تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

اللزوجة الكونية ومصير الكون

تؤكد الأرصاد الفلكية أن كوننا يتوسع بمعدل متسارع. ولكن التوقعات بخصوص مصير الكون النهائي تختلف فبعضها يتوقع أن ينخفض هذا التسارع تدريجيا وبعضها الاخر يتوقع استمراره حتى تتوقف ولادة النجوم وتموت بقية النجوم والمجرات ولا يبقى إلا الثقوب السوداء التي تتلاشى تدريجياً. ولكن هناك أيضا سيناريو أخر أكثر عنفا يؤدي فيه التسارع المتزايد لتمزيق الكون مكونات الكون من نجوم وكواكب وحتى الذرات بحث لا يبقى إلا الجسيمات الأولية والإشعاع. أحد النماذج التي يحاول فيها العلماء حساب ما يسمى "اللزوجة الكونية" ترجح السيناريو الأخير. ماهي اللزوجة الكونية وماعلاقتها بسيناريو "التمزق الكبير" للكون؟

هناك فرضية حديثة تقول بأن الكون هو مكان ذو لزوجة ولكن بأي مقدار ؟ فهناك مشكلة تتعلق بمعرفة مدى ونوعية اللزوجة فهناك نوعين من اللزوجة الأول يستند إلى قوانين الترموديناميك وهو المفهوم التقليدي، والثاني يستند على نظرية النسبية العامة لآينشتين لذلك تطلب الأمر التوفيق بين المفهومين وهو المسعى الذي نجح فيه فريق بحث من جامعة فاندربيلت Vanderbiltوتمكن من إعداد صياغة ريضاياتية للمسألة لتقليص الفجوة بين المفهومين بيد أن لهذه الصياغة تبعات وخيمة فيما يتعلق بمصير الكون المرئي لأنها تتكهن بأبشع وأفدح السيناريوهات المطروحة بهذا الصدد وأكثرها تطرفاً وراديكالية وهو المعروف باسم " التمزق الكبير وفي نفس الوقت يمكن أن تلقي ضوءا جديداً على إحدى ألغاز الكون المرئي العصية ألا وهي الطاقة الخفية أو المظلمة أو المعتمة أو الداكنة أ السوداء .

قام البروفيسور واستاذ الرياضيات المساعد مارسيلو ديسكونزي Marcelo Disconzi وبالتعاون مع علماء الفيزياء توماس كيبهارت Thomas Kephart وروبرت شرر Robert Scherrer بابتكار مقاربة جديدة في هذا المجال نشروها في ورقة بحثية في دورية علمية متخصصة شهيرة هي Physical Rrview D وقد عبر البروفيسور شرر عن ذلك قائلاً :" أن مارسيلو تمكن من وضع صياغة رياضية ابسط وأكثر أناقة وأعمق رياضياً من أية صياغة سبقتها لأنها تتوافق مع جميع القوانين الفيزيائية التطبيقية السائدة".

تختلف اللزوجة الكونية عن الشكل المألوف في الواقع اليومي للزوجة المعروفة بلزوج القص وهي مقياس لمقاومة المائع للجريان من خلال الفتحات الصغيرة في حين أن اللزوجة الكونية هي شكل من اللزوجة الشاملة وهي ايضاً مقياس لمقاومة المائع للتمدد أو التقلص. إن معظم الموائع التي نصادفها في حياتنا اليومية غير قابلة للانضغاط او التمدد إلا قليلاً. بدأ العالم ديسكونزي بمعالجة المسألة في الموائع النسبوية وتشمل الأجرام الفلكية التي تتسبب بهذه الظاهرة على المستعرات الفائقة السوبرنوفا أي النجوم الهائلة المتفجرة والنجوم النيوترونية التي تنهار على نفسها ليصبح نصف قطرها 20 الى 30 كلم . وقد نجح العلماء في نمذجة ما يحصل للموائع المثالية وعي الموائع عديمة اللزوجة عندما يتم تسريعها الى سرعات قريبة من سرعة الضوء. غير ان الموائع في الطبيعة في مجملها لزجة، ولم يتمكن احد من تقديم طريقة مقبولة لتوصيف الموائع اللزجة المنتقلة بسرعات نسبوية على الرغم من الجهود التي بذلت لعقود طويلة. ففي السابق كانت النماذج تصاغ للتنبوء أو التكهن بما سيحدث عند تسريع هذه الموائع الحقيقية لتبلغ أجزاء من سرعة الضوء تقع في مستنقع التناقضات ولعل اكثرها ضرراً هو ان هذه النماذج تنبأت بأن الموائع يمكنها في شروط معينة الانتقال بسرعة اكبر من سرعة الضوء وهذا أمر مستحيل وهو خطأ فادح إذ أنه تم التحقق مختبريا وبالتجربة على نحو لا يشوبه الشك بأنه لايوجد هناك شيء يمكن ان ينتقل بسرعة تفوق سرعة الضوء.

حفزت هذه المشاكل علماء الرياضيات على إعادة صياغة معادلات ديناميك الموائع النسبوي أي التحريك بطريقة لا تسمج بظهور سرعات تتجاوز سرعة الضوء. بالاعتماد على مقاربة عالم الرياضيات الفرنسي الشهيرأندريه لشينوروفيتز André Lichnerowicz في خمسينات القرن الماضي، حيث وحد ديسكونزي جهوده مع كيبهارت وشرر لتطبيق معادلات أندريه على نظرية كونية أوسع تمخضت عن نتائج مثيرة للاهتمام منها إمكانية استنكاه او استقصاء الطبيعة أو الماهية الغامضة للطاقة الخفية او المظلمة او السوداء او الداكنة او المعتمة. تزعزعت قناعت السط الفيزيائي في تسعينات القرن المنصرم عندما أثبتت القياسات الفلكية أن الكون يتوسع بمعدل متسارع مما دفع علماء الفيزياء الى افتراض وجود شكل او ماهية مجهولة لايعرفون عنها سوى القليل جداً تقف وراء تلك الظاهرة أي التسارع في التوسع اسموها الطاقة السوداء او المظلمة وهي تسمية أخرى لما سماه آينشتين بالثابت الكوني.

لم تتعاطى معظم النظريات التي تعاملت مع الطاقة المظلمة او السوداء مع مفهوم اللزوجة الكونية بالرغم من أنها ذات أثر تنافري مشابه على نحو مدهش لأثر الطاقة السوداء أو المعتمة أو الداكنة. وبالتالي افترض ديسكونزي أن تكون اللزوجة الكونية هي التي وراء التسارع في التوسع الكوني الذي يعزى عادة للطاقة المظلمة أو الداكنة، وهي إمكانية موجودة وإن كانت غير محتملة وقد يكون هنا جزء من هذا التسارع ناجم عن هذه اللزوجة الكونية وبالتالي فهي مرتبطة بالطاقة الخفية أو المظلمة على نحو ما.

ماذا يعني هذا بالنسبة لمصير الكون خاصة بعد اكتشاف واثبات التسارع في التوسع الكوني؟ يقول البعض أن ذلك سيقود الكون إلى التجمد الكبير Big Freezeفيما تنبأ البعض الآخر من العلماء بأن الكون سيتوسع في المائة مليار سنة القادمة على نحو كبير الى الحد الذي تصبح فيه موارد الغاز قلية وربما نادرة لا تكفي لتوليد نجوم جديدة أي ستضمحل النجوم على نحو تدريجي مخلفة وراءها ثقوبا سوداء كثيرة جداً تبتلع كل مادة الكون المرئي والتي هي بدورها ستتلاشى في نهاية المطاف ويصبح المكان او الفضاء الكوني هائل وأبرد فأبرد . في حين يعتبر سيناريو التمزق الكبير Big Rip هو اكثر السيناريوهات تطرفا لأنه تنبأ بوجود نمط شبحي او افتراضي من الطاقة الخفية أو المظلمة التي ستصبح اقوى فاقوى مع مرور الزمن وبالتالي سيصبح معدل توسع الكون المرئي كبيرا الى درجة انه خلال 22 مليار سنة ستبدأ الأجرام المادية بالتمزق وتتفرق الذرات المفردة بحد ذاتها الى جسيمات أولية غير مرتبطة وإشعاعات متناثرة وستتخلخل النسبة بين ضغط الطاقة الخفية أو المظلمة أو السوداء وكثافتها المسماة وسيط معادلة الحالة. فلو انخفضت قيمتها الى ما دون الواحد فإن الكون في النهاية سيتمزق كلياً واطلق العلماء على ذلك تسمية حد الشبح Barrière fantôme وفي النماذج السابقة التي اخذت عامل او مفهوم اللزوجة بالاعتبار لا يمكن للكون المرئي أن يتطور متجاوزا هذا الحد.

الجدير بالذكر ان هذا الحد الحرج لايوجد في صياغة ديسكونزي شرر الرياضية بل على العكس تسمح لمعامل معادلة الحالة أن يأخذ قيمة اقل من واحد بصورة طبيعية.

من هنا نجد أن نموذج التمزق الكبير لا يرد في النماذج السابقة التي أخذت اللزوجة بعين الاعتبار في حين ان هذا النموذج يعتبر اللزوجة هي من يقود الكون المرئي الى هذه الخاتمة الكارثية.

ومن هنا اعتبرت اللزوجة الكونية واعدة وفق حسابات ونتائج تحليلات الصياغة الجديدة للزوجة النسبوية التي قام بها العلماء اليوم والأمر يحتاج للمزيد من التحليلات المعمقة لمعرفة قابلية تطبيقها مما يتطلب توفر حواسب أو كومبيوترات عملاقة فائقة وقوية جداً لتحليل المعادلات المعقدة ريضاياتياً تمكن العلماء من تقديم تكهناتهم ومقارنتها بما سبقها من تجارب ومشاهدات.

في المثقف اليوم