قضايا

طارق الكناني: الصوفية في شعر سامي العامري

tariq alkinaniلقد شغلتني كتابات العامري فترة ليست بالقصيرة، فكلما هممت أن أكتب عنها أتراجع عن تلك الخطوة لعلي أكتشف سمة تغلب على كتاباته أتمكن من خلالها أن أبدأ بداية صحيحة، فكان أن أوقعت نفسي في تناقضات المعرفة الشخصية السطحية للشاعر والتي رسمها لي بعض المقربين وبين ما كنت أقرأه من كتاباته، فكتابات العامري بدت لي وللوهلة الأولى أنها لا تنتمي إليه، لأني رأيت تناقضاً واضحاً بين مخزون الذاكرة التي أحتفظ بها في مخيلتي وبين ما أقرأه من نتاجه الأدبي ,وكما شغلني هذا التناقض شغلتني حالة أخرى وجدتها تتكرر بين الفينة والفينة وهي إختفاءه المفاجئ عن الساحة الشعرية والبعض يعزوها إلى إنشغاله بأمور شخصية محضة، ولكني كنت أتابع عودته بعد هذا الغياب الذي قد يمتد لأكثر من شهر تكون عودة غزيرة بالإنتاج الشعري  والأدبي عميقة في معانيها تكون الفلسفة والحكمة هي السمة الغالبة على هذا الإنتاج الشعري، وهنا قررت أن أعيد قراءة سامي محسن العامري وفق معطيات جديدة لم يكن الأساس فيها المخزون المعلوماتي الذي أحتفظ فيه  عن الشاعر بل كان جزءاً من هذا الأساس ،وعندها كان إكتشافي مغايراً تماماً بل كان أكثر وضوحاً والأكثر ملائمة لما هو عليه،لقد كان أشبه الناس بالمتصوفة الذين طلّقوا الدنيا ثلاثاً خلا بعض العادات التي إكتسبها في شبابه فهي أصبحت جزأً منه لا يمكنه مغادرتها ولكنه روحاً كان صوفياً لا يقل شأناً عن المتصوفين الذين قرأناهم تاريخاً وأدباً بل كان ينافس في مجال الحكمة والفكر الفلسفي الذي يطرحه هؤلاء المتصوفين والكلاميين فعندما أقرأ للعامري كأنني أقرأ في رسائل إخوان الصفا ..!!

 لعل تاريخ المتصوفين  يدلل على أن هناك خيط رفيع يفصل بين التصوف والمجون،حين ندرس حياة المتصوف بشر الحافي نجد أن حياته كانت عبارة عن البحث عن الحقيقة منذ بدايتها وقد تكون طريقته بالبحث متعثرة ولكن واتته الطريقة المثلى للبحث عن الحقيقة على يد جارية نقلتها له وهو في عز النشوة فانتقل من حياته البوهيمية التي درج عليها باعتبارها الأسلوب الذي أتخذه للوصول إلى الحقيقة إلى الأسلوب الآخر, لقد إستمرت حياة بشر الحافي على مستوى فكري واحد ولكنها بمبدأ وأسلوب جديد، وكذلك كانت حياة المتصوفة رابعة العدوية التي عاشت الحب الإلهي حد التماهي والإنصهار، فكان الإنتاج الفكري لهؤلاء المتصوفة غزيراً وتراثاً خالداً مازالت الأجيال الحالية تتناقله بشغف....

إن حياة شاعرنا العامري لا تختلف كثيراً عن حياة هؤلاء المتصوفة فهو ذلك الشاب الذي هاجر من بغداد مفارقاً ضفاف دجلة مرغماً على ذلك الفراق ميمما وجهه شطر الغرب لعله يعثر على حقائق طالما كان ينشدها في وادي الرافدين ولم يعثر عليها فهاجر وهو في مقتبل العمر حين كانت بغداد تغفو كعروس على ضفاف دجلة الخير ففي هذا النص جزء من معاناة  وهواجس شاعرنا العامري..

أعود من مدينةٍ وادعةٍ...في صُحبتي صديقْ ..

راحَ يُغنّي حُبَّهُ، كلَّ تجلياتهِ ..في الثلجِ والحريقْ..

 نَدخلُ حيَّنا، ينحتُنا كالسِّدْرِ طقسٌ عاصفٌ..

وتارةً دوائرُ الرياح تلتفُّ كأغلالٍ .. على ساق الطريقْ ..

ففي العودة إلى النص المذكور نجد أن الشاعر مازال يعصف به حب الوطن بالرغم من طول المدة والفراق البائن بينونته الكبرى بينه وبين بغداد، ففي هذا النص لوعة، فـ(حالة العشق) التي تصل إلى حد التماهي  هي السمة الغالبة للصوفية ففي النص التالي نجد هذا الإنصهار الروحي  مع الوطن:

وطني عربةٌ تشيخ .. وما من مستثمِرٍ يسعى لتجديدها..

ليس لأنهُ لا ضمانَ هناك .. ولكنْ لأنَّ مقوَدَها مُثبَّتٌ في سقفها..

فهي تسعى إلى الله ..!!!!!

ففي النص نرى العامري مازال ذلك البغدادي الذي أوجد البلد في داخله .وكما يقال بأن (الوطن هو الذي يسكن الشاعر) .وبالرغم من هجرته المبكرة وهو في ميعة الصبا لبلاده إلاّ أنه بلغ حداً من إنصهار الذات مع الوطن،ففي أغلب نصوصه إن لم نقل كلها نجد الوطن حاضراً فهو يشاركه كل أفراحه وإضطراباته وهمومه لدرجة أنه أصبح مرآةً تعكس حالة الوطن فالسعي إلى الله كان غاية العامري وعبّر عنها بعفويةٍ صادقة وبأسلوب يكاد يكون فريد من نوعه (ولكن لأن مقودها مثبتٌ في سقفها....فهي تسعى إلى الله) فهذا السعي وهذا التسامي كان ممزوجا بروح العامري ولأن أحب ما كان لديه هو الوطن فقد أخذه معه في صورته الشعرية تلك إلى الله ..

في نصه الأخير الذي كتبه العامري يصف حالة أهله في الوطن وبعد أحداث 10/6/2014 ولأنها كانت أحداث مفصلية في تاريخ الوطن الحديث كان الوجع ينطق من نصه الشعري:

إحتلوا البلاد..

وأولُ ما فعلوه أنهم:

فتحوا أبواب السجون...فهربَ كلُّ السُرّاق والمجرمين المحترفين

وغصتْ بهم المقاهي والأسواق والشوارع..

فما كان من أهالي المدينة ..إلاّ أنْ سلِّموا السجناءَ الهاربين مفاتيحَ بيوتهم

مقابل أن يُبقوا لهم قليلاً من النقود..كي يقفوا في طابور ..

لإستئجار زنازين..!!

هذه الصورة التي نقلها لنا العامري عن مدينة قد لا يكون زارها في حياته إلا أنه أستشعر الخطر في داخله فهو يستشعر أنين الوطن لكونهما وحدة واحدة فتراه يهاجم مصدر هذا الشر ويذود عن بلده وعن نفسه فيسخر من أعداءه ومن تخلفهم  حيث يقول:

الشرقُ يمشي على قدميهِ

ولكنْ لماضٍ عفا كضريحْ..!!

والغربُ يمشي على رأسهِ

إنما للمكان الصحيحْ ..!

فهذا النقد اللاذع الذي يسطره العامري إنما أراد به أصحاب الفكر المتحجر الذين حاولوا أن يأسروا بلاده..

وللمتصوفين سمة أخرى هي حب العزلة وكثرة التفكر في ما يدور حوله وهي صفة أمتاز بها العامري فهو يعتكف في أحيان كثيرة، وقد يطول اعتكافه وحين يخرج من عزلته تلك غالبا ما يصاحب عودته تلك نصاً يمتاز بطابع فلسفي يتحدّر من طبيعةٍ عاشقة للفسلفة والحكمة ..وهذا يعطينا إنطباعا أكيداً بأن عزلة العامري وإعتكافه إنما كان للرياضة الفكرية والتفكر فهو في هذا النص يوضح هذه الرياضة مقرونة بالعوائد الفكرية التي درتها عليه هذه العزلة..

أرخى على جيدها عشرَ قلائد من لؤلؤ

وأحاطَ معصميها بعدة أساورَ من عقيقٍ..

ثمَّ عانقها.. فقالتْ له:

ما لك كريماً معي هكذا أيها الشاعر؟

فقال: لأني أحبُّكِ مضيئةً ..أيتها العُزلة..!!

ففي الرقم عشرة هناك إشارة خفية للوصايا العشر قد استخدمها الشاعر لأنها نزلت في حالة إعتزال النبي موسى ومناجاته لربه، وكان العامري يغدق على عزلته أوصافاً مستوحاة من أجواء ملائكية فكان أن شّبه تلك التجليات التي حصل عليها من عزلته  بالقلائد اللؤلؤية وأضاف إليها أكثر من ذلك إمعاناً في حبه للعزلة فهو يُضفي عليها من روحه ويحيطها بعنايته فالعقيق هذا الحجر الكريم هو إشارة واضحة للتسبيح والضوء الناتج عن هذه التجليات الروحانية .. يأخذنا العامري في حواريته هذه مع العزلة التي طالما عشقها وكانت سببا في أغلب إبداعاته الشعرية التي أمتعتنا  (لأني أحبُّكِ مضيئةً أيتها العُزلة)..

 أن التصوف في شعر العامري سمة تميزه عن باقي شعراء جيله من الشعراء الحداثوين، فالقارئ لرسائل إخوان الصفا والذي يطلع على رسائلهم في (تداعيات الحيوان على الإنسان) يجد هذا الأسلوب في شعر العامري واضحا فهو يقود الحواريات الممتعة هذه ويستخلص منها الحكمة التي  يحاول أن يستدرج القارئ لها ليضعها بين يديه وفق رؤية حديثة قد تكون إستندت على إرثه الثقافي القديم ولكنها بصياغة جديدة فهو حين يقول..

إذا كان رضاك عن نفسك..

أساسُهُ رضا الناس عنك..

وضيقُكِ بها..

أساسُهُ ضيق الناس بكِ..

فوصيَّتُك بلا شكٍ

هم الذين سيكتبونها..!!

فهذه فلسفة يعمد إليها شاعرنا العامري في نصوصه النثرية فهي تزخر بهذه النوع من الحكمة والتي تعطي إنطباعاً عن نوع الثقافة التي يحملها شاعرنا ففي نفس النص يستمر العامري في طرح أفكاره بوتيرة متصاعدة وبحجم يغرق النص في فلسفة محببة إلى النفس حيث يقول في المقطع التالي للمقطع السابق الذي ذكرناه آنفاً:

فرقٌ كبيرٌ بينَ أن تبسمَ لك الدنيا

وأن تبسمَ أنت للدنيا ..

ففي الأولى ... خدعة

وفي الثانية ... رفعة..!!

يخلص الشاعر إلى التحذير من خداع الدنيا في أسلوب فلسفي يزيد من وضوح الرؤية الصوفية عند شاعرنا فهو يدرك تماماً خطر الإنجرار وراء مغرياتها الكثيرة ويدعو إلى تحصين النفس من هذه المغريات ....فهذه الصوفية التي يزخر بها شعر العامري جديرة بأن يهتم بها الباحثون ففي شعره من الفلسفة والحكمة ما هو جدير أن نقف عنده مطولاً لعلنا نجد (حّلاجاً) آخر قد أغفلته عقولنا المتعصبة،  وأترككم مع هذا النص وحوارية جميلة بين الدولافين والقرش والذي جمع من الحكمة وغزارة اللفظ والحث على المحبة والرجوع إلى الذات ما يغنينا  عن الشرح الكثير  ففي جواب القرش الكثير مما يجب الوقوف عنده.. ويبقى سامي محسن العامري شاعراً  متصوفاً يطلب الحكمة والحب ويغمر الوطن بحب قل نظيره:

قال الدولفين لسمك القِرْش:

كُفَّ عن الافتراس وتعالَ معي وتعلَّمْ محبة البشَر..

قال القِرش: لا جدوى فأنتَ لم تتعلَّم المحبة ولكنكَ جُبِلْتَ عليها ..

فقال الدولفين: ولكنك تشبهني كثيراً في الخَلْق ..

ردَّ القِرش: والبشر يتشابهون كثيراً في الخَلْق، فالكارثة ليستْ فيَّ أنا ولكنْ في أن

لا تكونَ مخلِصاً لِما جُبِلْتَ عليه..!!

إذا كان رضاك عن نفسك.. أساسُهُ رضا الناس عنك..

وضيقُكِ بها... أساسُهُ ضيق الناس بكِ ...فوصيَّتُك بلا شكٍّ..هم الذين سيكتبونها ..

فرقٌ كبيرٌ بينَ أن تبسمَ لك الدنيا..

وأن تبسمَ أنت للدنيا ..

ففي الأولى ... خدعة

وفي الثانية ... رفعة

إشتقتُ إليك أيها الوطنُ، لأنهارك، لسلامك..

وإشتاق معي فنجان قهوتي ودفتري وكأس ليلي..

والستارةُ المختلجة كشراعٍ ..فصرنا بمجموعنا نشكِّلُ عائلةً من الأشواق..!!

 

في المثقف اليوم