قضايا

رائد جبار كاظم: هيمنة الفعل السياسي على المشهد الثقافي في العراق

raid jabarkhadomالثقافة فعل فردي وجماعي ومؤسساتي تمارسه كل شعوب العالم بمختلف ألوانها وأشكالها وألسنتها، وتتعدد صورة هذه الثقافات وتنوعها وأشكالها أيضاً بتعدد الشعوب والقوميات والازمنة والامكنة والتاريخ، وأجمل ما في هذه الثقافة في أي بلد من بلدان العالم هو ذلك التنوع والاختلاف في الثقافات وأنشطتها وفعلها الثقافي وتعدد خطابها بمختلف صورها الفكرية والادبية والسياسية والدينية والفنية والرياضية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من المجالات، فحين نجد كل تلك التنوعات في الخطاب يسود في مجتمع أو بلد ما، نقول ان ذلك الشعب والبلد بخير، طالما تتعدد خطاباته الثقافية، وتثري الفرد والمجتمع، وتجني فائدة من تلك السياسة الثقافية والبرامج المتنوعة في تنمية ذهن الفرد وتحقيق الوعي الجماعي ايضاً، سواء في حالات السلم أو في حالات الحرب والازمات والمحن.

والثقافة هي من تعزز الوعي والاصلاح والتنوير في أي مجتمع من المجتمعات، وهي ايضاً من تصنع الوعي والفكر، وتحرر الانسان من تخلفه وجهله والاسوار التي تحيط بعقله وفكره وتربيته، والتي تغلفه من كل الجهات، دون أن يبصر نوراً أو شعاعاً من أشعة العلم والفكر والمعرفة، وقد يكون ذلك التجهيل وتحريف الفكر ونشر الهمجية والظلام أيضاً فعل قصدي ومبرمج ومخطط له من قبل جماعات أو منظمات أو أشخاص، يراد منه تحقيق أجندات معلومة، هدفها تحريف العملية الثقافية والتربوية والتعليمية والفكرية في أي بلد من بلدان العالم، وليس ذلك عن العراق ببعيد.

وللثقافة سياسة تدار بها ومن خلالها، الاشخاص والمؤسسات والموضوعات، ونجاح أي ثقافة وشيوعها وسلامتها مرهون بنجاح تلك السياسة والادارة وبرامجها الموضوعة لصالحها، سواء كانت على المستوى الشخصي للمسؤول أو على المستوى الجماعي للعاملين في أي مجال من المجالات الثقافية والفكرية والمؤسساتية، وفي حال فقدان ذلك العامل الاساس والعمود الفقري في سياسة الثقافة وحسن أدارتها وتوجيهها فذلك نذير خطر وأنذار كارثي يحل بثقافة الشعب والمجتمع والبلد الذي يدار وفق سياسات هوجاء حمقاء ليس لها من سمة وأسم الثقافة شيء يذكر.

ولا ننسى الاشارة الى أن السياسة ثقافة أيضاً، ولابد من الاطلاع على الكثير من جوانبها وموضوعاتها وقضايها، سواء بصورة كونها علماً أو فناً أو فلسفة أو ثقافة، ففي معرفة الكثير منها، كثقافة يتم معرفتها من قبل فرد أو مجتمع أو شعب من الشعوب، يعد ذلك بحد ذاته نجاحاً كبيراً لذلك الفرد أو لتلك الجماعة، وفي المعرفة الواسعة والكبيرة للثقافة السياسية من قبل الناس والمواطنين نشعر أن الامور على خير، وأن أبناء البلد يحصنون أنفسهم بقوة بتلك الثقافة، لمعرفة ما لهم وما عليهم، حقوقهم وواجباتهم، صالح السياسة وطالحها، كيف يتم نجاحها ومتى يكون فشلها وأخفاقها، ليتم تلافي الاخطاء والاخطار في أي ممارسة سياسية، والعمل على تحقيق النجاح الدائم والعدل والتقدم لأبناء ذلك البلد، والتحصن من كل خطر يهدد أمن تلك البلاد وأرواح العباد. وهي مهمة تقع على الثقافة ومن يرعاها، والمسؤول عليها أيضاً، لأنها مسؤولية كبرى تقع على عاتق من يدير دفة الوزارة والثقافة في أي بلد من بلدان العالم.  

وما نلاحظه في العراق وبشكل دائم ومؤلم، ومنذ 2003 وحتى اليوم، ان الثقافة ليست بخير، ولا توجد ادارة واعية ومثقفة للمشهد العراقي برمته، وتحديداً وزارة الثقافة، فهي المخولة والامينة والحارسة للمشهد الثقافي في العراق، فقد أنعكست سياسة المحاصصة والطائفية والحزبية على ادارة تلك الوزارة وأنشطتها وسياستها وبرامجها الثقافية، ولم نجد لها صدى ولا أثراً يذكر، في تأسيس ثقافة عراقية معاصرة تحفظ البلد من الانهيار والمخاطر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والصحية والتعليمية والثقافية والامنية والعسكرية المحدقة به من كل جانب، فغياب تلك الثقافة ووزارة الثقافة وسياسة ثقافية، انما هي حافز فعال وأساسي في تحقيق الخراب والدمار والكوارث التي تحل على العراق كالمطر بصورة مستمرة دون توقف ودون خطط ناجعة وستراتيجيات تدير البلد وتحفظه من تلك المحن والازمات، والا فما دور وزارة الثقافة وما جدوى وجودها في جسد الحكومة العراقية وتشكيلاتها ان لم تقم بتحقيق كل ذلك وأكثر؟ فالامن والامان والاستقرار والاعمار والازدهار انما هو أمر مرهون بالثقافة ومن يديرها ويرعاها، دون تحزب أو تخندق أو شخصنة لمن يتولى تلك المسؤولية، والا فالخراب والدمار والكوارث والارهاب والتطرف والعنف والفساد والفقر والمرض والجهل والامية...ألخ، ستستمر في بلدنا الى أجل غير معلوم ودون حلول تذكر، والى الانحدار والانهيار والسقوط الابدي المؤدي الى المسخ والانقراض من خارطة الوجود الانساني.

وأجد أن السبب الرئيس في تردي الوضع الثقافي وأنحداره وهبوطه في العراق انما هو بسبب سيطرة السياسة والعامل السياسي على البلاد برمتها، فهيمنة ماهو سياسي، والسياسي الهابط، على المشهد العراقي، والثقافي منه على وجه الخصوص، هو الذي قاد البلاد الى تلك المنزلقات والمهالك والمسالك المأساوية والمتردية، والذي شكل بحد ذاته عاملاً كبيراً في تدمير وتغيير وتصحير بنية وتكوين وعقل الفرد والمجتمع العراقي، وذلك الامر أعزوه الى سياسات مقصودة ومخططة مرسومة من قبل أفراد وجماعات سواء في الداخل أو الخارج، تعمل على مسخ وتفكيك وتحطيم الفرد والمجتمع العراقي، والمثقف تحديداً، الذي شكل عنصراً مهماً من عناصر البناء الحضاري والثقافي والفكري عبر التاريخ ، والذي عُد ذلك الامر عاملاً كبيراً يغيض الكثيرين من دول الجوار ومن حكام العالم، وعنصر حسد وغيرة وحقد على العراق وأهله وثرواته وخيراته، ولابد من افراغه من كل تلك الخيرات والتاريخ والحضارة، وهذا بنظرهم لن يكون الا بنشر ثقافة التوحش والعنف والتطرف والكراهية وشريعة وثقافة الغاب، التي تعود بنا الى عصر الهمجية والتخلف والانحطاط، وهذا ما تعمل عليه اجندات الاحزاب والتيارات والشخصيات المتنفذة في العراق، والتي أفرغت العراق من كل شيء سليم وجميل وآمن، من حضارة وتاريخ وثقافة وفنون وآداب وعلوم، لتبقي البلد خراب بلقع، تسرق وتحرق أخضره ويابسه، وهذا كله مقصود ومرصود، وتقف وراءه أرادات كبرى، وسياسات عظمى، تملك الاموال ورجال الاعمال، الذين يحققون لهم مآربهم ومصالحهم، وهذا كله يجري تحت مرأى ومسمع الساسة والمسؤولين والناس أجمعين، دون رادع أو وازع أو مانع أو قاطع، لكل ما يجري في العراق من خراب ممنهج ومبرمج، والذي تقف وراءه سياسة ثقافية فاشلة، وثقافة سياسة هابطة، وفعل سياسي متهالك، مهيمن على الساحة والمشهد العراقي برمته، ودون أن يكون للمثقف والاكاديمي والمختص صوت أو دور يذكر في بناء البلد وادارة الدولة العراقية. والا فماذا نفسر تلك الانكسارات والانتكاسات والويلات التي تحدث بشكل مزمن ومستمر في العراق اليوم، أليس هو حضور ماهو مشوه من الاقوال والافعال للساسة والمسؤولين، وغياب والتغييب الحقيقي لصوت الثقافة والفكر والعلم والفن والادب في رسم خارطة العراق الجديد ما بعد التغيير؟ .    

 

د. رائد جبار كاظم

                

   

في المثقف اليوم