قضايا

طارق الكناني: الدولة المدنية سلوك حضاري

tariq alkinaniقال عزَّ وجلَّ في محكم كتابه الكريم: {إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} سورة الانفال الاية 72

لو أمعنا النظر في الآية الكريمة في الجزء الأول منها والجزء الثاني لرأيناها تحث على الهجرة للمدينة حيث وضع الرسول الكريم اللبنات الأساسية للدولة المدنية هناك وربط الولاية للمؤمنين بشرط الهجرة والعيش في حياة مدنية...

ترى لماذا أكد سبحانه عز وجل على هذا الشرط حتى يصبح المؤمن والمجاهد والذي بذل نفسه وأمواله في سبيل الله ولي ونصير وأخ لبقية المؤمنين ولم يقبل من الذين لم يهاجروا .

بالتأكيد أن هناك حكمة كبيرة لهذه الهجرة ومغادرة حياة البداوة ولأسباب أكد عليها القرآن في عدة مواضع بوصفه للأعراب وغلظتهم وقسوة قلوبهم وقال : الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {التوبة: 97}

أذن هناك صفات للإنسان لا يرضاها الله لحملة الرسالة وهناك بالتأكيد صفات أخرى أرادها الله لهؤلاء ولا توجد إلا بالحواضر والحياة المدنية ويجب على هؤلاء الرساليون أن يحملوا هذه الصفات المدنية حتى يتمكنوا من بناء دولة مدنية متحضرة تتمكن من التعامل مع المحيط الدولي الذي تعيش به وتخرج من حالة البداوة والتخلف والخشونة لتعيش ضمن اطار المدنية والتعايش السلمي الذي تفرضه الحاضرة المدنية فالبدوي بطبعه وكما يقول علماء الاجتماع (نهَّاب وهَّاب) فهو يعتاش على الغزو والقتل والسلب ومن ثم يفتح مضيفا كبيرا يستقبل به ضيوفه ويغدق عليهم بأطايب المأكولات والكرم والجود ، وهذا تناقض يرفضه الإسلام وترفضه الحياة المدنية .....

لقد زحفت هذه الخصال على حياتنا المدنية والدعوة للجميع لتجنبها ومغادرة هذه العصبية القبلية والروح البدوية في التعامل مع بعضنا البعض ....فخلق المدينة وطباع أهلها وكما أوضحه رسولنا الكريم أكثر رقة فأبن المدينة يمتاز برقة الحاشية ولين العريكة وعذوبة الطباع ، وهذا من يتمكن من بناء دولة مدنية ...ودليلنا كتاب الله في ذلك,,,,

دعوني انقل لكم رواية عن الشاعر علي بن الجهم حين وفد على الخليفة العباسي المتوكل وحين بدأ بقراءة قصيدته المشهورة

 (أنت كالكلب في حِفاظِكَ للود وكالتيسِ في قراعِ الخطوبِ

أنت كالدلوِ لا عدمناك دولا من كبار الدلال كثير الذنوبِ)

فعندما قال هذه الأبيات لخليفة المؤمنين،  أجمع الحضور على ضربه ولكن قال لهم المتوكل: أتركوه..!

 

لقد عرف المتوكل قوة على بن الجهم الشعرية ولكن قساوة الألفاظ تسيطر عليه بحكم البيئة التي يعيشها،  لذلك أصدر المتوكل أمرا بأن يتم منح على بن الجهم بيتا في بستان قريبا من الرصافة وهي مدينة عند جسر بغداد. وكان تلك المنطقة خضراء يانعة، وفيها سوق، وكان علي بن الجهم يرى الناس والسوق والخضرة والنضرة، والجمال في ذلك الحي. وبعد فترة من الزمن، وبعد أن تأقلم على بن الجهم على ذلك المكان دعاه المتوكل وجمع الناس وقال لعلي بن الجهم أنشدنا شعرا. فقال علي بن الجهم قصيدة تعتبر أروع ما قاله، حتى قال عنها الشعراء، لو لم يكن لديه إلا هي تكفيه أن يكون اشعر الناس. فقال على بن الجهم:

عيون المها بين الرصافة والجسر جلبنَ الهوى من حيث ادري ولا ادري

 قوامها 56 بيت كل بيت أروع من البيت الذي قبله :

 

عيون المها بين الرصافة والجسرِ

جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

 

أعدن لي الشوق القديم ولم أكن

سلوت ولكن زدن جمرا على جمرِ

 

سلمن وأسلمن القلوب كأنما

تشك بأطراف المثقفة السمرِ

 

وقلن لنا نحن الأهلة إنما

تضيء لمن يسري بليل ولا تقري

 

في المثقف اليوم