تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

الثقوب السوداء والمادة السوداء وألغاز الكون المرئي الدائمة

يمتلئ الكون المرئي بعدد من المكونات تتواجد بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر، ومن بينها الثقوب السوداء والمادة السوداء أو المظلمة. وهي من الألغاز التي لم يتمكن العلم إلى اليوم من تفسيرها أو معرفتها وفهمها وكشف ماهيتها.

هناك أنواع عديدة من الثقوب السوداء فمنها ماهو دون ذري أو ميكروسكوبي ومنها ماهو عملاق أكبر من الشمس بمليارات المرات، ولها خصائص ذاتية تنبع من قوانين الطبيعة الجوهرية وعلى رأسها الجاذبية أو الثقالة. فهذه الأخيرة تقود رقصة الباليه الكونية في كل مكان وزمان، لأنها هي التي تتحكم بالنسيج الزمكاني كما أخبرنا آينشتين في نظريته النسبية. فحركة الأشياء والأجسام في الكون ليست عشوائية. فسرعة حركة ودوران نجم ما داخل مجرته وكذلك حركة ودوران كوكب ما داخل منظومته الشمسية أو النجمية،محكومة بضوابط ومدارات مرسومة تضبطها الجاذبية أو الثقالة. فالنجوم التي تتجاوز السرعة المحددة لها تطرد من المجرة وتفلت من أسر جاذبيتها أو ثقالتها وتتيه متسكعة بين الفراغات المجرية كأجرام وحيدة تائهة في الفضاء الشاسع الذي يحتوي المجرات والنجوم والكوازارات والحشود أو العناقيد النجمية والمجرية والأغبرة الكونية. ول تباطأت سرعة تلك النجوم فإنها سوف تؤثر على درجة التحدب أو الإنحناء في النسيج الزمكاني الذي خلقته النجوم والمجرات النظامية الأخرى وتخلق منحدر سوف يزحلقها أو يدفعها رغماً عنها نحو مراكز أو قلوب المجرات عبر التجمع أو الحشد المركزي للنجوم في كل مجرة والذي يشكل مركزها الأكثر جاذبية وقوة وتنتهي بأن تبتلع من قبل نجوم أخرى أو ثقوب سوداء عملاقة مجاورة والتي تنتظر نهمة ابتلاع فرائسها النجمية الضالة والتائهة. فبدون السرعة اللازمة والمحددة بدقة فائقة للبقاء في داخل مدارات ثابتة مرسومة لها، فإن النجوم إما أن ترمى مطرودة وتقذف خارج المجرة، أو يحكم عليها بالموت والفناء وتقذف إلى داخل الجحيم المجري لتغرق في أعماق الثقوب السوداء التي ينطبق عليها المثل القائل الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود إلا أننا لم نشهد يوما ما في تاريخ الكون كله شيئاً ما تمكن من الخروج من قلب الثقب الأسود. وللتذكير فقط بأن مجرتنا الطريق اللبني أو درب التبانة تحتوي في داخلها على 300 مليار نجمة منضبطة كالعسكر ومنها نجمتنا التي نسميها الشمس وما يتبعها من كواكب وأقمار . فكلما ابتعد النجم عن مركز المجرة كلما كانت سرعته أبطأ بالمقارنة بنجم أقرب إلى مركز المجرة . ويحتاج النجم إلى 250 مليون سنة أرضية ليكمل دورته حول مركز المجرة وتقطع شمسنا مسافة مدارها المجري حول قلب أو مركز مجرة درب التبانة حوالي 225 مليون سنة أرضية. وهذه المدة تسمى في علم الكونيات بالسنة المجرية année galactique وبعد ثمانية عشر سنة مجرية ستتصادم مجرتنا درب التبانة بجارتها والأقرب إليها التي تبعد عنها أربع سنوات ضوئية، وهي مجرة آندروميدا مما يعني ربما هلاك شمسنا وابتلاع المجرة الجديدة لها وربما تصادمها مع شمس نجمة أخرى أكبر منها بملايين أو ربما مليارات المرات.

في سنة 1930 من القرن الماضي، تمكن عالم الفلك والكونيات الهولندي يان أوورتJan Oort من حساب كمية المادة الموجودة داخل مجرة درب التبانة ثم دقق بالسرعات التي رصدها لدوران النجوم في المجرة ليعرف ما إذا كانت كافية للحفاظ على مدارات النجوم وعدم سقوطها داخل قلب المجرة أو قذفها خارجها، ووجد أنها لاتتوافق مع الكمية المطلوبة، وللعلم كان هذا العالم هو الذي اكتشف أن شمسنا ليست هي مركز المجرة بل مجرد نجم عادي متوسط يقع في أحد أذرع المجرة في إحدى ضواحيها. وحتى بعد إضافة كتل كافة النجوم والأغبرة والغيوم وكل ما يمت بصلة لمجرتنا، سنصل إلى نفس النتيجة أو الاستنتاج، لا توجد كمية كافية من المادة الطبيعية المألوفة والمرئية تمنع النجوم من الإفلات أو الانقضاض نحو مركز المجرة. فالمعادلات الرياضية والحسابات التي قدمتها نسبية آينشتين أظهرت أننا بحاجة إلى خمسة أضعاف ما هو موجود من مادة للحفاظ على هذا النظام المجري. فالعالم يان أوورت ليس شخص عادي في الوسط العلمي. ولكي يقدم إجابة سنة 1932 على هذا التفاوت العبثي بين كمية المادة المتوفرة وتلك التي يجب أن تتوفر لكي يبقى النظام المجري ثابتاً ومستقراً يحافظ على وجوده. في ذلك الوقت قدم مقترحه الثوري الجريء بأن مجرتنا درب التبانة وغيرها من المجرات في الكون المرئي يجب أن تكون مليئة بمادة غريبة ومجهولة تماماً من قبل البشر لم يرصدها أحد من قبل ولا بأي شكل من الأشكال، لا على الأرض ولا في أي مكان آخر في الفضاء، لأنها لاتتفاعل مع الضوء ولايمكن مشاهدتها أو رصدها من قبل التلسكوبات أو المرقابات البشرية التقليدية المعروفة، وأطلق عليها إسم " المادة السوداء أو المظلمة " Matière Noire" وتأثيراتها غير مباشرة نستشعر بها من خلال الجاذبية أو الثقالة فنحن لانراها إلا أنها تقوم هي الأخرى مثل قرينتها المادة العادية بحني وتحديب الزمكان الآينشتيني وهي لا تتكون من نفس الجسيمات الأولية أو مضاداتها التي تكون المادة المألوفة والمرئية. فمكوناتها مجهولة وماهيتها ما تزال لغزاً يحير العلماء. وبعد عام من هذا الاكتشاف المذهل أكد العالم السويسري فريتز زفيسكي Fritz Zwicky، أن المادة السوداء أو المظلمة موجودة ليس فقط في مجرة درب التبانة بل في كافة أنحاء الكون المرئي وتتحكم بحركة ودوران المجرات بعضها حول البعض الآخر رغم المسافات المهولة الموجودة بينها. وبالتالي فهذه المادة ليست مادة عادية ولا مادة مضادة بل هي شيء آخر مجهول كلياً. واليوم ونحن في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ما زلنا لا نعرف مم تتكون هذه المادة السوداء أو المظلمة صرنا نعرف أنها موجود قطعاً بل ونعرف أين تتواجد تقريباً ولدينا خارطة تقريبية لتوزعها داخل الكون المرئي فمقابل كيلو من المادة العادية هناك خمس كيلوات من المادة السوداء أو المظلمة أنها لغز الثقالة الأول بامتياز.

واللغز الثاني الذي لا يقل غرابة أو أهمية هو لغز الثقوب السوداء. الذي كتب عنه فطاحل العلماء مثل ليونارد سيسكند وستيفن هاوكينغ وغيرهما، رغم اختلافا مقاربتهيما لهذا الموضوع إلى حد نشوب حرب علمية بينهما. فهناك ثقوب سوداء عملاقة وهي عبارة عن وحوش مفترسة تبتلع كل ما يمر بقربها فهي تمتلك جاذبية أو ثقالة هائلة لايمكن لأحد أن يفلت منها. وهناك ثقوب سوداء غاية في الصغر أو مجهرية لاتقل خطورة كأنها خلايا سرطانية، ولو أخذنا ثقباً أسود ميكروسكوبي وأدخلنا إليه إلكترون فسوف تحصل عملية تفاعل وينتج عن هذا التفاعل ذرة غريبة تسمى بذرة الثقب الأسود الغامضة والمجهولة الماهية كذلك مثل المادة السوداء أو المظلمة . فإثر عمليات الرصد الفلكية لمجرات تظهر تقديرات لسرعة دورانها وكمية الكتل التي تحتويها وبالتالي حساب مقدار الجاذبية أو الثقالة التي تولدها. وكلنا يعرف أن ترابط المجرات وبقائها في مداراتها يتطلب كمية معينة من المادة المرئية لكي تولد كمية كافية من الجاذبية أو الثقالة اللازمة لذلك. من هنا برزت فرضية جديدة تقول أن المادة السوداء أو المظلمة هي المسؤولة عن تأمين الفرق المطلوب من المادة في الكون المرئي مثلما اعتبر بعض العلماء أن الطاقة السوداء أو المعتمة هي المسؤولة عن التوسع الكوني. فبالرغم من غموضها إلا أنهم يعتقدون أنها لا بد أن تكون قادرة على توليد كمية كافية من الجاذبية أو الثقالة لكي تضمن ترابط أجزاء ومكونات الكون المرئي.

وفي محاولة لمعرفة مكونات المادة السوداء أو المظلمة اقترح عالمان روسيان هما فياكسلاف دوكتشاييف ويوري إيرشنكو من معهد الأبحاث النووية في الأكاديمية الروسية للعلوم في موسكو جديدة تستحق الاهتمام. وفحوى الاقتراح يقول أن ذرات الثقوب السوداء الميكروسكوبية الناتجة عن تفاعلات بين الالكترونات الحرة والثقوب السوداء المجهرية، هي التي تكون الجسيمات الأولية للمادة السوداء أو المظلمة. ويعتقد أن ذرات الثقوب السوداء ليست حيادية الشحنة كهربائياً لكونها تمتلك شحنة تجذب الالكترونات أو الفوتونات مما يحولها إلى كينونات حيادية كهربائياً لذلك اعتبرها البعض بمثابة جسيمات محتملة للمادة السوداء. وتجدر الإشارة إلى أن أن هناك علماء كثيرون يعتقدون أن الثقوب السوداء الميكروسكوبية تكونت في المراحل الأولى المبكرة للكون المرئي والتي نجمت عن اهتزازات أو تقلبات كمومية أو كوانتية حصلت في صلب المادة آنذاك مما أدى إلى خلق مناطق ذات كثافة مادية قادت إلى تشكل الثقوب السوداء المجهرية، بينما قامت الثقوب السوداء الضخمة أو العملاقة بالتدخل في عمليات تشكل المجرات والنجوم. افترض قسم من العلماء أن هذه الثقوب السوداء مادون الذرية هي الجوهر المكون للمادة المظلمة أو السوداء. هناك بالطبع بعض الخصائص الفيزيائية لتلك الماهيات الغامضة حيث يفترض بعض العلماء أن الثقوب السوداء المجهرية كانت تمتلك كتلة تقع في المجال 10^14 كيلوغرام -10^23 كيلوغرام، بعبارة أخرى وجدوا أنها تمتلك نفس مجال كتل الكويكبات، لكن حتى عند تلك الكتلة كانت تلك الأجسام صغيرة جداً، بل أصغر من الذرات ولكنها أكبر من النكليونات، مثل البروتونات والنترونات. بيد أنها لا تشبه أي مكون مادي معلوم في الكون المرئي. والملفت للانتباه أنه لا تتفاعل مع المادة العادية لذلك وبصرف النظر عن كتلتها، فإنها، أي ذرات الثقوب السوداء الميكروسكوبية، ستتفاعل مع المادة الأخرى بشكلٍ أضعف من تفاعل النيوترينوات معها، إن فتأثير التفاعل بين ذرات الثقب الأسود الحيادية والمادة العادية بوساطة الاحتكاك الديناميكي الثقالي صغير جداً.

وربما يكون تشكل هذه الذرات وسيلة تؤدي إلى إنتاج إشارة قابلة للقياس، وذلك عندما يتسارع الكترون ما نحو ثقب أسود ميكروسكوبي من أجل تشكيل ذرة ثقب أسود، من ثم يُجبر هذا الالكترون على تحرير طاقة على شكل وميض من الأشعة الكونية فائقة الطاقة، قد تكون قابلة للقياس مستقبلاً مع تقدم التكنولوجيا. وربما تُكمم الالكترونات تماماً كما يحصل في الذرات العادية، وتقفز بالتالي من مستوى إلى آخر محررةً فوتونات، مما يجعل موضوع رصدها أمراً ممكناً في يوم ما. إذا صحت هذه الفرضية فهذا يعني أنها تملأ الكون مثل الأشعة الأحفورية الميكروية المنتشرة القادمة من أعماق الكون من مرحلة الانفجار العظيم. وهناك احتمال أن تتفاعل ذرات الثقوب السوداء فيما بينها مشكلة جزيئات أكبر لكننا نجهل بنية الكينونات لناجمة عن مثل هذه التفاعلات.

 

في المثقف اليوم