قضايا

علاء اللامي: تراثيات (3): شبيب الخارجي أول من خاض حرب العصابات قديما

alaa allamiنترك شيوخنا الأقطاب، سلام وحب لهم وعليهم، ونمرُّ على ذكرى القائد الخارجي شبيب أول قائد عسكري خاض الحرب المتنقلة أو ما نسميها اليوم "حرب العصابات"  في العصور الإسلامية و تحديدا في عصر الدولة الاموية، خلال ولاية الحجاج الثقفي في العراق.

تولى شبيب قيادة جيش الخوارج بعد مقتل قائده صالح بن مُسِّرح وثلة من أصحابه إثر وثبة لهم في الموصل، وتحدى  شبيب دولة بني أمية فأعلن نفسه خليفة ساحبا بذلك الشرعية منها، ولقبه صحبه بأمير المؤمنين، وحوَّل قواته الى مجموعات صغيره تخوض حربا على امتداد رقعة جغرافية واسعة تمتد من الموصل إلى الأحواز جنوبا، وتلك هي خارطة العراق غير الإمبراطوري والتي تنفتح على اتساعها في الحالات الامبراطورية حتى حدود الصين شرقا.

كان عدد مقاتليه في بعض المعارك يقل إلى ما دون المئة، ويكبر في أخرى إلى أكثر من ألف. يتنقل بين الدفاع والهجوم، ويستعمل المخاتلة والتشتيت والاستدراج والاستطراد (يدفع العدو الى مطاردته) بجيوش كبيرة ثقيلة الحركة وهو يهرب أمامه لمسافة بعيدة ثم يريح قواته لفترة وينطلق من جديد فينهك العدو ويضطره الى الانكسار.

سئل الأحنف بن قيس وكان من دهاة وحكماء العرب عن الخوارج في زمن شبيب فقال ما معناه (إذا ركبوا البغال وتركوا الخيول سيطول أمرهم) والبغال وسائط للنقل والخيول للقتال وإذا جعلت البغال وسائل للنقل والقتال فستطول الحرب وتتحول الى حرب متنقلة.

انتصر جيش شبيب في خمس معارك ضد القوات الأموية التي جاءت للقضاء عليه وقتل قوادها كلهم وعادت فلولها مهزومة.

واقترب شبيب بقواته  مرتين من الكوفة عاصمة الحجاج  ومقره، واقتحم في إحداهما مسجدها الجامع. وقال المؤرخون ان سبب الاقتحام هو نذر نذرته أمه "غزالة" وكان للنساء المقاتلات دور ملحوظ – كما يقول العلوي - في جيوش الخوارج، و كان نذرها ان تصلي في مسجد الكوفة وتقرأ سورة البقرة (تتألف من 286 من الآيات الطوال). وقد وفت أم شبيب  بنذرها فصلت وقرأت سورة البقرة كاملة وابنها مع مقاتليه يحرسون المسجد الذي سيطروا عليه رغم أنف الحجاج وقواته، ثم انسحبوا ولم يجرؤ والي بني أمية على ملاحقتهم. و إلى ذلك أشار شاعر من أنصار الأمويين بقوله :  وفَت ِ الغزالةُ نذرَها ... يا ربُّ لا تغفر لها.

 وفي المرة الثانية هاجم شبيب الكوفة بقصد تحريرها وإنهاء حكم الحجاج، ولكن الأخير استنجد بعبد الملك بن مروان، فأرسل له مددا، واستعمل الحجاج لأول مرة خطة "الأطواق  من حملة الرماح" حول المدينة فلم يستطع مقاتلو الخوارج  كسرهم وإيجاد ثغرة في أطواقهم فانسحبوا شمالا باتجاه نهر الدجيل. ولدى محاولة شبيب العبور مع  صحبه وعند منتصف الجسر نفر به حصانه وكان النهر طاميا فسقط في النهر ولما كان القائد مثقلا بالدروع والسلاح فلم يستطع السباحة فغرق وانتهت مغامرته البطولية.

وصف المؤرخ السوري خير الدين الزركلي في كتابه " الأعلام " شبيب الخارجي بانه أحد أبطال العالم. ويعتقد معلمي أبو الحسن ان هذا  الوصف صادق يجب أن يوصف شبيب به رغم تحفظاته على الخوارج لدموية بعض قادتهم وتجاربهم الأخرى.

كيف تعامل الإعلام الأموي "الحجاجي"  آنذاك  مع مآثر شبيب الشيباني وبطولاته وكيف حاول تشويه سمعته وسمعة أمه المقاتلة  غزالة؟ وكيف ردَّ المخيال الشعبي الجمعي على هذا الإعلام و نجح في "أسطرة" هذه الشخصية  فائقة الندرة والإبداع؟

 

غزالة وابنها شبيب بين الإعلام الأموي والمخيال الشعبي:

ينقل لنا المسعودي في مروج الذهب ما يمكن اعتباره بداية أسطرة شخصية شبيب الخارجي فيقول إن أصحابه حين اخرجوا جثمانه من النهر شقوا صدره، ولما وصلوا إلى القلب و جدوه وقد تحول إلى صخرة. ويعلق المعلم العلوي على ذلك بالقول (يعكس هذا الخبر صورة شبيب في أذهان الناس يوم ذاك . فما قام به من جولات و ما كشف عنه من بطولة وبراعة في حروبه لا يمكن أن يصدر عن إنسان له قلب من لحم ودم! وهذه صورة الناس بعفويتهم الميالة إلى الأبطال لا سيما المناوئين للدولة). أما صورة شبيب و صورة أمه في الإعلام الأموي الرسمي فمعاكسة تماما فهذا الزبيدي في تاج العروس يخبرنا أن أم  شبيب تدعى "جهيزة" وهي امرأة حمقاء، كانت سبية اشتراها أبوه وأرادها على الإسلام فأبت فواقعها فحملت منه فلما تحرك الجنين في بطنها قالت (في بطني شي ينقز – هكذا وردت في المصدر بالعامية العراقية) فقيل فيها وعنها أحمق من جهيزة.

ويفند العلوي هذه التشنيعات لما سماه "الإعلام الأموي" فيخبرنا أن " جهيزة" هي انثى الذئب، ويقول العرب في حكاياتهم عنها انها حمقاء لأنها تترك ولدها وترضع ولد الضبع مكانه. وجهيزة ليست مرادف لأنثى الذئب وإنما هي أقرب إلى اسم العلم. وقد مر بنا ان أم شبيب "غزالة" كانت سبية في الأصل ولكنها أصبحت مسلمة، تقرأ القرآن وتصلي، وانها كانت مقاتلة في جيش ابنها، وقد اختلط الأمر على بعض المؤرخين فاعتبروها زوجته ولكن الشائع والسائد في الرواية التاريخية أنها أمه، وكانت نساء الخوارج من الزوجات والأمهات وغيرهم يشاركن في الحروب وعن أم شبيب قال الشاعر الأموي أيمن بن خريم :

أقامت غزالةُ سوق الضراب .... لأهل العراقين حولا قميطا .

العراقين هما الكوفة والبصرة، وحولا قميطا تعني عاما كاملا استغرقتها حرب شبيب ضد الحجاج.

وقال فيها أيضا :

غزالة في مئتي فارس ... تلاقى العراقان منها البطيطا.

والشاعر الأموي هنا يمتدح شجاعتها ولكنه يحملها مسؤولية البطيط أي الكوارث التي حلت بأهل العراقين بسببها، أما ولاة بني أمية القساة الدمويون فلا مسؤولية عليهم كما يرى هذا الإعلام!

والمعلومات الرصينة تقول أن أم شبيب كانت سبية فعلا، ولكنها كانت امرأة جميلة ، طويلة القامة، فارعة، حمراء الشعر. و كانت مقاتلة شجاعة قال عنها شاعر من الخوارج مذكرا بصلاتها في مسجد الكوفة ومخاطبا الحجاج بن يوسف الثقفي :

هلا برزتَ إلى غزالةَ في الوغى أم كانَ قلبُك في جناحي طائرٍ

أما محاولات الأمويين تشويه سمعة شبيب الخارجي و وصمه بالقسوة والغدر .. الخ، فكانت بائسة ولم يكن لها أي تأثير على الناس بسبب المَثْلَنَة "ضرب الأمثلة" الشبيبية الأخلاقية الراقية وقلت الشبيبية ولم أقل الخارجية، لأن الخوارج حركات و فرق عديدة ومختلفة من هذه الناحية شانها شأن الحركات والفرق الثورية المعارضة الأخرى في العصر الإسلامي، وكانت سمعة شبيب الخارجي نقية ومعروفة بين الناس في البقاع التي قاتل فيها، وعن أخلاقيات الحرب عنده نختم بهذا المثال:

نزل شبيب الخارجي بجيشه في إحدى جولاته في قرية لأهل الذمة (مسيحيون أو يهود أو من كليهما) ليستريحوا، فجاءه إليه وجهاء القرية مذعورين وبينوا له إن الأمويين جبابرة ومتى علموا بنزوله في بلدتهم ذبحوهم، وإنه أي شبيب، من أهل العدل ويرحم الضعفاء فقام شبيب ونادى في أصحابه وغادروا القرية فورا لكي لا يلحق الأذى بأهل القرية!

هذا هو الخارجي شبيب الشيباني و رغم أن ليس كل خارجي شبيب ولكن هل يجوز التعميم ولعن الخوارج كلهم كما يفعل الإعلامي الرسمي السعودي والإيراني في عصرنا، أليس هذا الاعلام هو امتداد نوعي للإعلام الأموي الحجاجي بالأمس؟!

 

...........................

المصدر: "شخصيات غير قلقة في الإسلام ص 80 وما بعدها/ هادي العلوي"

(ملاحظة: لا توجد أخطاء نحوية او إملائية في المقتبسات عن الراحل العلوي وما يبدو انه خطأ سببه أنه يكتب بالنحو الساكن وليس المتحرك كأن يجمد حركة الأسماء الخمسة على حركة الرفع بالواو في جميع الحالات الإعرابية).

*كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم