قضايا

من يدرس ممارسات البعثية بعد كنعان مكية؟

توجد عدة دراسات قُدمت ومازالت تُقدم عن النازية والستالينية بوصفهما نظماً قد مارست القمع، وربما لم تتوقف تلك الدراسات الى لحظة كتابة هذا الاسطر وهذا ما يُحسب للفكر الغربي، فدراسة الماضي معرفياً يساهم الى حدٍ ما بمنع الوقوع في اخطائه مرة أخرى، لكن في العراق فإن الدراسات التي تتصف بالتحليل العلمي والمعرفي عن البعثية التي اقامت نظاماً مشابه للنظم الشمولية الأخرى مثل النازية والستالينية محدودة جداً، وربما هذا ما يتحمله الباحثون .

إن الكتابة عن البعثية وجرائمها في ظل حكمها يفترض أن تحفز الآخرين للكتابة عنها بعد انهيارها، وذلك لمستجدات الوثائق التي توفرت لاحقاً، إلا إن حتى مؤلف جمهورية الخوف لم يقم باعادة الكتابة، بل إنه قدم دراسة أخرى عن واقع العراق مابعد 2003م- تحديداً في كتاب الفتنة- ذلك الواقع الذي يمكن أن يوصف بنسبة كبيرة بأنه نتيجة لفعل البعثية إذا أُخذت بأنها مسؤولة بجزء ما عن قيم الخراب الظاهرة في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدولة العراقية مابعد 2003م .

يعدّ كنعان مكية احد أبرز من درس ممارسة النظام البعثي في العراق، فقد سعى في دراسته الى الوقوف على ما يؤلف بين العناصر المختلفة لكل تلك الممارسات. وعلى الرغم من سرده لعدة قصص تشير لقسوة النظام، وفي الوقت نفسه تشي بضرورة ارشفة تلك الممارسات لذا فإن الباحث في قراءته لنص جمهورية الخوف انطلق من القول بأن لنص مكية قيمة تستحق التقدير والاحترام من خلال الجهد الكبير المتمثل بأرشفة ما جرى .

ومما اثار دهشة الباحث بأن نص جمهورية الخوف لم يُدرس، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ما كُتب عن المؤلف (معرفياً) الشيء القليل، على الرغم من إن كتاباته قد حققت حضوراً في الاوساط الثقافية العربية وحتى العالمية- بل إن اغلب نصوصه كانت موجهه لمتلق غربي- والحضور لا يعني القبول، إنما الرفض احيانا وهذا ما حصل مع كتابه القسوة والصمت، حين فضح زيف العديد من مثقفي العرب، لكن أن لا يثير ما كتبه مكية الباحثين العراقيين، فهذا موضوع آخر يدعو للاستغراب. ويرجع الباحث ذلك لعدة اسباب، ويلتمس للبعض العذر من عدم دراسته ربما رجع ذلك الى المنطلق الايديولوجي أو قد وقع بعضهم تحت تأثير ادوارد سعيد، ولاسيما إن مكية كان الصوت الآخر المغاير لسعيد فيما يتعلق بالشأن العراقي وهذا ما اثار جدلاً في الاوساط الاكاديمية الاميركية، أو ربما يكون نتيجة لبدانة السرد الذي يحتويه النص، لكن هذه البدانة ضرورية في ارشفة قصص الخوف. وبالتأكيد ليست هذه كل الاسباب، فربما توجد اسباب اخرى يجهلها الباحث  .

لم تكن دراسة كنعان مكية من اجل الوقوف عند وصف ما جرى فحسب، بل هي محاولة للوصول الى المغزى الذي سعى من خلاله نظام البعث حين اعتمد على سياسة الخوف من اجل اعادة تشكيل الانسان العراقي وفق ما يريده البعث. ويمكن القول هناك ضرورة لتقديم دراسات عن العراق ما قبل 2003م، ولاسيما إن لتلك المرحلة حضور وتأثير راهن على العراق بكل مؤسساته .

لقد سعى مكية الى فهم نصوص فلسفية أو ادبية قد افاد منها في دراسته، وهي تلك النصوص الواضحة حين قراءة نص مكية ومن شدة وضوحها ربما قد اختفت عن عين القارئ، وبعض هذه النصوص قد اشار إليها مكية وأخرى لم يشر اليها رغم حضورها اللافت، ولعل ابرز تلك النصوص، هي: اللفياثان لـ هوبز، اسس التوتاليتارية لـ ارندت، معذبو الارض لـ فانون، فضلاً عن مستوطنة العقاب لـ كافكا .

ويمكن القول إن قراءات كنعان مكية للنصوص الفلسفية كانت واضحة، ولاسيما لنص اللفياثان، الذي عمل من خلاله على توظيف رؤية هوبز للخوف السياسي وليس للعقد الاجتماعي في فهم الحالة العراقية، كذلك كان هناك حضور لافت لـ ارندت لمن قرأ نص ارندت اسس التوتاليتارية ويقرأ نص جمهورية الخوف لمكية، فإن القارئ سيلاحظ مدى حضور نص ارندت لدى مكية ولاسيما في مرتكزاتها لفهم النظم الشمولية التي هي القائد والحزب والايديولوجيا، فضلاً عن وجود عامل آخر قد ساهم في ترسيخ البعثية وهو الدولة الريعية وإن لم تشر اليه ارندت وكذلك لم يشر له مكية.  وقد حضرت الذائقة الادبية لدى مكية من خلال مقاربته لرؤية كافكا أو بالاحرى عالم كافكا مع الشأن العراقي وادراكه لابتعاد رؤية فرانز فانون عن فهم العراق، وله الحق في ذلك –أي كنعان مكية-.

ومن الواجب طرح السؤال الآتي: هل تبقى شيء من رأس المال الاجتماعي إن صح التعبير؟ فالعراق في عهد نظام البعث قد عمل على نهاية كل شيء يرتبط بما هو اجتماعي وثقافي واقتصادي، فكل شيء كان يسير وفق سياسة الخوف. ولعل من اعظم التحديات التي واجهها الفرد العراقي هو صموده ومحافظته على انسانيته في ظل ما جرى من سياسة خوف استعملت فيها كل وسائل العنف وادوات الترهيب من أجل تحقيق الغاية التي سعى البعثيون الى تحقيقها .

 

د. قيس ناصر راهي

 

 

في المثقف اليوم