قضايا

عبد الرضا عليّ: في الذكرى الثانية والخمسينَ لرحيلِ السيّاب.. من مخالفةِ السائدِ إلى تقديمِ النصِّ الأنموذج

abdulreda aliولدَ بدر شاكر السيّاب في عام ولادة العبقريّة الإبداعيّة في العراق، وهو العام الذي وُلِدَ فيهِ الفنّانانِ جواد سليم، وخالد الرّحال، والشاعران الرائدانِ بُلندِ الحيدري، وعبد الوهابِ البيّاتي، أي في العام 1926م، وانتقلَ إلى الرفيقِ الأعلى في 24 / 12 / 1964م، في المستشفى الأميريِّ بالكويت، وتمَّ نقلُ جثمانهِ إلى مدينتِهِ البصرة، ودُفِن في مقبرةِ الحسنِ البصريِّ بالزبير.

1130-badir وشاعريّةُ السيّابِ مبكّرةٌ، فقد نظمَ ولمّا يزلْ في ربيعهِ الخامسَ عشرَ قصائدَ من شعرِ الشطرينِ دلّتْ على اقتدارٍ، ونباهةٍ واضحتينِ، ولعلَّ قصيدتَهُ (شهداءُ الحريّة) التي رثى فيها شهداءَ حركةِ مايس: (صلاح الدين الصبّاغ، ويونس السبعاوي، وفهمي سعيد، ومحمود سلمان، وكامل شبيب) التي قادها رشيد عالي الكَيلاني في العام 1941م، تُثبت ما ألمعنا إليهِ من شاعريّةٍ مبكّرةٍ نابهة.

 ويبدو أنّه كانَ واقعاً تحتَ تأثيرِ الدعايةِ النازيّةِ، وإعلامِها المتمثّلِ في صوتِ المذيعِ يونس بحري عبرَ برنامجهِ الشهيرِ (هنا برلين .. حيّوا العرب) قد أثّرَ في السيّابِ المراهقِ الذي لم يكن بعدُ قد خَبِرَ السياسةَ، وفهمَ حقيقةِ الصراع.

 ومّما قالهُ فيها معرّضاً بالوصيِّ عبدِ الإله، والإنجليزِ، ومشيداً برشيد عالي الكيلاني... من الطويل:

أراقَ عبيدُ الإنكَليزِ دماءَهمْ  ولكنَّ دونَ النارِ من هوَ طالِبُهْ

أراقَ ربيبُ الإنكَليزِ دماءهُمْ  ولكنَّ فـي برلينَ ليثاً يُراقبُهْ

رشيدُ ويا نِعْمَ الزعيمُ لأمّةٍ  يعيثُ بها عبـدُ الإلهِ وصاحِبُهْ

لأنتَ الزعيمُ الحقُّ نبّهتَ نوَّماً  تقاذَفهمْ دهرٌ توالـتْ نوائبُهْ

 وإذا كانَ هذا أداؤهُ وهو في ربيعِهِ الخامسَ عشرَ، فلا غَروَ أنْ يكونَ (بعد حينٍ) من الملهمينَ وهو يبلغُ سنَّ الرشدِ الإبداعيّ، ليكونَ من الرادةِ في صناعةِ الحداثةِ الشعريّةِ، وتطويرِ إيقاعِها الخارجيِّ، وفلسفةِ نصّها المغايرِ للسائدِ.

*****

 لم يعشْ بدرُ سوى ثمانيةٍ وثلاثينَ عاماً، قضى ما يقربُ من عشرِ سنواتٍ منها باحثاً عن معجزةِ الشفاءِ من غيرِ أن يجدَها، لكنّه أنتجَ فيها سبعةً من الدواوين الشعريّةِ، أو سبعاً من المجموعاتِ (على وفق تسمياتِ اليوم) هي:

1. أزهار ذابلة... مطبعةِ الكرنك، 1947م.

2. أساطير، مط الغريّ، النجف الأشرف، 1950م.

3. أنشودة المطر، بيروت، 1961م (وضمّت إليها مطوّلاتهُ: حفار القبور، والمومس العمياء، والأسلحة والأطفال)

4. المعبد الغريق، دار العلم للملايين، بيروت، 1962م.

5. منزل الأقنان، دار العلم للملايين، بيروت، 1964م.

6. شناشيل ابنة الجلبي، دار الطليعة، بيروت، 1964م.

7. إقبال، دار الطليعة، بيروت، 1965م.

 أمّا مجموعاتُهُ الشعريّةُ التي أعدّها بعضُ الأدباءِ، ونُشرت بعدَ رحيلِهِ، فهي أثارُهُ التي لم يشأ نشرها كما نظنُّ، وهي:

• قيثارة الريح (زكي الجابر وآخرون) وزارة الإعلام، بغداد، 1971م.

• أعاصير(عبدالجبّارالعاشور) وزارة الإعلام، بغداد، 1972م.

• فجر السلام(الكتاب العربي) بيروت، 1974م.

   الهدايا(الكتاب العربي) بيروت، 1974م.

*****

 الحداثة موقفٌ فكريُّ، لأنّها تدعو إلى التأسيسِ للإبداعِ تقنيةً، وفكراً، ورؤيةً كونيّةً شاملةً، ومعَ أنّ شعراءَ التحديثِ في العراقِ في مرحلةِ الريادة: بدر شاكر السيّاب، ونازك الملائكة، وبلند الحيدري، وعبد الوهاب البيّاتي كانوا أسرعَ استجابةً من غيرهم لضرورةِ التغييرِ، وإحداثِ الجديدِ، والبحثِ عن شكلٍ شعريٍّ بكرٍ، فإنّ محاولاتهم لم تكنِ الأولى تأريخيّاً، فقد جرت قبل محاولاتهم محاولاتٌ عديدة، لكنّها انطفأت، ولم يُكتبْ لها النجاحُ، باستثناءِ محاولةِ الشاعر الحضرميّ علي أحمد باكثير حين ترجمَ مسرحيّة شكسبير(روميو وجوليت) شعراً، وحين ألّف مسرحيّةِ (إخناتون ونفر تيتي) وصاغَ ذينِكَ الأثرينِ على وفقِ رؤيةٍ جديدةٍ تقومُ على وحدةِ التفعيلةِ لا على وحدةِ البيتِ الشعريِّ، لكنّ أحداً لم يلتفت إليها سوى السيّاب¹.

 أمّا محاولةُ بدرٍ فقد كانت هي الأعلى شأناً، لأنّها اضطلعت بتأسيسِ الشكلِ الشعريّ الجديدِ إيقاعيّاً، فضلاً عمّا كان بعدئذٍ من دورهِ الرياديّ في تقديمِ النصِّ الأنموذجِ.

 ومع أنَّ هذا الشكلَ الإيقاعيَّ الجديدَ قد تمَّ ابتداعُهُ من عروضِ الخليل بن أحمد الفراهيدي(100- 175هـ)، إلا أنّه دلَّ على نباهةٍ عبقريّةٍ في الالتفاتِ أولاً إلى البحورِ الصافيةِ، والإفادةِ من أعاريضها، وأضربها، وأجزاءِ التفعيلةِ فيها تحديداً، لأنَّ الشعرَ الحرَّ، أو التفعيليَّ خلوٌ من الأعاريضِ، فأعاريضُهُ هي ضروبُه، فهو سطريٌّ، وليسَ شطريّاً، وهذا ما أتاحَ للشاعرِ حريّةَ الحركةِ في عددِ تفعيلاتِ السطرِ، فقد يتألّفُ السطرُ الأولُ من أربعِ تفعيلاتٍ، ويكون الثاني من تفعيلتينِ، وأجزاءِ التفعيلةِ، ويكونُ الثالثُ من أربعٍ، ويكونُ الرابعُ كالثالث أو الثاني أو الأوّل، أو يكونُ من ثلاثِ تفعيلاتٍ، وجزءٍ من التفعيلة، كما في قول السيّاب ²:

1- أميّتٌ فيهتفُ المـــسيحْ ²

مفاعلن مفاعلن فعـولْ(فعالْ)

2- من بعدِ أنْ يُزحزحَ الحجرْ

مستفعلن مفاعلن فعو (فَعَلْ)

3- (هلمَّ يا عازرُ) عيناهُ لظىً وريحْ

مفاعلن مفتعلن مفتعلن فعول

4- تحرقُ في أضالعي مضاربَ الغجرْ

مفتعلن مفاعلن مفاعلن فعو

 ولعلّ المتلقيَ النابهَ قد أدركَ براعةَ السيّابِ في صياغتهِ لقصيدةِ (أنشودةِ المطر) حين استخدمَ التفعيلة الصافيةَ، وأجزاءها على نحوٍ مبتَكرٍ:

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحرْ

مستفعلن مفاعلن مستفعلن فعو

أو شُرفتانِ راحَ ينأى عنهما القمرْ

مستفعلن مفاعلن مستفعلن فعو

عيناكِ حينَ تبسمانِ تورقُ الكرومْ

مستفعلن مفاعلن مفاعلن فعولْ

وترقصُ الأضواءُ.. كالأقمارِ في نهرْ

مفاعلن مستفعلن مستفعلن فعو

 ونظنّ كلَّ الظنِّ أنَّ السيّابَ لم يتوصّلْ إلى هذهِ الصياغةِ في استخدامِ أجزاء التفعيلةِ في ضروبِ أشطرهِ الشعريّةِ إلا حينَ وقفَ على خاصيّةِ (المتقارِب) في العروضِ الخليلي، فعروضُ هذا الإيقاعِ لا تثبتُ على حال، فقد تكونُ صحيحةً(فعولن)، وقد تكونُ مقبوضةً(فعولُ) بضمِّ اللام، وقد تكونُ محذوفةً(فعو)، والحذفُ عِلّـةٌ، وهي حذف السبب الخفيف برمّتهِ من آخرِ التفعيلةِ، فتصبحُ(فعو) ويمكن نقلُها إلى(فعِلْ) المساويةِ لها بالحركاتِ والسكناتِ.وكانت مطوّلتُهُ المشهورةُ(الأسلحةُ والأطفالُ) أولى تباشيرِ تجربَتهِ في هذهِ الصياغةِ، وهذا مستهلُّها:

عصافيرُ أمْ صبيةٌ تمرَحُ

فعولن فعولن فعولن فعو.... 4

 

عليها سناً من غدٍ يلمحُ ؟

فعولن فعولن فعولن فعو.... 4

 

وأقدامُها العاريةْ

فعولن فعولن فعو.... 3

 

محارٌ يصلصلُ في ساقيةْ

فعولن فعولُ فعولن فعو.... 4

 وقد نظمَ على هذا الإيقاعِ الكثيرَ من القصائدِ³، لكنّه كانَ دقيقاً في قصيدةِ (دَرَمْ) إلى حدِّ أنْ جعلَ المستهلَّ يبدأُ بجزء التفعيلةِ:

درَمْ

فعو

 

بنفسيَ ممّا عراني بَرمْ

فعولن فعولُن فعولن فعو

 

فمدّي ذراعَيكِ ولتحضنيني

فعولن فعولن فعولن فعولن

 

إلى هوّةٍ من ظلامِ العدمْ

فعولن فعولُن فعولن فعو

وما دُمنا بصددِ إنجازاتِ السيّابِ الأولى في تحديثِ الإيقاعِ، فينبغي الوقوفُ على محاولاتهِ في ابتداعِ موسيقى الشعر الحر، لكونها أسبقَ المحاولاتِ من جانبٍ، ولأنّه اتخذَ من أكثر البحورِ المركّبةِ صعوبةً مجالاً لتقديمِ تلكَ المحاولاتِ، مستعيناً بتنوّعِ أعاريضِها، وأضربِها، فنظمَ في البسيط محاولاً تطويعَه للتحديثِ قصيدتَهُ (أفياءُ جيكور) التي قالَ فيها:

نافورةٌ من ظِلالٍ من أزاهيرِ

مستفعِلن فاعلن مستفعلن فعْـلُنْ

 

ومِـن عصافيرِ

مستفعلن فعْـلُنْ

 

جيكورُ جيكورُ يا حقلاً من النورِ

مستفعِلن فاعلن مستفعلن فعْـلُنْ

 

ياجدولاً من فراشاتٍ نُطارِدُها

مستفعِلن فاعلن مستفعلن فعِـلُنْ

 

في الليلِ في عالمِ الأحلامِ والقمرِ

مستفعِلن فاعلن مستفعلن فعِـلُنْ

 

في أوّلِ الصيفِ

مستفعلن فعْـلُنْ

كذلك كان المقطع الرابع من قصيدة (سفر أيّوب) قد نُظِمَ على البسيط:

ياربَّ أيّوبَ قـد أعيا بـهِ الداءُ

مستفعِلن فاعلن مستفعلن فعْـلُنْ

 

في غربةٍ دونما مالٍ ولا سكَنِ

مستفعِلن فاعلن مستفعلن فعِـلُنْ

 

يدعوكَ في الدُّجنِ

مستفعلن فعِـلُنْ

كذلك كان البسيطُ إيقاعاً لقصائد (بور سعيد)، و(يا غربة الروح)، و(رسالة).

كما كانت له محاولاتٌ في تطويعِ الطويلِ لحركةِ الشعرِ الحرِّ، فنظمَ في إيقاعهِ (ها... ها... هوه) التي جاء في مستهلّها:

تنامينَ أنتِ الآنَ والليلُ مقمِرُ

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن

 

أغانيهِ أنسامٌ وراعيهِ مِزهَرُ

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن

 

وفي عالمِ الأحلامِ، من كلِّ دوحةٍ

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن

 

تلقّاكِ مَعْبَــرُ

فعولن مفاعلن

 

وبابٌ غفا بينَ الشجيراتِ أخضرُ

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن

 

 ونظم في الخفيف (ثعلب الموت) محاولاً تطويعه كذلك:

كمْ يُمضُّ الفؤادَ أنْ يُصبِحَ الإنسانُ صيداً لرميةِ الصيّادِ ؟

فاعلاتن مفاعلن فاعلاتن...فاعلاتن مفاعلن فاعلاتن

 

مثلَ أيِّ الظباءِ أيِّ العصافيرِ، ضعيفا

فاعلاتن مفاعلن فاعلاتن فعِلاتُن

 

قابعاً في ارتعادةِ الخوفِ، يختضُّ ارتياعاً لأنَّ ظلاً مخيفا

فاعلاتن مفاعلن فاعلاتن...فاعلاتن مفاعلن فاعلاتن

 

يرتمي ثمَّ يرتمي في اتـئادِ

فاعلاتن مفاعلن فاعلاتن

 

إلا أنَّ أجرأَ محاولاتِ السيّابِ، وأكثرها تعقيداً كانت في(جيكور أمّي) التي مزجَ فيها بين الخفيفِ، والرملِ، والرجز:

تلكَ أمّي وإنْ أجئها كسيحا

فاعلاتن مفاعلن فاعلاتن= خفيف

 

لاثماً ازهارَها والماءَ فيها والترابا

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن=رمل

 

ونافضاً، بمقلتي، أعشاشَها والغابا

مفاعلن مفاعلن مستفعلن مفعولن= رجز

وذكرَ في هامشها: (إذا كانَ 3 [فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن]= 3 فاعلاتن 3 مستفعلن3 فاعلاتن مثلاً، فإنَّ الفرضيّةَ التي تقومُ هذه القصيدةُ موسيقيّاً عليها صحيحةٌ... غيرَ أنّي لم ألتزمْ بذلك ألا في الأجزاءِ الأولى من القصيدة)⁽⁴⁾.

 وهذه المحاولاتُ ظلّتْ مقيّدةً إلى النظامِ الهندسيِّ الخليليِّ، فلم يُكتبْ لها النجاحُ، لأنّ الذي يعودُ إلى معظمِ أشطر السيّابِ يستطيعُ أنْ يجعلها من شعرِ الشطرينِ بمجرّدِ إعادةِ توزيعِها شكليّاً، وقد عمدَ في (ها...ها...هوه) التي نظمها على الطويلِ إلى جعلِه مشطوراً في قوله:

على كلِّ شارع ٍ = فعولن مفاعلن

فيحسو ويسكرُ = فعولن مفاعلن

لقد كنتِ شمسَهُ = فعولن مفاعلن

 في حين عمدَ في الخفيفِ إلى تكرارِ المقطعِ الوزنيِّ (فاعلاتن مفاعلن فاعلاتن) في (ثعلبِ الموت)، فأضفى من خلالهِ شيئاً من الحداثةِ. لكنَّ الوزنَ ظلَّ فريسةً للنثريّةِ الواضحةِ، ومثل هذه المحاولة لم تخدمْ الحركةَ إطلاقاً، كما أنَّ محاولةَ السيّابِ الأخيرةَ في (جيكور أمّي) تذكّرنا بمحاولةِ احمد زكي أبي شادي فيما اسماهُ بـ(الشعر الحرّ)، لكونِها تقومُ على مزجِ البحورِ. غيرَ أنَّ محاولةَ السيّابِ اختلفت عنها لكونها فرضيّةً حسابيّةً رياضيّةً معمليّة، وما درى رَحِمَهُ الله أنّ الشعرَ لا يخضعُ للقياسِ في المعاملِ.

*****

  قصائد السيّاب في مرحلةُ الانفصامِ الحزبي التي حدثت في العام 1954م، اختلفت عوالمها عن مرحلةِ الانتماء التي دامت ستة عشرَ عاماً،     لأنَّ الانتماءَ كما رآهُ بعضُ نقادِنا ممّن درسوا تلك الحقبة ِ(كانَ ملاذاً لطائفةٍ غيرِ قليلةٍ من الشبابِ الذي يُعاني من استلاباتٍ عديدةٍ هي دون شكٍّ ذاتُ جذور ٍ اجتماعيّةٍ؛ ولكنَّ المستلبَ لم ينتمِ انطلاقاً من وعيهِ بهذهِ الجذورِ، إنّما لينسى فيها استلابَهُ، ويمنحُ سخطهُ الفرديَّ تبريراً عادلاً بوصفهِ وجهاً من أوجهِ الانفعالِ بقضيّةٍ عادلةٍ .)⁽⁵⁾، إلى جانبِ أنّ الانتماءَ إلى حزبٍ معيّنٍ كما يراهُ المنتمي (يجعلُ المرءَ أكثرَ اتّزاناً، وأوفرَ ثقافة ً، وأشدَّ جرأةً، وأقوى شخصيّةً، وبالتالي فإنّه يحظى باحترامٍ يميّزهُ بين زملائهِ، وبإعجابٍ يطمئنُ عنده حاجته للظهورِ.)⁽⁶⁾

  أمّا الانفصامُ فمعناهُ الخيبة السياسيّة التي تجرّ ُ المرءَ للبحثِ عن بديلٍ لحالةِ الفراغ ِ التي تنشأ بالتأكيدِ بعد التعقيدِ الذي يحدث ُ له عند تخلّيهِ عن أفكارهِ وقناعاتِه القديمةِ.إذ (أنّ على الحزبي المنفصلِ عن حزبهِ أن يبحثَ عن أصدقاءَ جددٍ، واهتماماتٍ جديدة، وأفكار ٍ جديدةٍ، متجاوزاً صداقاتِه، واهتماماتِهِ، وذكرياته، وأمجادَه، وفي ذلكَ الكثيرُ من العذابِ.)⁽⁷⁾، وهذا البديلُ يختلفُ من إنسانٍ لآخرَ، فقد يراهُ بعضُهم في الدينِ، فتكونُ الرحلة ُ إلى عالمِ التصوّفِ ملاذاً وخلاصاً ممّا يُعانيهِ، وقد يجدُهُ بعضُهم في جسدِ المرأةِ فيتحوّلُ إلى عالمِها بشبقٍ جنسيٍّ، ولهاثٍ لا حدودَ له تعويضاً عن حالةِ الفراغِ ِالتي يُعانيها.

  أمّا السيّابُ الإنسانُ والشاعرُ، فقد وجدَهُ في الأسطورةِ، وهو بديلٌ رآهُ تعبيراً عن حالةٍ حضاريّةٍ وقلقٍ نفسيٍّ، وتعويضاً فنيّاً يمكنُ الركونُ إليهِ لأنّه لا يزري بالتجربة أبداً.

  لهذا كانتِ الأسطورةُ في شعرهِ تجسّدُ حالة َ الانكسارات، وما يجتاحُ الضميرَ الأنسانيَّ من تناقضاتٍ وأزماتٍ حضاريّةٍ، وتعويضاً، أو بديلاً عن فكرٍ أيديولوجيٍّ مفقودٍ بالخيبةِ (في بداءةِ استخدامها)، لكنّ تواصله مع عالمها السحريِّ جعله يطمئنُ إلى أنّها خيرُ إنجازٍ فنيٍّ تحقّقُهُ القصيدةُ التفعيليّة ُ توظيفاً في التعبيرِ حين َ يحمّلُها المبدعُ الفعلَ الخلّاقَ.

*****

 ومعَ أنَ قراءةَ رموزِ السيّابِ الموظّفةِ للأساطيرِ تحتاجُ إلى قارئ نابهٍ، فإنَّ القارئ الجادَ يستطيعُ أنْ يلحظَ في هذا التوظيفِ ظواهرَ فنيّةً عديدة، لعلَّ أبرزَها تحويرُهُ لبعضِ الأساطيرِ، وتحميلُها مضامينَ جديديدةً تجلّت في المحاور الآتية:

1. توحيدُ الرموزِ والتوحّد بها.

2. قلب الأسطورة.

3. تعسّرُ الولادة... .

وتلخيصاً للمحورِ الأوّل (توحيد الرموز والتوحّد بها) نقولُ: حينَ يرى السيّابُ أنّ فجيعتَهُ دائمة ُ الحضورِ في حياتِهِ، فإنّه يحاولُ أن يسبِغَ عليها ما يجعلها تشكّلُ عندَ المتلقّي معايشة ً، أو مشاركة ً إنسانيّة ً لمعظمِ ما يُعانيهِ .

  ولمّا كانت رموزُ العذابِ كثيرة ً في تاريخِ ِ الإنسانِ، فإنّ السيّابَ قد جعلَها تعبّرُ عن حالتِهِ الفرديّةِ، بأنْ وحّد بينها وعذابه ِ وآلامهِ وصولاً إلى تعميمِ الحالةِ، وتوسيعِ دائرتِها الإنسانيّةِ، لأنَّ (الفرديَّ وحدهُ الذي يثيرُ اهتمامَ الفنِّ عندما يكونُ فيهِ شيءٌ يُعبّرُ عن العامِ فيعكسُهُ.) ⁽⁸⁾

 ففي قصيدةِ "المسيحُ بعدَ الصلبِ" يوحّدُ السيّابُ بينَ رمزي السيّد المسيح، وتمّوزَ، ثمَّ يتوحّدُ بهما من خلالِ مونولوج درامي ذي وقع ٍ جنائزيٍّ حزينٍ:

بعدَما أنزلوني، سمعتُ الرياحْ

في نُواحٍ طويلٍ تسفّ ُ النخيلْ

والخطى وهيَ تنأى.إذن فالجراح

والصليبُ الذي سمّروني عليهِ طوالَ الأصيلْ

لم تُمتْـني. وأنصتّ ُ: كانَ العويلْ

يعبرُ السهلَ بيني وبين المدينة ْ

مثلَ حبلٍ يشدّ ُ السفينة ْ

وهي َ تهوي إلى القاع ِ كان النواحْ

مثلَ خيطٍ من النورِ بين الصباحْ

في هذه القصيدةِ كانَ السيّابُ يمرّ ُ بأحوالٍ نفسيّةٍ وسياسيّةٍ قاهرة، جعلته يفكّرُ بالموتِ، وعدّهُ خلاصا ً لكلِّ ما فيه من معاناةٍ وقهرٍ، فقد رأى في الموتِ حياةً أخرى ..إنَّ موتَهُ ليس عبثا ً، إنّما هوَ حياةٌ أخرى لأولئكَ الذين سيعيشون من خلالِ فدائهِ وتضحيتِهِ:

مُتّ ُ، كي يُؤكل َ الخبزُ باسمي، لكي يزرعوني مع الموسمِ،

كمْ حياةٍ سأحيا، ففي كلِّ حُفرة ْ

صِرتُ مستقبلاً، صِرتُ بذرةْ

صِرتُ جيلاً من الناسِ في كلِّ قلبٍ دمي

قطرةٌ منه أو بعضُ قطرة ْ

كذلكَ الحالُ في قصيدةِ "رحلَ النهار" إذ يوحِّدُ فيها بينَ رمزي "السندباد البحريّ العربيّ" و " عوليس " الإغريقي، ثمَّ يتوحّدُ بهما. ففي هذهِ القصيدة ِ صوّرَ انتظارَ حبيبتِهِ له بما يُشبِهُ انتظار "بنيلوبي" لـ "عوليسَ" في الأوديسّةِ، ولمّا كان رمزُ السندبادِ يقاربُ من حيثُ الملمحِ ِ الشعريِّ رمزَ "عوليس" فقد آثرَ أن يتبنّاهُ تصريحا ً لكونِهِ عربيّا ً، ولأنّ صورةَ ارتحالهِ الدائمِ ماثلة ٌ أكثرَ من "عوليس" في وجدانِ القارئ العربيّ، غيرَ أنّ المتلقّي الذكيَّ لا يجدُ في رمزِ "السندبادِ" ما يمنعُ من عدِّهِ "عوليسا ً"، لأنّ جوَّ القصيدةِ يُعبّرُ عن ذلكَ بوضوح ٍ:

رحلَ النهارْ

ها إنّه انطفأتْ ذبالتُهُ على أفقٍ توهّجَ دونَ نارْ

وجلستِ تنتظرينَ عودةَ سندبادَ من السِّفارْ

والبحرُ يصرُخُ من ورائكِ بالعواصفِ والرعودْ

هوَ لن يعودْ

أوَ ما علمتِ بأنّهُ أسرتْهُ آلهة ُ البحارْ

في قلعةٍ سوداءَ، في جُزُرٍ من الدمِ والمحارْ

هوَ لن يعودْ،

رحلَ النهارْ

فلترحلي..هوَ لن يعودْ

 فالسندبادُ العربيّ ُ لم تكن له زوجةٌ معيّنةٌ تنتظرهُ كما كانت "بنيلوبي" تنتظرُ "عوليسَ"، ولأنَّ آلهة َالبحارِ ترتبط ُ بمغامراتِ "عوليسَ"، وبجوِّ أسطورتِهِ تحديدا ًبخلافِ رحلاتِ السندبادِ .

*****

 ومن الظواهرِ الفنيّةِ الأخرى الحريّةِ بالإشارةِ، والإشادةِ التي تولّدت من توظيفهِ للأساطيرِ، الاهتمامُ بتكوينِ مبنى المدخلِ وصورتهِ السينميّةِ المتحرّكةِ، وصولاً إلى تقديمِ النصِّ الأنموذجِ، وقد تحقّقَ ذلك في بضعةِ قصائدَ، كانَ أوضحُها ما قدّمَهُ في قصيدتي (المعبدِ الغريقِ)التي كُتبت في 17/ من شباط العام 1962م، و(إرَمُ ذاتُ العماد) التي كُتبت في 21/ 2/ 1963م، أي بعد عامٍ كاملٍ من نجاحِ تجربتهِ الأولى في هذا الشأن.

 ونعني بـ (مبنى المدخل) التقنية المناسبة للدخولِ إلى موضوعِ القصيدة، أو فلسفةِ النصِّ، وجعلِ المتلقّي يعيشُ مناخَ الرؤيةِ المرتبطةِ بفضائي المكانِ والزمانِ بأبعادِهما التصويريّةِ المتحرّكةِ انشداداً لا يخلو من انبهارٍ. ومثلُ هذا المبنى يهيئُ للمتلقّي ما تهيؤه السينما من متعةٍ يهدفُ إلى تحقيقِها صانعُ الدراما، فيتابعُ حركاتِ الحيواتِ، ويشمُّ رائحةِ المكانِ، ويدركُ زمنَ الحدثِ قبلَ أنْ يدخلَ إلى بؤرةِ التوتّرِ التي يسعى الشاعرُ إلى إدخالهِ فيها . ولعلّها من أغنى المنجزاتِ الجماليّةِ التي استعارَها الشعرُ من فنِّ القصّةِ .

 ففي (المعبدِ الغريقِ) يرتفعُ السيّابُ بالدلالةِ الأسطوريّةِ إلى مستوى فنّيٍّ تقنيٍّ لم يستطع أن يتجاوزهُ إلا في (إرم ذات العِماد) التي سنشيرُ إليها لاحقاً، إذ يستلهمُ السيّابُ من خبرٍ بسيطٍ معنى أسطوريّاً ذا دلالةٍ معاصرةٍ، وهذا الخبرُ هو عن معبدٍ بوذيٍّ في (الملايو) غرِقَ في بحيرةِ (شيني) بسببِ انفجارٍ بركانيٍّ، وفي المعبدِ الغريقِ كنوزٌ تحرسُها تماسيحُ، ووحشٌ لهُ عينٌ واحدةٌ. وعلى الرغمِ من مرورِ ألفِ سنةٍ على غرقِهِ، فإنّ الكنوزَ ما زالت في قرارةِ هذهِ البحيرةِ، غيرَ أنّ السيّابَ يجعلُ خبرَ غرقِ المعبدِ يُروى على لسانِ شيخٍ جاحظَ العينينِ يعبُّ الخمرَ في حانةٍ غربيّةٍ:

خيولُ الريحِ تصْهَلُ، والمرافئُ يلمسُ الغربُ

صواريَها بشمسً من دمٍ، ونوافذُ الحانةْ

تراقصُ من وراءِ خَصاصِها سُرُجٌ، وجمّعَ نفْسَهُ الشَّرْبُ

بخيطٍ من خيوطِ الخوفِ مشدوداً إلى قنّينةٍ، ويمدُّ آذانهْ

إلى المتلاطمِ الهدّارِ عندَ نوافذِ الحانةْ

وحدّثَ ـ وهوَ يهمُسُ جاحِظَ العينينِ، مرتعدا

يعِبُّ الخمرَ ـ شيخٌ عن دجىً ضافٍ وأدغالِ

تلامحَ وسطَها قمرُ البحيرةِ يلثمُ العمَدَا

يمسُّ البابَ من جنباتِ ذاكَ المعبدِ الخالي

هنالِكَ قبلَ ألفٍ، حينَ مجَّ لظاهُ من سَقَرِ

فمٌ يتفتّحُ البركانُ عنه فتنفضُ الحمّى

قرارةَ كلِّ ما في الوادِ من حَجَرٍ على حجَرِ

تفجّرَ باللظى رَحِمُ البحيرةِ ينثرُ الأسماكَ والدمَ، مُرْغياً سُمّا

وقرَّ عليهِ كلكلُ معبدٍ عصفت بهِ الحُمّى...

 ومن خلالِ هذا السردِ التصويري يُدركُ المتلقّي أنّ بطلَ القصيدةِ كانَ من ضمن الشَّرْبِ ممّن استمعوا إلى حديثِ الشيخِ الذي روى لهم خبرَ غرقِ المعبدِ، لكنه لم يكنْ بمفردِه، إنّما كان معه عوليس (بطل أوديسّة هوميروس في حرب طروادة)، وبطلُ القصيدةِ هذا هو قناعٌ ارتداهُ السيّابُ، فتحدّثَ من ورائهِ عن همومهِ الخاصّةِ، وماكان يُحسُّ بهِ من معاناةٍ حيويّةٍ، فيلمّحُ السيّابُ إلى أنَّ هناكَ ألفَ كنزٍ من كنوزِ العالمِ الغرقى التي باستطاعتِها أن (تُشبعَ ألفَ طفلٍ جائعٍ، وتداوي آلافاً من المرضى، وتنقذَ الفَ شعبٍ من يدِ جلادهِ) لو تسنّى لها أن تعثرَ على المستخرجينَ، لهذا يتولّى بطل القصيدة، وهوالسيّابُ حثَّ عوليسَ على مصاحبتِهِ إلى بحيرةِ شيني حيثُ المعبدُ الغريقُ، ونبذِ فكرةِ العودةِ على الأهلِ، لكونِها لمْ تعُدْ مجديةً، فابنه(تليماك) قد استوى شابّاً، وزوجُهُ(بنيلوبي) قد أدرَكها عطبُ الخريفِ، فأحالَ مبسمَها حطباً، مشيراً إلى أنّهُ شاهدَ في العراقِ صراعاتٍ دمويّةً شبيهةً بالتي شاهدَها عوليسُ في طروادةَ، وهذا سببٌ كافٍ لعدمِ العودةِ إلى الأهلِ:

فيا عوليسُ... شابَ فتاكَ مبسمُ زوجِكَ الوهّاجْ

غدا حطباً... ففيمَ تعودُ، تفري نحوَ أهلِكَ أضلعَ الأمواجْ

هلمَّ فماءُ شيني في انتظارِكَ يحبِسُ الأنفاسْ

هلمَّ فانّ وحشاً فيه يحْلُمُ فيكَ دونَ الناسْ

و يخشى أن تفجّرَ عينَهُ الحمراءَ بالظلمِ

و أن كنوزَه ُالعذراءَ تسألُ عن شراعِكَ خافقَ النسمِِ

أما فجعتكَ في طروادةَ الآهاتُ من جرحى

و محتضرينَ؟

يا لَدَمٍ أُريقَ فلطّخَ الجدرانْ.

 أمّا في (إرم ذاتِ العِمادِ) فقد عمدَ السيّابُ إلى استثمار خبرٍ رواهُ لهُ جدّه عن مشاهدةٍ عيانيّةٍ لـ (إرم) التي تقولُ عنها الميثلوجيا الشعبيّة: إن شدادَ بنَ عاد بنى جنّةً في الأرض، لينافسَ بها جنّةَ اللهِ، وحينَ أهلكَ اللهُ قومَ عاد اختفت إرم، وظلت مستورة في طوفانها، ولايراها إنسان إلا مرة واحدة كلَّ اربعينَ عاماً، وسعيدٌ – كما يقولُ السيّاب- من انفتح له بابُها، فيستلهمُ من هذا الخبرِ رؤيةً معاصرةً يجعلُ معنى(إرم) متّسِعاً لا تحدّهُ سكونيّةِ مكانٍ، ولا تمنعُ من تدفّقهِ أخيلةٌ حالمةٌ، جاعلاً حديثها يردُ على لسانِ جدّهِ بصفتهِ الراويةِ الموضوعيِّ كما كانَ الحالُ في المعبد الغريق:

من خللِ الدخانِ من سيكارةْ

من خللِ الدخانْ

من قدحِ الشاي ِ وقد نشَّرَ وهوَ يلتوي، إزارهْ

ليحجبَ الزمانَ والمكانْ،

حدَّثنا جدُّ أبي فقالَ: (يا صغار)،

مقامراً كنتُ مع الزمانْ

نقوديَ الأسماكُ لا الفضةُ والنُضارْ،

والورقُ الشِّباكُ والوِهارْ.

 وفيها يُحدِّثُـنا جدُّهُ (الراويةُ) أنه حينَ كانَ يصطادُ السّمكَ في خورِ(الرميلةِ) في ذاتِ ليلةٍ خريفيّةٍ، لاحت لهُ نجمةٌ وحيدةٌ، فتتبّعها في المسيرِ حتى قادتهُ إلى جُدارِ قلعةٍ بيضاءَ من حجرٍ، فسارَ حولَ سورِها الطويلِ حتى بلغَ بوّابتها الحديديّةَ الرهيبةَ، فوقفَ عندها طارقاً، واستمرَّ بالطرقِ حتّى كلَّ ساعِدُهُ، فجلسَ عندَ البابِ كسائلٍ ذليلٍ يسمعُ الصدى الذي يلهثُ خلفَ الجدارِ كأنّه العويلُ، وحين أوشكَ الصباحُ على القدومِ نعسَ فنامَ، وحينَ أفاقَ لم يجدْ غيرَ المياهِ التي كانت تشعُّ في الخليجِ، إذ اختفتْ (إرم)، وهنا يلتفتُ الجدُّ إلى أحفادهِ يحدّثُهم بصوتٍ علا نشيجهُ:

(ولن أراها بعدُ، إنَّ عمريَ انقضى

وليس يُرجِعُ الزمانُ ما مضى.

سوفَ أراها فيكمُ، فأنتمُ الأريجْ

بعدَ ذبولِ زهرتي. فإنْ رأى إرَمْ

واحدُكم فليطرقِ البابَ ولا ينمْ

إرَمْ ...

في خاطري من ذكرِها ألمْ

حلمُ صبايَ ضاعَ... آه ضاعَ حينَ تمْ

وعمري انقضى .)

وبهذه النهايةِ يدركُ المتلقّي أنّ (إرَمَ ذاتَ العماد) أضحت مدينةَ السيّاب الفاضلة، أو اليوتوبيا الضائعة (9).

*****

 لم تخرجِ المرأةُ من آفاقِ بدرٍ الشعريّةِ أبداً، وقد ظلّتْ تعيشُ في تلكَ الآفاقِ حتى آخرِ نفسٍ في حياتِهِ . لأنّها ظلّت حافزاً أثيريّاً في شعرهِ، كما كانت أوّل الأمرِ حين دفعتهُ إلى كتابتِهِ وهو صبيٌّ.

 والسيّابُ لا يُفرّقُ بين من أحبّ من النساءِ، كبيراتٍ كنَّ أم صغيراتٍ، غنيّاتٍ أم فقيراتٍ، عربيّاتٍ، أم أجنبيّات، لكونهنَّ عنواناً للخصبِ، والتجدّدِ، والدفء، فهنّ هنَّ، كيفما كنَّ، وبأيّ دين تديّنَ، من هنا وجدناهُ يقعُ في حبِّ زميلةٍ لهُ تكبِرُهُ بسبعِ سنوات، وظلّت في ذاكرتهِ على الرغمِ من رفضها لهُ واختيارِها لمن سواه، وقد ذكرَ في قصيدة (أحبيني) التي خاطبَ بها (لوك نوران)الفرنسيّة من أصل بلجيكي جميعَ من أحبَّ، وأخفقَ في استمالةِ قلوبهنَّ، بما فيهنّ زوجه، وهي قصيدةُ اعترافٍ لم يجرأْ شاعرٌ قبلَهُ أنْ يكشفَ عن إخفاقاتهِ على هذا النحوِ من البوحِ البريءِ الذي يُشبِهُ بوحَ المراهقينَ الحالمينَ، ممّا قد يسبّبُ إحراجاً على صعيدِ ما يجبُ إخفاؤهُ من أسرارِ عن الآخرين (10).

وما من عادتي نكرانُ ماضيَّ الذي كانا،

ولكنْ... كلُّ من أحببتُ قبلَكِ ما أحبّوني

ولا عطفوا عليَّ، عشِقتُ سبعاً كنَّ أحيانا

ترفّ شعورهنَّ عليَّ، تحملني إلى الصينِ

 والسيّابُ لا يتورّعُ عن الإشارةِ اللمّاحةِ الموصّفةِ إلى اللواتي لمْ يستجبنَ لقلبهِ الولهان، ولمْ يبادلنه الأكتواء، كما فعلَ حينَ اشارَ إلى الشاعرة لميعة عباس عمارة، وزيارتها له في جيكور بعد فصلهِ سنة ً من العالية، وكما فعل حين ذكر زوجه، لكنّ رسائلَهُ إلى أصدقائهِ تكفّلت بفضحِ أسمائهنّ، فعن لباب، أو لبيبة التي كانت تكبره سناً قال:

وتلك لأنها في العمر أكبرُ أم لأن الحسنَ أغراها

بأني غيرُ كفءٍ، خلّفتني كلّما شرب الندى وَرَقُ

وفتَّح برعمٌ مَثّلتُها وشممتُ ريّاها؟

وأمسِ رأيتُها في موقفٍ للباص تنتظرُ

فباعدتُ الخطى ونأيتُ عنها، لا أريد القربَ منها

هذه الشمطاءْ

لها الويلاتُ! ثم عرفتُها: أحسبتِ أن الحسن ينتصرُ

على زمنٍ تحطّم سورُ بابلَ منه، والعنقاءْ

رمادٌ منه لا يُذكيه بعثٌ فهو يستعرُ؟

 وعن السيّدة لمعان البكري(ذات الغمَّازتينِ) التي كانت هواه البكر في العالية قالَ:

وتلك كأن في غَمّازتيها يفتح السَّحَرُ

عيونَ الفلِّ واللبلابِ، عافتني إلى قصرٍ وسيّاره،

إلى زوجٍ تَغيّرَ منه حالٌ، فهو في الحاره

فقيرٌ يقرأ الصحفَ القديمةَ عند بابِ الدارِ في استحياءْ،

يُحدّثُها عن الأمسِ الذي ولّى فيأكلُ قلبَها الضَّجَرُ

 أمّا عن الشاعرة لميعة عباس عمارة، فقد غمزَ من قناتها في هذه القصيدة حينَ أشارَ إلى أنّها غدت نزيلة السجنِ التي تبكي فيهِ على إضاعتِها له:

وتلك؟ وتلك شاعرتي التي كانت لي الدنيا وما فيها،

شربتُ الشعرَ من أحداقها ونعستُ في أفياءْ

تُنشّرُها قصائدُها عليّ فكلُّ ماضيها

وكلُّ شبابِها كان انتظاراً لي على شطٍّ يُهوّمُ فوقه القمرُ

وتنعسُ في حِماهُ الطَّيْرُ رشَّ نُعاسَها المطَرُ

.......

تفرّقتِ الدروبُ بنا نسير لغَيْر ما رجعةْ

وغيّبها ظلامُ السجْن تؤنس ليلَها شمعةْ

فتذكرُني وتبكي غيرَ أني لستُ أبكيها

أمّا عن زوجه، فإنّه أيضاً يغمزُ من قناتِها بوضوحٍ لا لبسَ فيه:

وآخرُهنَّ؟ آهٍ زوْجتي، قدَري أكان الداءْ

ليُقعِدني كأني ميِّتٌ سكرانُ، لولاها؟

وها أنا كلُّ من أحببتُ قبلكِ لم يحبّوني

 

أ. د .عبد الرضا عليّ

............................

إحـالات

 (1) يُنظر: عبد الرضا عليّ (أوراق في تلقي النصّ الإبداعي ونقده)، 12، دار الشروق/عمّان، 2007م.

(2) قصيدة (في غابة الظلام)، مجموعة شناشيل ابنة الجلبي.

(3) ينظر على سبيل المثال لا الحصر القصائد الآتية:

• شباك وفيقة 2.

• النبوءة الزائفة.

• صياح البط البرّي.

• لأنّي غريب.

• نداء الموت.

• ربيع الجزائر

• سفر أيّوب.

• دَرَم.

• جيكور والمدينة.

• خلا البيت.

• يقولون تحيا.

• في المستشفى.

• لوي مكنيس، وغرها.

(4) ينظر ديوان السيّاب، مج1: 259.

(5) عبد الجبار عباس (السيّاب) 30.

(6) يوسف الصائغ(الشعر الحر في العراق) 162، مط رمزي، بغداد، 1978م.

(7) نفسه، 163.

(8) م. أوفسيانيكوف، وز. سمير نوفا (موجز تاريخ النظريّات الجماليّة) تعريب:باسم السقا، 446، بيروت، 1975م.

(9) أفدنا كثيراً في دراستنا هذه من كتابنا (الأسطورة في شعر السيّاب) ط!، وزارة الثقافة والفنون، بغداد، 1978م.

(10) ينظر كتابنا: دراسات في الشعر العربي المعاصر، 76.

 

في المثقف اليوم