قضايا

الاخلاق .. الدين، جدل الأسبقية

يتسائل البعض بدهشة واستغراب كيف يمكن ان يكون من اكل السجود جبهته واستوعبت العبادة وقته وادمن ممارسة طقوس وشعائر الدين ان يكون اكثر الناس استخفافا بقيم الاخلاق حيث يستسيغ ممارسة الرذائل كالكذب والظلم والخيانة واكل المال الحرام؟ وهو تساؤل مشروع اذ من المفروض والحال هذه ان يكون ابعد عن كل ذلك القبح الاخلاقي.

في تصوري ان سبب الاستغراب هذا يكمن في الاعتقاد الخاطئ بأسبقية الدين على الاخلاق واعتبارها وليدته وانعكاسا له، هو الذي يخلقها في وجدان الانسان المتدين. وهو أعتقاد واضح البطلان إذ ان الانسان بفطرته وطبيعته سواءا آمن بدين ام لم يؤمن يدرك قبح القبيح كالكذب والظلم، وحسن الحسن كالصدق والعدل – بعيدا عما اشتهر من اختلاف بين الاشاعرة من جهة حيث ذهبوا الى ان الدين هو من يمنح الفعل صفة الحُسْن والقبح، والشيعة والمعتزلة من جهة اخرى حيث خالفوهم الى القول بأن العقل هو من يحكم بحسن الافعال وقبحها- اقول بعيدا عن هذا السجال التاريخي بين الاتجاهين لطالما راينا اشخاصا ومجتمعات بعيدة كل البعد عن الايمان أو الالتزام بدين معين تتحلى بمستوى راق من السمو الاخلاقي والحس الانساني. التحق رسول الله (ص) بحلف الفضول حين دعي له مع انه كان قبل بعثته المباركة ايام الجاهلية وما ذاك الا لانه حلف قائم على  مصفوفة من القيم الاخلاقية كاغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وردع الظالم والدفاع عن الحقوق ونشر قيم الاخوة والتعاون على فعل الخير، ثم ان كلمته ص الخالدة (انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق) تحمل دلالة بينة على ان وجود القيم الاخلاقية سابقة على الاسلام لا ان الاسلام هو من سينشأها وانما ستكتمل به وسيجدد صياغتها ويعيد تموضعاتها. وقد رأينا كيف وقف العالم مبهورا امام ما ابداه الشعب الياباني (البوذي) من تمسكه بمبادئ وقيم انسانية وهو في اوج محنته حين تعرضت بلاده الى تسونامي مدمر عام 2011، وما زالت المجتمعات المتحضرة تجود علينا يوميا بصفحة مضيئة من صفحات الانسانية الراقية، ومشهد من مشاهدها المضيئة.

مَن يجافي الصدق ويتنكر للامانة ويلازم الرذيلة من غير المؤمنين لايرتكب ذلك لانه لم يؤمن بدين ولم يدرك قبح القبيح وحسن الحسن بل لاسباب ربما تكون ذاتية او موضوعية. في ذات الوقت نرى من يتظاهر بالتدين وممارسة شعائر الدين وهو ابعد مايكون عن الاخلاق الفاضلة.

وظيفة الدين إنما هي تحفيز واثارة دوافع الخير والفضيلة، وقمع نوازع الشر والرذيلة في النفوس فهو من جهة يحفز على الفضائل كما في قوله تعالى (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) او يذكر بها ( وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون) ومن جهة اخرى يندد ويتوعد بالعذاب من اعتمرت نفوسهم بالرذائل كقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ).

نعم التنشأة منذ الصغر وغرس قيم الاخلاق في نفس الطفل هي الكفيل بانتاج انسان اخلاقي يستقبح الرذيلة وينزع الى الفعل الاخلاقي، عن الامام علي ع كما في شرح النهج (وحق الولد على الوالد ان يحسن اسمه ويحسن ادبه ويعلمه القران) وفي قول اخر له ع (مانحل والد ولده افضل من ادب حسن).

اخطر ما يترتب عن ربط الاخلاق بالدين واعتبارها وليدته ومن ثم الاعتقاد بالتناسب الطردي بين التزام الشخص الديني والتزامه الاخلاقي كما هو الشائع في اوساط المسلمين هو ان اصبح السياسي الفاسد، والتاجر المحتال والشخص المخادع يكفيه كي يكسب ثقة الناس به ورضاهم عنه وتعاملهم معه ان يتظاهر بالتدين وممارسة شعائر الدين الظاهرية وذلك لادراكه ان من لم تبد عليه مظاهر التدين يقصى ويرفض في مجتمعاتنا فلا يثق به احد وان كان يحمل علما غزيرا ويتصف بالإخلاص لهم، ويمتلك خططا ناجعة لخدمتهم، ولو تحلى باخلاق القديسين. من ذلك نفهم كيف وُلِدت حالة الازدواجية والنفاق في سلوك كثير من مدعي التدين والمتظاهرين به فهم سيؤون تلفعوا رداء الدين وتظاهروا بالالتزام بشعائره بل ربما بالغوا في ذلك لتمرير مآربهم ومصالحهم وليسوا كما يُعتَقَد متدينين سيئين.

 

مضر الحلو.

في المثقف اليوم