تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

دعامان متضادتان في الظاهر

يستند علم الكونيات الحديث على نظريتين رئيسيتين هما الدعامة الأساسية لكافة الأبحاث في هذا المجال. الأولى هي نظرية النسبية العامة لآينشتين التي تتعامل مع الأبعاد الكبيرة للكون المرئي أي اللامتناهي في الكبر، ونظرية الكوانتوم أو ميكانيك الكموم التي تتعامل مع الأبعاد الصغيرة في الكون المرئي أي اللامتناهي في الصغر، وكلاهما تتنبئان بفرضية تعدد الأكوان.

يتبوأ مبدأ اللادقة أو عدم اليقين أو الريبة le principe d’incertitude لهيزنبيرغ، قلب الميكانيك الكوانتي أوالكمومي ويتمحور حول مسلمة تقول أنه يستحيل معرفة موقع وسرعة جسم على وجه الدقة في آن واحد، والحال أن أسس وجوهر وتفسيرات الميكانيك الكمومي أو الكوانتي هي التي تتسم بالغرابة . إقترح العالم الفيزيائي هيوغ إفيريت Hugh Everett، من جامعة برينستون، تفسيرا متميزاً يقول فحواه:" عندما يتفاعل نظام كمومي أو كوانتي مع جسم كلاسيكي، يحدث اتصال بكون موازي لكوننا المرئي لكنه غير مرئي، لأنه كون آخر. ولقد وصف البعض هذه الرؤية بالميتافيزيقية ويستحيل إثباتها تجريباً أو اختبارها مختبرياً أو يتعذر رصدها ومراقبتها. يرد إفيريت بالقول: لو افترضنا وجود كونين متوازيين الأول محتمل والثاني غير محتمل ، ولنفترض عدم وجود مراقب في الكون الأول المحتمل بينما يوجد عدد كبير من المراقبين في الكون الثاني غير المحتمل، يقول التفسير الكوانتي أو الكمومي الاعتيادي أو المألوف، أننا ينبغي أن نتواجد في الكون الأول لأنه محتمل في حين يقول تفسير إفيريت العكس أي أن القليل الاحتمال هو الذي ينبغي أن يحدث في الكون الموازي وبالتالي يجب أن نتواجد في الكون الثاني رغم كونه غير محتمل.

وبفضل ميكانيك الكموم وتعديلاته ظهرت نظريات كثيرة حظيت بالكثير من الدراسات والتجارب ومنها نظرية الأوتار الفائقة التي فتحت آفاقاً كبيرة أمام العلماء مع نظيرتها حول التضخم الدائم بغية التوصل للنظرية الموحدة الوحيدة والجامعة التي تجمع بين النسبية وميكانيك الكموم. فنظرية الأوتار نظيرة أنيقة رياضياً وغنية وتستجيب للكثير من التحديات العلمية وتقوم بتوقعات وتنبؤات مهمة من الناحية العلمية وهو الأمر الذي يهم علماء الفيزياء بالدرجة الأولى . فبعض خصائصها التقنية تسمح بحل الكثير من المشاكل المختلف بشأنها بين العلماء ومنها ظهور اللانهائيات في الحسابات الرياضية . إلى جانب أنها تأخذ بالاعتبار مسألة الجاذبية أو الثقالة وبالتالي تطرح نفسها كمرشح جاد ورصين لتفسير مجمل التفاعلات والجسيمات الأولية، ولقد اجتازت بنجاح كافة الاختبارات ولكن بالرغم من مرور 45 عاماً على طرحها لم يتمكن أحد من إثبات أحد تنبؤاتها أو توقعاتها مختبرياً أو رصدياً ومع ذلك يواصل العلماء بذل الجهود في نطاق هذه النظرية فليس من الحكمة التخلي عنها وهي التي أعطت مفهوم تعدد الأكوان حيث تتغير القوانين من عالم لآخر وتضغط الأبعاد الإضافية وتتداخل ببعضها البعض،

هناك جذب وافتتان طبيعي لدى الإنسان نحو المجهول أو الماورائي ومنه فرضية الأكوان المتعددة حتى لو لن يتمكن أحد من رؤيتها أو الوصول إليها أو الاتصال بها . وهي فرضية لم تأت من فراغ أو من لاشيء . فهي نتيجة علمية رياضية ناجمة عن بعض النماذج العلمية للكون أثناء محاولة الإجابة على أسئلة اعتيادية جداً في الفيزياء الكلاسيكية أو المعيارية . فتعدد الأكوان ليس فرضية خيالية افتراضية بل نتيجة حسابية رياضية، والأكوان المتعددة مرتبطة بشكل أو بآخر بكوننا المرئي وهي جزء منه أو بالأحرى هو جزء منها حتى لو استحال الوصول إليها.

نستنتج من ذلك أن هناك، ليس فقط كون متعدد أو عدة أكوان محدودة، بل عدد لا متناهي من الأكوان المتعددة ، وما كوننا المرئي سوى مجرد جسيم بسيط أصغر من جزيء الماء في محيطات وبحار وأنهر الأرض بل وماهو موجود من مياه في النظام الشمسي برمته . وهذه المنظومة الكونية المطلقة والشاملة اللامحدودة ، لا في الزمان ولا في المكان، مكملة لبعضها البعض ومتداخلة ومتوازية ولا يعرف من منها يحتوي الآخر، وهي تتباين في مراتبيتها وأحجامها. وهي في حالة تفاعل وخلق وتوالد مستمر، أزلي وأبدي، ويمكن معرفة بعض خصائصها من خلال استخدام الكوسمولوجيا الكوانتية أو الكمومية cosmplogie quantique . في فرضية الكوسمولوجيا الدائرية المتكررة التي طرحها العالم البريطاني بينروز، تتعاقب مراحل كونية تنجم عن تحولات رياضية تقع عندما يكون المكان فارغاً وتترك آثاراً يمكن رصدها لو توفرت أجهزة متطورة تقنياً تقوم بهذه المهمة بعد بضعة آلاف من السنين. وفي نظرية الثقالة الكمومية أو الكوانتية الحلقية théorie de la gravitation quantique à boucle استبدل مفهوم الانفجار العظيم بالقفزة أو الإرتدادة أو الوثبة أو الطفرة العظمى grand rebond وهذا يعني أن هناك كون مرئي آخر سبق كوننا المرئي وعند حدوث هذه القفزة أو الوثبة أو الطفرة العظمى ، من المحتمل أن تبقى القوانين الجوهرية نفسها ثابتة ، مع احتمال أن تقوم التأثيرات الكمومية أو الكوانتية العملاقة بتغيير طفيف في الثوابت الجوهرية.

وهناك كذلك تعدد الأكوان الناجم عن تنوع الثقوب السوداء بدون تغيير يذكر في القوانين. فالتعميم الطبيعي لهندسة الثقوب السوداء الدائرة على نفسها التي رصدها العلماء في كوننا المرئي توحي بنشوء كم هائل من الأكوان المتعددة المفترضة والتي يستحيل في الوقت الحاضر إثبات وجودها حيث ما تزال حبيسة الافتراضات النظرية والمعادلات الرياضية . وكما تخبرنا نظرية الثقالة الكوانتية ، فإن من الممكن حدوث طفرة في الثقب الأسود في ما يسمى بفرادة الثقب الأسود المركزية La singularité de Trou noir وعندها تنبثق المادة في كون آخر يولد من صلبه، أي "الكون الإبن" ومن الممكن أن تتغير القوانين التي تسيره عن قوانين "الكون الأب". وفي هذه الحالة هناك من يبقى على قيد الحياة وهناك من يهلك ويموت بعد الولادة أو بعد فترة قصيرة من هذه الأكوان الوليدة حسب قانون الانتخاب الطبيعي الكوني حيث تعمل قوانين الطبيعة بأقصى ما لديها من قدرات وميزات لتشكيل أكبر عدد ممكن من الثقوب السوداء. ولقد سبق لنسبية آينشتين العامة أن تنبأت بعدة صيغ جيومترية أو هنسدية للكون المرئي داخل فضاء لامتناهي مما يقودنا حتما لتصور وجود عدد لامتناهي من الأكوان مع قوانين ثابتة لا تتغير. أما في حالة نظرية التضخم الدائم ، فإن هيكيلية أو بنية الأكوان المتعددة متشعبة وعلى هيئة ورقية ـ شجرية مع إمكانية تنوع القوانين المسيرة لها. وعند يتم الجمع بين نظرية الأوتار الفائقة ونظرية التضخم الدائم، فإن الأكوان الفقاعات التي تولد وتصفها هاتان النظريتان، تكون ذات قوانين وثوابت متغايرة بسبب تداخل وضغط الأبعاد المكانية الإضافية فيها . لاتتمتع كل النماذج المطروحة عن تعدد الأكوان بنفس المصداقية بالطبع ، فمنها مقبولة علمياً ومنطقياً خاصة تلك الناجمة عن تفسيرات للنظرية النسبية وللميكانيك الكمومي أو الكوانتي. ومنها تأملية أو افتراضية خاصة تلك الناتجمة عن نظرية الأوتار الفائقة وبينها تأتي نماذج أخرى ناجمة عن نظريات التضخم والهندسة الداخلية للثقوب السوداء وغيرها. ويتعين أولا إثبات وجود تلك الأكوان المتعددة علمياً حتى لو يتعذر علينا زيارتها أو رؤيتها أو رصدها بأية طريقة كانت، وثانياً يجب دمج الجهود المبذولة في مجالي الفيزياء النظرية وفيزياء الجسيمات والكوسمولوجيا المبنية على المشاهدة والمراقبة والرصد من أجل تجاوز بعض الكليشيهات السائدة والمسلمات المفترضة .

في المثقف اليوم