاً مصطنعاً أو عارضاً أم حقائق واقعية. فالبعض من الفيزيائيين قدم فرضية تقول بأن تكون الثقوب السوداء منظور إليها من داخل الكون المرئي يشبه إلى حد ما تكون أكوان جديدة أو أكوان – أبناء .

في المثقف اليوم