قضايا

أحقاً وزارة للتسامح وأخرى للسعادة

abdulhusan shaabanأمر مثير، بل وأقرب إلى الحيرة والارتباك، حين يأتيك في أحد الصباحات خبر يحمل معه حزمة ضوء من الأمل في خضم فضاء سوداوي، حيث تشيع فيه أشكال من القنوط والتشاؤم لدرجة اليأس أحياناً، حين تهيمن ثقافة الكراهية وإقصاء الآخر، ويسيطر التعصّب والتطرّف والغلو، وتسود محاولات الهيمنة وفرض الاستتباع، ويستشري العنف والإرهاب. في هذه الأجواء يفاجئك وعلى نحو غير مسبوق خبر تأسيس وزارة باسم "التسامح" وأخرى باسم "السعادة" في إطار تشكيل وزاري لحكومة إماراتية جديدة، استحقت أن نطلق عليها "حكومة الشباب"، حيث ضمّت ثمانية وزراء جدد بينهم خمس نساء، وبلغ متوسط أعمار الوزراء الجدد 38 عاماً، وكانت أصغر وزيرة سناً بعمر 22 عاماً، وأعتقد إنها أصغر وزيرة في العالم.

توقّفت عند دلالات هذا الخبر وأنا المنشغل بقضايا التسامح واللّاعنف منذ أكثر من ربع قرن، وذهبت أبعد من الخبر للتفكير بمعانيه، فالمعنى الأول الذي قرأته فيه هو محاولة للتجديد والتغيير للسير بخطىً حثيثة للّحاق بركب التطور العالمي، ولاسيّما في مجالات مختلفة وأساسها هو البشر، الثروة غير الناضبة، خصوصاً بالتعايش وقبول الآخر، من جهة وتوفير مستلزمات الحياة الكريمة من جهة أخرى.

والمعنى الثاني هو الإيمان بدور الشباب في عملية التغيير، إذْ تؤكد جميع التجارب التاريخية إن العبء الأساس يقع عليه، ولعلّ موجة "الربيع العربي" كانت بمبادرة وقيادة الشباب بعقولهم وسواعدهم، ولم يكن لها أن تقوم دون الدور المحوري للشباب، بغض النظر عن المآلات التي اتجهت إليها الموجة لاحقاً، والمنعرجات والإنكسارات التي واجهتها، بما فيها خيبات أحياناً.

والمعنى الثالث يقع في قدرة الشباب على الاستفادة من علوم العصر ومعارفه، وتوظيفها لخدمة مجتمعاته، خصوصاً عندما تتوفّر لديه الظروف المناسبة وتتهيأ أمامه الفرص والإمكانات. ومن هنا يتأتّى الثقة به والاعتماد عليه في عملية التغيير والتجديد.

أما المعنى الرابع فهو الإيمان بدور المرأة وقدرتها على المساهمة في عملية التجديد والتغيير، إذْ لا يمكن بأي شكل من الأشكال حجب نصف المجتمع إذا توخيّنا تحقيق التنمية بكل مستوياتها وجوانبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية والتربوية والثقافية والدينية وغيرها، فدورها أساسي وهو موازي لدور الرجل وبالتعاون بينهما وفي إطار خطة عامة، يمكن السير في درب التنمية المستدامة، بكل ثقة واقتدار للاستفادة من جميع الطاقات المجتمعية نساءً ورجالاً.

ويقع المعنى الخامس في مواجهة ثقافة الكراهية وعمليات الإلغاء والتهميش وعدم الاعتراف بالآخر، حين تؤسس وزارة باسم "التسامح"، الذي يرتكز في أحد أسسه على  الاعتراف بالآخر والإقرار بالتعدّدية والتنوّع وبمبادئ المساواة والفرص المتكافئة، بغض النظر عن الدين أو العرق أو اللغة أو الجنس أو الانحدار الاجتماعي، أو غير ذلك من الصفات التي يمتاز بها البشر عن بعضهم البعض، لكنهم في الوقت نفسه، يمتلكون مشتركات إنسانية، أساسها الحق في الحياة والكرامة الإنسانية والمساواة في الحقوق والواجبات والعدالة والشراكة وعدم التمييز.

والمعنى السادس يتعلّق بالسعادة وهي وإنْ كانت كلمة عامة تحتمل الكثير من التفاسير والآراء، لكن ما هو عام، يصبح خاصاً، بحكم توفر الأمن والأمان والحياة الكريمة، لاسيّما ما يتعلّق ببعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مثل حق العمل والحق في التعليم والحق في الصحة والحق في الضمان الاجتماعي والحق في التمتع بأوقات الفراغ والاستفادة من منجزات العلم والثقافة والفنون والآداب وغيرها، وإنْ كانت الحقوق متفاعلة ومتصاعدة، لكن توفير ما هو أساسي منها يضع الإنسان على طريق السعادة الذي سيكون مفتوحاً، لاستيلاد المزيد من الحقوق الإنسانية، بهدف رفاهه وحريته وسعادته.

فكّرت عندما قرأت خبر تأسيس وزارة للسعادة في وقع هذا الخبر وكيف سيتم التعامل معه، فقد اعتدنا على سماع عبارة "سعادة الوزير" في المخاطبات الرسمية وما درج عليه الإعلام، وهذه هي القاعدة، لكن الاستثناء حصل بتشكيل وزارة للسعادة، وبدلاً من سعادة الوزير، أصبح لدينا وزارة للسعادة، وجاء في كلمة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي: إن بلاده استحدثت منصب وزارة للسعادة، تنصب مهمته الرئيسية على مواءمة خطط الدولة كافة وبرامجها وسياساتها لتحقيق سعادة المجتمع. وقد حاولت البحث عن وجود وزارة مماثلة أو ما يشبهها على المستوى العالمي، فلم أكتشف سوى وزارة واحدة باسم وزارة "السعادة الاجتماعية" كان قد أطلق عليها التسمية لدى تشكيل وزاري جديد في فنزويلا في العام 2013، وهي أقرب إلى ما نطلق عليه " وزارة الشؤون الاجتماعية" في العديد من البلدان في العالم.

لقد استحوذ خبر تأسيس وزارة السعادة على مواقع التواصل الاجتماعي " تويتر" وكان ضمن القائمة الأكثر تداولاً في الأيام الماضية في العالم العربي، وحمل عشرات الآلاف من التغريدات، إضافة إلى التعليقات والتفكّهات، ولكن الأمر الجاد في الموضوع هو وجود مسعى ذا بعد نفسي واجتماعي، حين تؤسس للسعادة وزارة تبحث في إسعاد المجتمع من خلال برامج تنموية وتحديثية ورفع منسوب حقوقه الإنسانية.

ربما يكون منصب وزيرتي التسامح والسعادة، هو الأكثر صعوبة، على الرغم من إن البعض يعتبر إن الوزارتين غير سياديتين، مثل وزارات الخارجية والدفاع والداخلية والمالية والموارد الطبيعية كالنفط والغاز وغيرها، لكن الوزارتين تختصّان بالبشر وبحقوقهم، ولعمري إن هذا الحقل هو الأكثر حساسية من جميع الحقول الأخرى، لأنه يتعلّق بالإنسان وليس ثمة قيمة أغلى منه.

التسامح والسعادة موضوعان راهنان، بل شديدا الراهنية بسبب الحاجة الماسة إليهما، ولأنهما يكوّنان ركنين أساسيين من أركان التقدّم البشري، يضاف إلى ذلك راهنية الفكرتين، وسعي المجتمعات المتقدمة لتحقيقهما، وقطع الشوط سريعاً للوصول إلى دلالات ذلك اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وهذا أولاً. وثانياً لضرورتهما فهما حاجتان حيويتان وأساسيتان لدى جميع المجتمعات، ولاسيّما في ظلّ استفحال مظاهر التعصب والتطرّف، من جهة ومظاهر الاستغلال والفقر وعدم المساواة من جهة أخرى. وثالثاً لإمكانية إحداث نوع من التجدّد والتطوّر والتغيير في حياة الناس وعقولهم وسلوكهم، على أساس المشترك الإنساني ومبادئ العدالة والمساواة، وكلما وجدت المجتمعات طريقها إلى السلام كانت أقرب إلى قاعدة السعادة.

كانت اليونسكو قد اعتمدت في العام 1995 "إعلان مبادئ للتسامح" تضمّن ديباجة وستة مواد، ونصّت مادته الأولى: إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا. ويتعزّز التسامح بالوئام في سياق الاختلاف، وهذا الأمر لم يعد واجباً أخلاقياً فحسب، وإنما واجب سياسي وقانوني أيضاً، أي ينبغي صياغته في إطار المشترك الإنساني للاعتراف بالتعدّدية والتنوّع واحترام الحقوق والحرّيات، وهكذا يغدو التسامح فضيلة تسهم في تيسير قيم السلام وفي إحلال ثقافته محل ثقافة الحرب، وكلما غابت هذه الفريضة تعرّض المجتمع للاحتراب والانقسام والعنف.

العرب والمسلمون هم الأكثر حاجة إلى التسامح والمحبة والتعايش على أساس المشترك الإنساني، مثلما هم بحاجة إلى توفير لقمة عيش كريمة ومستوى حياتي لائق، يضمن الحقوق الأساسية للإنسان، الذي هو في نهاية المطاف هدف أي دين أو فلسفة أو  نظام اجتماعي، والجميع يضعون في اعتبارهم  هدف إسعاد الإنسان، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الفكرية.

إن تأسيس وزارة باسم التسامح وأخرى باسم السعادة، يأتي بعد أن خطت الإمارات خطوات حثيثة في تأمين المستلزمات الضرورية للإنسان، وحسب تقرير دولي متخصص في استبيان السعادة لدى الدول، كانت الإمارات في مصاف البلدان التي يتمتع مواطنوها بقدر كبير من الرضا النفسي والمجتمعي، والأمر له علاقة بالإدارة ومكافحة الفساد وغيرها من مستلزمات الحكم الرشيد ومبادئ العدالة،  وهو مقاربة لتجربة سنغافورة حسب تعليق صحيفة الديلي تلغراف لمراسلها في الشرق الأوسط، وقد لخّص الشيخ محمد بن راشد ذلك حين قال: إن ذلك محاولة لتقريب الحكومة من الشعب.

الخبر الذي سمعناه فيما يتعلّق بالتسامح والسعادة كان مثل الريح الخفيفة المنعشة التي تسبق المطر في ظل عالم يمور بالتعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب ومحاولات الهيمنة وفرض الرأي والتسيّد والاستكبار، وهو الأمر الذي يعيشه العالمان العربي والإسلامي، الأكثر استلاباً من غيرهما على مستوى الحقوق والحرّيات والتفاوت الاجتماعي، سواء للجماعة على مستوى الشعوب والدول أو على مستوى الأفراد، حيث الاحترابات الداخلية والخارجية والإرهاب المنفلت من عقاله والفوضى العارمة والطائفية المستفحلة والفساد المالي والإداري، إضافة إلى التفجيرات والمفخخات وأعمال القتل وأخذ الرهائن والاختفاء القسري وغير ذلك.

 

عبد الحسين شعبان

باحث ومفكر عربي

 

في المثقف اليوم