قضايا

طارق الكناني: الأنا تراثنا من الحضارة العراقية القديمة

tariq alkinaniأن الإبداع الفكري والثقافي يؤرخ للأمم بكل ما تنتج من علوم وثقافات ولغة ويحفظ للأجيال تاريخهم وعمقهم الحضاري، كما حفظت لنا الذاكرة العراقية ملحمة جلجامش وألف ليلة وليلة ، لايوجد مثقف عل سطح هذه البسيطة لم يسمع بجلجامش وملحمته الخالدة  ويعرف عشتار وشمخه وانكيدوا وتموز، وحين تُذكَر بغداد سيتبادر إلى ذهن الجميع ألف ليلة وليلة وحين يُذكَر العراق يقفز جلجامش إلى الذاكرة الإنسانية كرمز يشق عمق التاريخ ليمثل إلى هذه الأجيال كمثال حيّ على إبداع الإنسان العراقي. ولابد لهذا الإنتاج من مُنتِج قد سبق زمنه بالآف السنين وهو عراقي أصيل، ولكن هل حفظ لنا التاريخ اسم من كتب هذه المآثر الخالدة كما خلّد اسم هوميروس صاحب الالياذة أو كما حفظ اسم الفردوسي صاحب الشهنامة؟. الجواب كلا لم تحفظ الذاكرة العراقية هذه الأسماء ...

وهنا يتبادر إلى الذهن عدة تساؤلات

لماذا لم يحصل الأديب والمبدع والعالِم العراقي على حظه من الشهرة كبقية أقرانه من الكتّاب؟

لمناقشة هذا الموضوع لابد لنا أن نكشف عن متناقضات كثيرة في الشخصية العراقية أو كما أطلق عليها الدكتور الوردي الازدواجية، وهذه الازدواجية في التعامل هو ما درجت عليه الشخصية العراقية قديماً فالعراقي من الصعب ترويضه لأنه لا يظهر مايضمره في خفايا نفسه لذا صار على الباحث في هذه الشخصية المتفردة أن يمتاز بالصبر والأناة.....

في معظم الأمسيات الثقافية والشعرية والأدبية التي نحضرها وخصوصا عندما يكون هناك حفل توقيع كتاب يقتصر هذا الحفل على حضور المثقفين من الكتاب والأدباء فمثلاً في إحدى مدننا العريقة وهي مدينة علم وثقافة رفدت الساحة الثقافية في العراق والوطن الأكبر بكتّاب وأدباء يشار إليهم بالبنان وقد أثروا الفكر الإنساني بشتى أنواع الحقول المعرفية ..عندما يريد هذا الكاتب أو ذاك الشاعر أن يحتفل في توقيع كتاب جديد أصدره ،غالباً ما يكون في اتحاد الأدباء ... والذي يسمع هذا العنوان الكبير أي (اتحاد الأدباء) وهو فعلاً كبير بمحتواه يتبادر إلى ذهنه بأن هناك مبنىً كبير وفخم كالذي نراه في دول العالم يضم هؤلاء النخبة وهو في الحقيقة عبارة عن غرفة تفضلت مشكورة إحدى دوائر المحافظة مشكورة بتخصيصها إلى هذه الثلة الخيرة من المثقفين لإقامة أمسياتهم ... أو... تقام هذه الأماسي في نادي الكتاب وطبعا سيتبادر إلى الذهن أن نادي الكتاب هو منتدى في بناية ضخمة وملحق بها دار للنشر تعني بطباعة وتسويق هذا الإنتاج الثر والعطاء الغير محدود لهؤلاء النخبة ويتم عرض الكتاب في دار النشر أو المكتبة ويصطف القراء من زبائن الدار وعشاق الكاتب في الطابور لغرض شراء الكتاب واستحصال توقيع الكاتب ، والحقيقة أن هذا النادي يقع في بناية ضخمة وهي نقابة المعلمين ولكنهم متفضلين منحوا النادي مساحة ثلاثين متر من الحديقة الأمامية لينصبوا بها خيمة على التراب وتم تأثيثها بكراسي بلاستيكية ومنضدة بلاستيكية يلتقي هؤلاء المثقفون ليقيموا أماسيهم الثقافية هناك... وهذا هو العجز الحكومي الواضح في دعم هذه الطبقة ، ولعلها تكون هذه من عناصر القوة لا الضعف فالمثقف حين يشعر بالإهمال يزداد عطاء ويكون عطاءه نوعياً ....

من الملاحظ أن الإهمال الحكومي واضحاً والأهم من هذا أن المفكرين يعانون من الاضطهاد الفكري الذي تمارسه الطبقة السياسية ومرجعياتها الدينية في هذا الشأن، وبالإضافة إلى هذا هناك أمر في غاية الأهمية وهي اضطهاد المفكرين بعضهم للبعض، قد يبدو هذا الطرح مستغربا وقد يستهجنه البعض ولكنه حقيقي ، فالمفكر والأديب العراقي أكثر ما يعاني من النقاد والأدباء العراقيين، فمن المعروف أن للنقاد دوراً مهماً في تسليط الضوء على الأديب وهذا جزءاً من مهمته الحقيقية والوطنية فالكاتب والشاعر هو ثروة وطنية يجب المساهمة في تطويرها، فالنقاد يتواجدون حيث يتواجد الإنتاج الأدبي والفني والعلمي وبدونهم لايوجد نقد ومن الممكن وجود الإنتاج الأدبي والفني والعلمي دون وجود الناقد ،فالعلاقة سببية ،ومن هنا كانت مهمة الناقد هي تقويم الأداء لكل المجالات وتسليط الضوء على مكامن الإبداع وتبريز موقع الكاتب ومن ثم تصنيف طبقة هذا الكاتب أو الشاعر ، وهنا من حقنا أن نتساءل هل هذا ما يقوم به الناقد العراقي فعلاً ... ولمعرفة ما يجري يجب علينا أن نعرّج على مرحلة ما قبل التغيير،

لقد تصدر المشهد الثقافي والأدبي والشعري في تلك الفترة بعض المحسوبين على هذا المشهد وساعدهم في ذلك مكانتهم الحزبية وولائهم للحزب الحاكم فترى النقاد يتبارون في إبراز هؤلاء وبالرغم من كل هذه الإشادة إلا أنهم  بقوا في ضحالتهم، ولكن النقاد أهملوا في الجانب الآخر أقلاماً لأدباء وشعراء كان لهم شأن كبير لو سلطت الأضواء عليهم لحصل العراق على قامات شعرية وأدبية يشار إليها بالبنان ولكنهم اتُهِموا بولائهم من قبل هؤلاء البراغماتيين مما أضطرهم إلى مغادرة البلد أو الانكفاء دون أن يسهموا في رفد الساحة الثقافية بنتاجاتهم الأدبية خوفاً من التغييب ...

بعد التغيير بقيَّ الحال كما هو عليه وبقي الأدب والثقافة رهناً للولاءات والطائفية والمحسوبية دون النظر إلى نوع الإنتاج الأدبي فالناقد لم يمارس دوره الاعتيادي وبقي دوره مرهون بالمصالح المتبادلة والمثقف العراقي يضطهد أخيه الآخر وبأسلوب التجاهل وعدم الاكتراث والاهتمام ولا يرضى بالإشادة به وفيما اذا أراد ناقد ما أن يعطيه ما يستحق فسيهاجم هذا الناقد أيضاً ويتم سحق هذا الأديب بكل ما أوتوا من قوة دون النظر إلى الخلف أو إلى الجانبين لقياس حجم الضرر الذي سيلحقه هذا الهجوم بمن حولهم ، ولقد لمست هذا بشكل فعلي، دون خجل، فالناقد  عندما يقرأ ورقته النقدية ويشيد بهذا الكاتب أو ذاك يعتبر هذا نوع من المجاملة تقتضيها الجلسة وبنفس الوقت يرفض ثناء الآخرين عليه بما يستحقه من الثناء ونجده يرفض هذا التقييم ...

هذا ما يطلق عليه علماء النفس بالأنا فكل واحد من هؤلاء الأدباء يعتبر نفسه هو الهرم الأكبر دون غيره من زملاءه ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير فهو لا ينظر إلى الجانب المشرق حين يبرز احد زملاءه، فهو لا يبني مجده الأدبي إلا بتحطيم القامات الأدبية  هكذا هي المعادلة التي يتبعها المبدعون في وادي الرافدين منذ الأزل ،لم ولن يعدلوا عن هذا الأسلوب. وهذا ليس اتهاماً بل هي حقيقة واقعة  معززة بالآف الأمثلة ذكرنا جزءاً منها في بداية المقال.

 

في المثقف اليوم