قضايا

الجانب الخفي من الحقيقة في مسألة الكون والحياة

في أعقاب محاضرة لي بعنوان "الكون المرئي محاصر بين فيزياء العلم وميتافيزيقيا الدين" نهض أحد الحضور من المتدينين المتشددين المتشنجين وبادرني بسؤال استفزازي" هل تريدنا أن نصدق هذا الهراء؟ هل تؤمن حقاً بالانفجار العظيم البغ بانغ؟ وماهو دليلك على حدوثه؟" وقبل أن أرد وقف أحد الحضور من العلمانيين الذي لا يقل تشنجاً وتشدداً ورد على السائل" وأنت هل تؤمن الله وما هو دليلك على وجوده؟" وثار لغط ونقاش عشوائي وردود أفعال بين معسكرين من الحضور كاد أن يتحول إلى مواجهات كلامية قد تتطور إلى تشابك بالأيدي. فأخذت الميكروفون وقلت " هل السؤال موجه لي أم للقاعة؟ " صمت الجميع فجأة ورددوا على حياء نعتذر جداً من فضلك وضح لنا هذه المعضلة. قلت:" أولاً لا يصح أن يطرح السؤال بهذه الصيغة لأنه خطأ علمي ومفاهيمي. فالإيمان حالة من الاعتقاد الذاتي غير مرهونة بعوامل ومعطيات خارجية فالمرء يؤمن أو لا يؤمن بغض النظر عما يتوفر لديه من معلومات وحقائق ومعطيات، فأغلب رؤاه موروثة، إلا إذا حرر عقله من قيود المسلمة الإيمانية وفتح عقله للمناقشة والتفكير والتأمل بغية التوصل إلى حقيقة ما، تدعم موقفه بتقبل أو عدم تقبل الحالة الإيمانية. فالمقاربة العلمية لا تفضي إلى موافقة أو عدم موافقة، بين المعطيات المكتسبة والنماذج أو التنبؤات والتوقعات والتكهنات العلمية وبالتالي لا يوجد شيء إسمه " إيمان" في مثل هذه المقاربة العلمية، بل توجد نظريات وعمليات رصد ومشاهدات وتجارب ومواجهات علمية وفكرية ونقاشات وتساؤلات وشكوك وسجلات ومراجعات وطعون واختبارات ومقارنات بين مختلف المعطيات . من هنا كان يجب أن يصاغ السؤال كالتالي: هل تتقبل فكرة أن نموذج البغ بانغ، الانفجار العظيم، هو الذي يتوافق على نحو أفضل مع مجمل المشاهدات ونتائج الرصد المتوفر والموجدة حالياً؟ وسوف يرد الوسط العلمي بغالبيته الساحقة، وأنا منهم بالطبع، بنعم على مثل هذا التساؤل، أو الصيغة التبسيطية المختزلة، لكن ذلك لا يعني أنها إجابة ثابتة ودائمة لا تتزحزح و لا تتغير في حال توفر معطيات جديدة تدحضها، في حين أن الطرح الثيولوجي الثاني يطرح نفسه ممثلاً لحقيقة أزلية أبدية دائمة وثابتة لا تتغير مهما طال الزمن وفي كافة الأزمان والعصور والأماكن. فالعلاقة بين العلم والدين، قد ولدت الكثير من الكتابات والدراسات والأبحاث، وأسالت الكثير من الدماء وأزهقت الكثير من الأرواح، في حين أن هاتين المقاربتين لا يجب أن يتصادما لأنهما يتحركان في حقلين مختلفين من التفكير . فمن الجانب الديني هناك مسألة تتعلق بقيم ترتبط بالسلوك الحياتي واليومي ولها علاقة بالمعنى الذي نود إعطائه للوجود وللعالم ومسيرته . أما في الجانب العلمي فهناك مسائل عقلانية ترتبط بالرؤية لتعقيد العالم وتركيبته على كافة المستويات الزمانية والمكانية مشفعة بتنبؤات نظرية قابل للدحض بالتجربة والاختبار والانجازات التكنولوجية وتبعاتها. فهناك من بين العلماء من هو في آن واحد عالم ومؤمن متدين و لا يجد غضاضة في ذلك، وأنا لست من بين هؤلاء بالطبع، لكني أعرف الكثير منهم ولدي معهم نقاشات مستفيضة بيد أن هناك بعض العقول الظلامية التي تريد خلق الغموض والتنافر بين العلم والدين لغايات مبيتة وفرض قراءة دوغمائية للتساؤلات العلمية وتفسيرها بمقتضى قناعاتهم الثيولوجية فهم يحتقرون ويهينون القدرة الخلاقة عن البشر التي تجلت منذ قرون عديدة من التطور والبحث الدؤوب . وسواء تعلق الأمر ببوزونات هيغز أو الجزيئات والجينات الوراثية والحامض النوي، أو مستقبل النحل أو تكون الصخور والكواكب والنجوم والمجرات والمادة العادية والمادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة أو الداكنة، والموجات الثقالية أو المتطلبات الرياضياتية والتنظيرية لنظرية الاحتمالات الخ...، فماذا يمكن للمقاربة الدينية أن تفعل إزاء كل هذه المواضيع التي لا ناقة لها فيها و لا جمل كما يقول المثل لا توجد مصداقية ما للتأمل والتفكير الديني في هذه المواضيع ؟ ومن جانبه لا يمكن و لا يحق للعلم، وخاصة علم الطبيعة والفيزياء والكوسمولوجيا، أن يحشر أنفه بمسائل أخلاقية وروحانية ويريد معرفة طبيعة الخير والشر ومعنى الحياة والنشاط اليومي البشري وممارسة الطقوس والشعائر الخ..، فهذه الأمور يمكن أن نجد لها مقاربات وأبحاث ومساهمات عند الدين والفلسفة وعلم الأخلاق والثقافة والحقوق وعلم النفس الخ... بعض وسائل التعبير خلقت حالة من الخلط، المتعمد أو غير المقصود، بين الأصل الميتافيزيقي للكون وواقعه العلمي، فلندع كل طرف يتقبل ما لديه من مقاربة بهذا الصدد و لا يؤثر أحدهما على الآخر ففي نهاية المطاف تبقى القضية مسألة شخصية محض. العلم لا يبحث عن لماذا، أي أسباب حدوث الشيء عموماً في حين يبحث في الكيف والطريقة التي تم بها نشوء ذلك الشيء، أما الدين ففي العموم هو الذي يتعاطى مع الكيف، و يهتم بالجانب السببي والغايات.

وقع الدين في تناقض وخلق مفارقة عجيبة، فهو من ناحية يضفي الصفات الإطلاقية على الله الخالق، وفي نفس الوقت يقزمه وينزله إلى مستوى المخلوقات كما ورد في الكثير من النصوص الدينية المأثورة، التوراتية والكنسية والإسلامية. وللخروج من مأزق التجسيم لا بد من مفهوم يتعالى على الفكرة التي تهيمن على تفكير البشر، وكان ذلك المفهوم هو " التسامي" أو " الذات المتعالية". وهي الصفة التي يتحلى بها إله سبينوزا وكذلك التي أطلقتها الأديان السماوية التوحيدية المنزلة، على الله الكلي القدرة، لكنها شوهت صورته من خلال مفاهيم التجسيم والعقاب والثواب والآخرة والحساب والاهتمام بتفاصيل الحياة اليومية للبشر ولكل إنسان على الأرض وفي الفضاء منذ لحظة الولادة إلى مابعد الموت، والتي فرضتها المؤسسات الدينية ورجال الدي، وهذه وظيفة تنقص من تسامي وسمو هذا الإله. لكنها من الناحية العلمية الصرف أو المحضة، صفة أو ماهية كونية تنطبق على الكون الحي المطلق اللامتناهي، الأبدي والأزلي والسرمدي، لأنه يجسد الوجود المطلق لكل ما هو موجود ولا وجود غيره، باعتباره كياناً مكوناً من عدد لا متناهي من الأكوان، التي تشكل بالنسبة له، جسيمات أولية لمكوناته المادية وغير المادية، أو من مواد وماهيات ومكونات نجهلها وليست لدينا أية فكرة عنها، وما كوننا المرئي سوى جسيم أولي، لا متناهي في الصغر، من تلك الجسيمات الأولية الكونية التي تشكل بمجموعها، إلى جانب مكونات أخرى لانعرفها، ماهية الكون المتسامي الحي العاقل والخالد والمطلق، والدائم الحركة والتجدد إلى ما لا نهاية. لقد وصلت حدود معرفنا باللامتناهي في الصغر في كوننا المرئي إلى حد الأوتار والبرانات والكواركات وبعض الجسيمات الأولية ما دون الذرية لكننا لا نعرف لحد الآن ما هو أصغر منها، وقد يكون الأصغر هو ذلك الذي يخترق طول بلانك ويقود إلى أكوان أخرى. في حين تحددت معرفتنا باللامتناهي في الكبر بالكون المرئي الذي نعيش فيه ولا نعرف ماذا يوجد وراءه أو خارجه، أي خارج الأفق الكوني المرئي، سوى فرضيات علمية نظرية والحال إنه لايتعدى كونه أحد الجسيمات الأولية اللامتناهية في الصغر بالنسبة للكون الحي المطلق المتسامي، في إطار تعدد كوني لامتناهي.

منذ أن انصرم القرن العشرين ودخلنا في العصر العلمي والتكنولوجي المتقدم في القرن الواحد والعشرين، تغيرت نظرتنا ومفاهيمنا ورؤيتنا على نحو راديكالي تجاه معضلة أصلنا وسر الحياة ونشأتها وأصل الكون ومصيره. فنحن نمتلك اليوم ملحمة تاريخية تبدأ من اللامتناهي في الصغر، من الجسيمات المادية الأولية والفرادة الكونية إلى الإنسان وذكاءه وما أنتجه لحد الآن من تطور وتقدم في كافة المجالات لا سيما الذكاء الاصطناعي، والسفر إلى الفضاء والوصول إلى المريخ وقبله القمر بل وخرج إلى خارج المنظومة الشمسية وبات قادراً على استكشاف الفضاء واستعمار الكواكب غير المأهولة بالسكان، ولكن في نفس الوقت فإن نفس هؤلاء البشر قادرون على تدمير كوكبهم الأرض حيث تمتد الملحمة الوجودية على مدى أربعة عشر مليار سنة تقريباً. وكل العلوم، الفلك والفيزياء والكونيات والكيمياء والبيولوجيا والأنثروبولوجيا والجيولوجيا والآركيولوجيا أو علم الآثار والحفريات، وعلم الأعصاب والطب والرياضيات والهندسة وغيرها من العلوم، تلتقي وتتعاضد، لتأكيد صدقية وحقيقة هذه الملحمة الوجودية.

كان القدماء، حتى مطلع القرن العشرين، يعتقدون أن الكون ساكن وثابت وأبدي ليس له بداية، ولكن مع ظهور نظرية النسبية الخاصة والعامة لآينشتين، ونظرية الكموم أو الكونتوم، وثبات صحة التوسع الكوني، وترسخ النظرية المعيارية في فيزياء الجسيمات الأولية ونموذج الانفجار العظيم في الفيزياء النظرية وعلم الكونيات، حتى أعيد النظر في المفاهيم البدائية السائدة وقلبت الرؤية ظهراً على عقب في كافة المسلمات التي سادت منذ عهد آرسطو إلى الثلث الأول من القرن العشرين. فلم يعد الكون المرئي خالداً وأبدياً وأزلياً ثابتاً لا يتحرك و لايتغير، رغم أنه حضي بــ "ثابت لامتغيرconstante غلا أنمه سرعان من أطيح بذلك الثابت وبات يتمتع بقية متغير أو غير دائمة impermanente" ويتميز بمتغيرات مستمرة، بتعبير آخر حصل الكون المرئي على تاريخ وسيرة ذاتية تبدأ بمولده وسوف تنتهي بموته أو بمصير ما ينتظره. وعبر هذا التحول والتطور بدا الكون المرئي حيوياً خلاقاً ومتطوراً باستمرار وبلا توقف ويجد بنفسه الحلول التي تتيح له الاستمرار دوماً نحو المزيد من التركيب والتعقيد والديمومة والإتقان والسمو .. ترسخت فكرة أن الكون المرئي بدأ بلحظة عجيبة وفريدة من نوعها، من تفرد أو فرادة كونية، و انفجار عظيم بغ بانغ Big Bang، بالطبع لم يكن انفجاراً بالمعنى الذي نتخيله بل عبارة عن انتفاخ سريع لجوهر أو سيرورة تضاعف حجمها مليارات المليارات المليارات المرات خلال جزء من مليار المليار المليار من الثانية، لذلك اعتقد الكثيرون أنه كان إنفجاراً وتناثراً، أو تمدداً للنقطة الصغيرة المعروفة باسم الفرادة وبدرجة حرارة 1032 وبكثافة وصلت إلى 1096 مرة أكبر من كثافة الماء، وبحجم يقل عن 10-33 من السنتمتر، أصغر بعشرة ملايين مليار المليار من حجم ذرة الهيدروجين، إلى أن وصلت إلى الحجم الحالي للكون المرئي ومازالت تتوسع وتتسارع في توسعها حتى صار نصف قطر الكون المرئي اليوم يقدر بــ 47 مليار سنة ضوئية. وبعد الانفجار بقليل، أصبح الكون مليئاً بـ"النيوترونات" و"البروتونات" و"الإلكترونات"، إلى جانب "البوزيترونات" و"الفوتونات" السابحة في الحساء البلازمي، ومع استمرار الاتساع والتبريد بدأت تتكون الذرات، وأصبح الكون شفافاً ومرئياً بعدما كان معتماً، واستمر تكُّون الذرات المختلفة وتكثُّفها في النجوم والمجرات الكونية. انخفضت درجة حرارة الكون المرئي الوليد إلى -270C° درجة مئوية وتحللت كثافته حتى وصلت إلى متوسط معدل أقل من ذرة هيدروجين في المتر المكعب، أقل بمليار المليار مرة من كثافة الماء، ومن جراء ذلك أنجب الكون المرئي مليارات المليارات من المجرات وفي كل مجرة مئات المليارات من النجوم والكواكب والكويكبات والقمار والغازات الكونية.

في إحدى تلك المجرات التي تؤثث زوايا الكون المرئي هناك مجرة عادية متوسطة الحجم تسمى الطريق اللبني أو درب التبانة la voie lactée، وفي أحد أذرعها في ضواحيها أو في أطرافها توجد نجمة صغيرة عادية مبتذلة تسمى الشمس، وفي أحد كواكب هذه المنظومة الشمسية التي تدور حول الشمس كوكب متوسط الحجم يسمى الأرض، ولد الإنسان من غبار النجوم، ونما وتطور وصار يفكر ويتساءل حول هذا الكون وأصله ومصيره، ومحاولة كشف جماله وأناقته وسحره وهارمونيته، وفي نفس الوقت تعريض كوكبه الذي يعيش فوقه للدمار والفناء.

من فراغ أو خواء يسمى بالعماء الكوني لكنه مليء بالطاقة خلق الكون المرئي الحساء الأولي المكون من الجسيمات الأولية البدئية للمادة، والضوء ومختلف الإشعاعات الكونية. وبعد الدقيقة الثالثة من ولادة الكون المرئي، نجح في تجميع مكونات جسيماته الأولية المادية لخلق الذرات الأولى من غازي الهيدروجين والهليوم، وهي العناصر الكيميائية التي كانت تكون 98% من كتلة النجوم والمجرات الأولية الوليدة، وكانت هناك بكميات شبه متساوية، مادة مضادة تختلف عن المادة العادية بالشحنة فقط، لكنها اندثرت وفنيت جراء تفاعلها مع المادة العادية. وبسبب التوسع والتفاعلات الكمومية أو الكوانتية، تشكلت العناصر الثقيلة الضرورية لخلق المكونات المركبة. ولكي لا يصاب الكون المرئي بالعقم ويتيح الفرصة لنشأة الحياة والذكاء والوعي، عمل على تصنيع النجوم وتفاعلاتها النووية وتجمعاتها المجرية من سدم وحشود وعناقيد مجرية ترتبط كلها بالثقالة أو الجاذبية الكونية وتسير بقوانين الكون الجوهرية الأربعة، وهي الجاذبية، والكهرومغناطيسية، والقوة النووية الشديدة أو القوية، والقوة النووية الضعيفة. ففي كل يوم تموت نجوم وتولد غيرها، ومن موت النجوم تولد الحياة والثقوب السوداء ومن الثقوب السوداء ربما تخلق أكوان أخرى. كما لوحظ مؤخراً بأن المجرات محاطة بهالات ضخمة من المادة السوداء أو المظلمة مجهولة الماهية، ومعها الطاقة السوداء أو المعتمة أو الداكنة. فللنجوم، خاصة ذات الكتلة الهائلة التي تزيد عن كتلة الشمس بملايين المرات، والمعروفة بالسوبرنوفا أو المستعرات الكبرى، يحدث التطور الكوني، وبفضل التفاعل الخيميائي النووي، تصنع العناصر الثقيلة الضرورية للحياة لإنقاذ الكون المرئي من العقم والاندثار. فبعض الكواكب تتمتع بميزات وخصائص وشروط وظروف ملائمة لاحتضان الحياة فوقها ككوكب الأرض لأنها كواكب صلدة وفيها مياه وغلاف جوي ودرجة حرارة معتدلة وأوكسجين وكاربون وتقع على المسافة اللازمة لنشا’ الحياة عن نجمها فلا هي بالباردة ولا بالساخنة جداً، أي كل ما تحتاجه الحياة للنشوء والاستمرار والبقاء. وقبل 4.55 مليار سنة، أي بعد مرور 9.15 مليار سنة من حدث الانفجار العظيم، انهارت كتلة أو غمامة غازية ضخمة في مجرة درب التبانة وأولدت تحت تأثير الجاذبية، شمسنا وملحقاتها التسعة، حتى لو اعتبرنا بلوتون ليس كوكباً بالمعنى الصريح للكلمة، وعلى بعد 26000 سنة ضوئية من مركز المجرة. و نحو 3.8 مليار سنة من عصرنا الحالي، حدثت على الكوكب الثالث انطلاقاً من الشمس، أي الأرض، حادثة عجيبة ومذهلة تتمثل بتحول الجماد إلى مادة حية عندها نشأت الحياة في صورتها البدائية المكونة من خلية واحدة. فمن غبار النجوم غير الحية تجمعت مكونات أولية تفاعلت مع الظروف المحيطة وقادت إلى ولادة خلايا، ومن ثم جزيئات molécules حية تتكاثر بطريقة الانشطار الذاتي وفيها شكل حلزوني ملتف على نفسه من الحامض النووي المسمى ADN، أي الجينات الحاملة للمعلومات الوراثية والتي ساهمت في إحداث عمليات الانقسام والانشطار والتكاثر . وقبل 3.5 مليار سنة نشأت عن ذلك أولى أنواع البكتريا الحية وحيدة الخلية التي تفتقد للنواة وهي الأصل لكافة المخلوقات الحية على وجه الأرض كما تخبرنا نظرية التطور والانتخاب الطبيعي لتشارلس داروين . وبعد ذلك حدثت التطورات والنقلات والتحولات والقفزات التطورية بطريقة الانتخاب الطبيعي وتولدت عنها مختلف الأنواع الحية من نباتات وحيوانات وبشر.

نعود للكون المرئي ونفترض أن لديه هو الآخر حامض نووي كوني أي ADN كوني ابتداءاَ من ولادته، ولكن ماذا كان يوجد قبل ظهوره إلى الوجود؟ يعتقد أن هناك كود أو شفرة سرية رقمية معلوماتية سبقت ظهوره المادي الفعلي لكنها شفرة سرية code secret de l’univers visible ou observable . وهو الموضوع الذي سوف نكرس له فصل كامل في هذا الكتاب. مثلما سنتحدث عن ظواهر وألغاز الكون المرئي الأخرى بالتفصيل عبر فصول الكتاب. فسوف نتناول موضوعات مهمة وجوهرية كالمادة السوداء أو المظلمة والطاقة السوداء أو المعتمة أو الداكنة، والفراغ أو الخواء الكوني، والثقوب السوداء والثقوب الدودية والكون الهولوغرامي وأسرار الميكانيك الكمومي أو الكوانتي، والنسبية العامة والنظريات الفيزيائية المتعددة الأخرى خاصة الأوتار الفائقة والنظرية أم M ونظرية كل شيء والنظرية التوحيدية الجامعة والشاملة ونظرية الفوضى، ونظرية تعدد الأكوان وتعدد العوالم، وحقيقة الواقع والوجود، والعدم، والمكان والزمان والزمكان، والتناظر والتماثل الفائق، والحياة خارج الأرض والحضارات الفضائية غير البشرية وغير الأرضية والتكنولوجيا والنانوتكنولوجي والضوء وغيرها من المواضيع التي يزخر بها تاريخ البشر . وإزاء هذا الطرح العلمي يوجد طرح ثيولوجي ــ ديني متزمت ومتشبث بصيغة نصية أضفى عليها القداسة واعتبر أن ما تقوله هو الحقيقة المطلقة ولا حقيقة غيرها والمتمثلة بأطروحة الخلق الرباني المباشر، وهي رؤية خرافية ما ورائية غيبية ميتافيزيقية الأصل والماهيَّة لكنها مريحة للبشر ويسهل تقبلها كمسلمة لا تقبل النقاش أو الجدل ناهيك عن التشكيك والطعن.

"إنَّ "فكرة الله"، الخالِق للكون، تَضْرِب "جذورها المعرفية" عميقاً في "صورة المادة" التي غُرِسَت في أذهاننا، فَلَقَد فَهِمْنا "المادة"، بمعونة تلك الصورة، فَهْماً فيه من "الذاتية"، أو من "الافتقار إلى الموضوعية"، ما حَمَلَنا، ويَحْمِلنا، على الاعتقاد بوجود، وبوجوب وجود، خالِق ميتافيزيقي للكون، وإنْ اختلفنا، دينياً وفلسفياً وعِلْميَّاً، في فَهْم طبيعته، وخواصِّه، وصفاته، وفي طريقة، أو أسلوب، خَلْقِهِ للكون"، كما يقول الباحث جواد البشيتي.

 ويضيف الباحث البشيتي قائلاً "فكرة الخالِق الميتافيزيقي للكون تطوَّرت، تاريخياً، حتى غدا (هذا الخالِق) في كثير من العقائد (الدينية والفلسفية) شبيها بـ "الخالِص" من "الفكر (العقل، الوعي، الشعور، "الروح"). أقول "شبيهاً"؛ لأنَّ فكرة "خالِق الكون"، في الأديان، ظلَّت، على ما بلغته من "تجريد (فكري)"، محتفظةً بشيء من "التجسيم"، وكأنَّ هذا الخالِق لا يُمْكِن فَهْمه وتصوُّره إلاَّ على أنَّه "كائن روحي لَمْ يتحلَّلَ بما يكفي مِمَّا ينتمي إلى عالَم المادة"، فقد ظلَّ شيءٌ من المادة، ومن "الجُسْمانية"، راسِبٌ في قَعْر وأسفل هذا "الفنجان" الممتلئ "روحاً".

وفي الأديان السماوية الثلاثة، بَلَغَت فكرة "خالِق الكون" الدرجة العليا من "التجريد" في الإسلام، وفي الآية القرآنية "فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ والأرض جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنعام أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" على وجه الخصوص، فالله "ليس كمثله شيء". هنا، "الكاف" زائدة؛ لأنَّ الله "لا مِثْلَ له"، فهو لا يُشْبِهُ أيَّ شيء (أيَّ مخلوق أكان عاقلاً أم غير عاقل) وليس من شيء يُشْبِهُ الله. على أنَّ هذا الإفراط القرآني في تجريد فكرة "الخالِق" قد اقْتَرَن بما يُمْكِن أن يفهمه كثير من الناس على أنَّه "شيء من الجُسْمانية"، فالله من صفاته أنَّه "سميعٌ" و"بصيرٌ" و"عليمٌ"..؛ فإذا كان الإنسان "يَسْمَع"، فالله "سميع"، وإذا كان الإنسان "يُبْصِر"، فالله "بصير"، وإذا كان الإنسان "يَعْلَم"، فالله "عليم". وهذه الصفات الإلهية هي جميعا صفات على وزن "فَعيل"، وهو من صِيَغ المبالغة. والتنزيه القرآني لـ "الذات الإلهية"، والذي نراه على وجه الخصوص في نَبْذِ ورَفْض كل ما من شأنه أنْ يُفسَّر ويُفْهَم على أنَّه "شِرْكٌ بالله"، بدا في العبارة القرآنية "فَتَبَارَكَ اللَّه أَحْسَن الْخَالِقِينَ" أقل قوَّةً ووضوحاً؛ لأنَّ "أحْسَن الخالقين" عبارةٌ قد تُفْهَم على أنَّها إقرارٌ من "الواحِد الأحد" بوجود غيره من الخالقين، وإنْ كان هو "أحْسَنَهُم". وعليه، قال مُفَسِّرون إنَّ عيسى ابن مريم كان يَخْلُق، فأخبر الله عن نفسه أنَّه يَخْلُق أحْسَن مِمَّا كان يَخْلُق عيسى. وقال غيرهم إنَّ المعنى هو أنَّ الله "خير الصانعين"، فالبشر "يَصْنَعون (ولا يَخْلُقون)"؛ والله "يَصْنَع" أفْضَل وأحْسَن من البشر جميعا. وكانت العرب تُسمِّي كل صانع خالِقاً. وبدا كذلك في الآية "بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ.."؛ أي كيف يكون له وَلَد ولم تَكُن له صاحبة أو زوجة؟! " كما ورد في نص الباحث الكبير جواد البشيتي المنشور في الحوار المتمدن والذي اقتبسنا منه الكثير من الاقتباسات والاستشهادات في هذه المقدمة

. ورغم تأثر القرآن بالكتب المقدسة التي سبقته وأخذ منها الكثير إلا أنه حاول التميز عنها في وصف الخالق وصفاته وأن يضفي عليه صفة الإطلاق. فالإله إيل من الإيلوهيم أو يهووه هو إله التوراة كما جاء في سفر التكوين.

"ففي التوراة، ظَهَرَ "خالِق الكون" على أنَّه من الصِّغَرِ بمكان، فهو إله بني إسرائيل فحسب، فضَّلَهم على سائر البشر، واتَّخَذَهم شَعْبَاً له، ومنحهم أرضاً ليست لهم، فَلَمْ أرَ إلهاً يَصْغُر بما قال، وبما عمل، كـ "إلههم"، فَهُمْ خلقوه على مثالهم الاجتماعي والتاريخي؛ ثمَّ جاء رَجُلٌ من بني إسرائيل يُدْعى "يسوع المسيح"، فَبَلَغَ به "التجسيد"، و"التجَسيم" و"التَمَثُّل" درجته العليا، فالله، فصيره ثالث ثلاثة هم الأب والإبن وروح القدس،. وهكذا فإن "خَالِقُ الكون" عند المسيحيين انتقلَ ليستقر، على هيئة جنين بشري ذَكَر، في رَحْم امرأة (غير متزوِّجة) هي "مريم العذراء"، فنما هذا الجنين حتى وَلِدَتْهُ "أُمُّه" على هيئة ابن الله؛ وليس من فَرْق في النوع أو الماهيَّة بين الله وابنه. جاء "يسوع المسيح" إلى شعبه، أيْ إلى بني إسرائيل؛ لكنَّه لَمْ يَجئ ليؤكِّد أنَّهم "شعب الله المختار"، وإنَّما ليؤكِّد أنَّ الله ذاته قد "تَهَوَّد"، أي أصبح يهودياً، وإلاَّ ما معنى أن يكون "ابن الله"، الذي ليس من فَرْق في النوع أو الماهيَّة بينه وبين "الله"، "أبيه"، "يهودياً"؟!، كما عبر عن ذلك الباحث جواد البشيتي. يبدو إن إله الأديان التنزيلية الثلاثة خارق القدرة ويسمح لنفسه بخرق قوانين الطبيعة التي سنها بنفسه لتنظيم عمل وحسن سير الكون، ليجترح معجزات على يد أشخاص انتقاهم بصفة أنبياء ورسل يتمتعون بقدرات كبيرة ليس اقلها شق البحر بضربة عصا وإحياء الأموات وشفاء المرضى واستعادة البصر عند العميان، بلمسة يد أو ببصقة فم. ويضيف الباحث البشيتي في وصفه لإله الأديان قائلاً "لقد ظَهَرَ "يسوع المسيح"، حتى في القرآن، على أنَّه يقوم بأعمال هي من اختصاص الله وحده، فهو كاد أن يَخْلُق كما خَلَقَ الله آدم من طين.. "وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ". وقيل في تفسيرها "أَنِّي (أي المسيح) أَخْلُق لَكُمْ مِنْ الطِّين كَهَيْئَةِ الطَّيْر، فَأَنْفُخ فِيهِ، فَيَكُون طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّه. وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَل يُصَوِّر مِنْ الطِّين شَكْل طَيْر، ثُمَّ يَنْفُخ فِيهِ، فَيَطِير عِيَانًا بِإِذْنِ اللَّه الَّذِي جَعَلَ هَذَا مُعْجِزَة لَهُ تَدُل عَلَى أَنَّهُ أَرْسَلَهُ". وهنا، نرى فِعْلَ "النَفْخ" في معناه الحقيقي غير المجازي، فالمسيح كان يقف أمام الناس، يَصْنَع من "الطين (الحقيقي لا المجازي)" كائناً على هيئة طير، ثمَّ يَنْفُخَ فيه نَفْخَاً حقيقيا لا مجازيا، فـ "يطير عياناً". وكان يَفْعَل كل ذلك "بإذن الله"، أي أنَّ الله أكسبه هذه القدرة التي هي له من دون سواه حتى يُقْنِع قومه بأنَّه مُرْسَلٌ من عند الله.

مبدعو ومُطوِّرو فكرة "الخالِق الميتافيزيقي" للكون حاروا في معرفة وتبيان وشرح أوجه العلاقة بين هذا الخالِق وبين "عالَم المادة"، و"كيف" خَلَقَ وأنشأ وأبدع الطبيعة.. وحاروا أكثر في معرفة السبب الذي حَمَلَه على خَلْق الكون، فـ "عَظَمَةُ الخالِق" تَبْهَت إذا ما خَلَق الكون لـ "غاية ما".. لغايةٍ مُعْلَنة أو مُضْمَرَة، حسب تعبير الأستاذ البشيتي. ولكن من هو هذا الخالق وماهو جوهره وحقيقته وماهيته ومم يتكون وأن يتواجد ومنذ متى، وأخيراً لماذا خلق الكون المادي وما فيه، وهل خلق الوجود من مادة سابقة للخلق أم من العدم أم من لاشيء؟هل وجد الخلق بمجرد إرادة إلهية لا أكثر " فقال كن فيكون؟"

يشتمل القرآن على كثيرٍ من الأفكار والتصوُّرات الكونية، فـ "خَلْقُ السَّماوات والأرض وما بينهما" شُرِحَ وفُصِّلَ في كثيرٍ من آياته، التي يُمْكِن أن نتصوَّرها، من ثمَّ، على أنَّها "كوسمولوجيا قرآنية"، وإنْ لَمْ نَعْثُرَ في القرآن على كثيرٍ من المفردات الكوسمولوجيَّة، كمفردات "الكون"، و"الطبيعة"، و"الوجود"، و"الفضاء"، و"العَدَم". وفي سورة "فُصِّلَت"، على وجه الخصوص، نرى من "الآيات الكونية" ما يَصْلُح لاتِّخاذه أساساً أو قاعدة لـ "الكوسمولوجيا القرآنية".

وبَعْدَ قراءة متأنِّية ومختلفة لـ "الآيات الكوسمولوجية (أو الكونية)" في القرآن، أستطيع القول إنَّ خَلْقَ الله لـ "الكون" لَمْ يَكُنْ "خَلْقاً للمادة من العَدَم"، مهما حاوَل "المؤوِّلون العلميون المعاصِرون"، المتأثِّرون بنظرية "الانفجار الكبير" Big Bang وغيرها من النظريات الكوسمولوجيَّة الحديثة، إظْهار وتصوير "الخَلْق القرآني للكون" على أنَّه خَلْقٌ للمادة Matière من العدم Nothingness - Néant.

"إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ". لم يجادل أحد من لامسلمين أو يتمعن ويفكك فحوى هذه الآية قَبْل ظهور ما يسمَّى "التأويل العلمي" للقرآن، أو لبعضٍ من آياته، في "معنى" عبارة "سِتَّة أيَّام". ولَمْ نَقِفَ على أيِّ جِدالٍ في هذا الأمر في عهد النبي على وجه الخصوص، فكلُّ من اعتنق الإسلام كان يَفْهَم "سِتَّة أيَّام" على أنَّها "أيَّامٌ أرضية (دنيوية)". وقد جاء في "تفسير الجلالين": إنَّ رَبّكُمْ اللَّه الذي خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض في سِتَّة أَيَّام من أَيَّام الدُّنْيَا، أَيْ في قَدْرهَا؛ لأنَّه لَمْ يَكُنْ ثَمَّ شَمْس. ولو شَاءَ لَخَلَقَ السَّماوات والأرض في لَمْحَة. و"الأحد"، بحسب "تفسير الجلالين"، كان أوَّلها، أي أوَّل أيَّام الخَلْق السِتَّة، و"الجمعة" كان آخرها.

والله بَعْدَ ذلك، أي بَعْدَ انتهائه من خَلْق السَّماوات والأرض، "اسْتوى على العرش"؛ لكن أين كان الله قبل ذلك، أي قبل أن يشرع يَخْلِق السَّماوات والأرض؟ هذا السؤال ليس من الكُفْر في شيء، فقد سُئِلَ النبي (من مسلمين) السؤال نفسه؛ وقد أجاب عنه.

"وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ".

في "تفسير الجلالين" جاء: كان عرش الله على الماء "قَبْلَ أن يَخْلِق السَّماوات والأرض (في سِتَّة أيَّام)".

وجاء في "تفسير ابن كثير": يُخْبِر الله عَنْ قُدْرَته عَلَى كُلِّ شَيْء، وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض فِي سِتَّة أَيَّام، وَأَنَّ عَرْشه كَانَ عَلَى الْمَاء. وقد قال النبي: اِقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْل الْيَمَن. قَالُوا قَدْ قَبِلْنَا، فَأَخْبِرْنَا عَنْ أَوَّل هَذَا الأمر كَيْف كَانَ؟ قَالَ النبي: كَانَ اللَّه قَبْل كل شَيْء، وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء، وَكَتَبَ في اللَّوْح الْمَحْفُوظ كل شَيْء. وقَالُوا للنبي: جِئْنَاك نَسْأَلك عَنْ أَوَّل هَذَا الأمر، فأجاب قائلاً: كَانَ اللَّه وَلَمْ يَكُنْ شَيْء قَبْله. وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء، وَكَتَبَ في الذِّكْر (اللوح المحفوظ) كل شَيْء، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض. وسُئِلَ النبي: يَا رَسُول اللَّه، أَيْنَ كَانَ رَبّنَا قَبْل أَنْ يَخْلُق خَلْقه؟ فأجاب قائلاً: كَانَ فِي عَمَاءٍ (العَمَاء هو السَّحاب) مَا تَحْته هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ الْعَرْشَ بَعْدَ ذلك (على الماء). وَقَالَ مُجَاهِد ووَهْب بْن مُنَبِّه وَضَمْرَة وَقَتَادَة وَابْن جَرِير: كان عَرْشه عَلَى الْمَاء قَبْل أَنْ يَخْلُق شَيْئًا.. قَبْل أَنْ يَخْلُق السَّمَاوَات والأرض، فَلَمَّا خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض قَسَمَ ذَلِكَ الْمَاء قِسْمَيْنِ فَجَعَلَ نِصْفًا تَحْت الْعَرْش وَهُوَ الْبَحْر الْمَسْجُور (أي البحر الْمَمْلُوء). وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض فِي سِتَّة أَيَّام، وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء، فَكَانَ كَمَا وَصَفَ نَفْسه تَعَالَى، إِذْ لَيْسَ إلاَّ الْمَاء، وَعَلَيْهِ الْعَرْش، وَعَلَى الْعَرْش ذُو الجلال والإكرام وَالْعِزَّة وَالسُّلْطَان وَالْمُلْك وَالْقُدْرَة وَالْحِلْم وَالْعِلْم وَالرَّحْمَة وَالنِّعْمَة الْفَعَّال لِمَا يُرِيد. وسُئِلَ ابن عَبَّاس: عَلَى أَيِّ شَيْء كَانَ الْمَاء؟ قَالَ عَلَى مَتْن الرِّيح. وهذا المقطع الطويل الذي صاغه بذكاء وعمق الباحث جواد البشيتي يجعلنا نراجع النصوص ونحاول سبر تفسيراتها وتأويلاتها المختلفة والمتناقضة أحياناً. فالنبي قال أن عرش الله قبل خلق السموات والأرض كان على الماء، والماء مادة . فهل الماء من خلق الله قبل خلقه للوجود الآخر؟ ومن أية مادة كان يتكون عرشه ولماذا يطفو فوق الماء؟ السؤال لمدعي الإعجاز العلمي للقرآن هو الآتي: هل ما نُسِبَ إلى النبي من أقوال وإجابات، في "التفاسير الثلاثة"، قد جاء من مسلمين افتروا على النبي كذبا؟ إنَّه سؤالٌ ينبغي لهم إجابته قَبْل، ومن أجل، أن يصبح لـ "تأويلهم العلمي" مَنْطِقاً.

عرش الله، قَبْلَ الخَلْق، كان على "الماء"، فهل لهذا "الماء" من معنى غير الذي نَعْرِف؟!

هل هذا الماء غير الماء الذي يتألَّف الجزيء منه من ذرَّتي هيدروجين وذرَّة أوكسجين؟!

عندما سُئِلَ النبي "أَيْنَ كَانَ رَبّنَا قَبْل أَنْ يَخْلُق خَلْقه؟"، أجاب قائلاً: "كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْته هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ الْعَرْشَ بَعْدَ ذلك".

إلى أنْ يقيموا الدليل (ولن يقيموا) على أنَّ هذه الإجابة قد نُسِبَت إلى النبي زوراً وبهتاناً، لا بدَّ لنا من أن نستمسك بهذا "التصوُّر الكوسمولوجي"، فالله، قَبْلَ الخَلْق، كان في عَمَاءٍ، أي في سَحاب. ومِنْ حَوْل هذا السَحاب كان "هواء".. كان من فوقه، ومن تحته، "هواء"؛ ثمَّ قام الله بـ "خَلْق" عرشه.. وقد خَلَقَه على الماء، "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.."؛ وكان "اللوح المحفوظ" أيضاً.

إنَّ الله، وقَبْلَ أن يشرع يَخْلُق السَّماوات والأرض، أو قَبْل أَنْ يَخْلُق خَلْقه، كان في "عَمَاءٍ"، من فوقه ومن تحته، "هواء"؛ وكان "ماءٌ"، وكان "اللوح المحفوظ"؛ وقام الله من ثمَّ بخَلْق عرشه، فكان عرشه على الماء.

كان الله، ولَمْ يَكُن "العرش"؛ وكان، أيضاً، "العَمَاء"، و"الهواء"، و"الماء"، و"اللوح المحفوظ"؛ ثمَّ خَلَقَ الله عرشه، فكان عرشه على الماء، ثمَّ "بدأ الخَلْق"، أي خَلْق السَّماوات والأرض؛ وقد استغرق هذا الخَلْق "سِتَّة أيَّام" أرضية. وليس في القرآن، أو في تلك الأحاديث النبوية، ما يُشير إلى أنَّ الله قد خَلَقَ (قبل خَلْقِهِ السَّماوات والأرض وما بينهما) العَمَاء، والهواء، والماء، واللوح المحفوظ.النبي قال: كَانَ اللَّه قَبْل كل شَيْء، وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء..وقال: كَانَ اللَّه وَلَمْ يَكُنْ شَيْء قَبْله. وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء..

وقَوْلاه "كَانَ اللَّه قَبْل كل شَيْء"، و"كَانَ اللَّه وَلَمْ يَكُنْ شَيْء قَبْله"، لا يتعارضان مع القول القرآني، وقوله، "وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء.."، فـ "الماء الذي عليه كان عرش الله" كان ولَمْ تَكْنْ السَّماوات والأرض وما بينهما؛ فـ "لَيْسَ إلاَّ الْمَاء، وَعَلَيْهِ الْعَرْش، وَعَلَى الْعَرْش ذُو الجلال والإكرام وَالْعِزَّة وَالسُّلْطَان وَالْمُلْك وَالْقُدْرَة وَالْحِلْم وَالْعِلْم وَالرَّحْمَة وَالنِّعْمَة الْفَعَّال لِمَا يُرِيد".

وقد قال مُجَاهِد ووَهْب بْن مُنَبِّه وَضَمْرَة وَقَتَادَة وَابْن جَرِير: كان عَرْشه عَلَى الْمَاء قَبْل أَنْ يَخْلُق شَيْئًا..وجواباً عن سؤال "عَلَى أَيِّ شَيْء كَانَ الْمَاء؟"، قال ابن عبَّاس: "عَلَى مَتْن الرِّيح". أمَّا وهب بن مُنَبِّه فقال: إِنَّ الْعَرْش كَانَ قَبْل أَنْ يَخْلُق اللَّه السَّمَوَات والأرض, ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَة مِنْ صَفَاء الْمَاء, ثُمَّ فَتَحَ الْقَبْضَة فَارْتَفَعَ دُخَان, ثُمَّ قَضَاهُنَّ سَبْع سَمَوَات فِي يَوْمَيْنِ.. ومن هذا الماء، الذي كان "على متن الرِّيح"، والذي كان عليه عرش الله، ومن "الصافي النقي" منه، قبض الله قبضة، ثمَّ فتح القبضة فارتفع "دخان"، أي ظَهَرَ "بخار الماء"؛ ومن هذا "البخار"، أو "الدخان"، خَلَقَ الله، في يومين من أيَّام الخَلْق السِتَّة، سَبْع سماوات. وذاك "الصافي النقي" من الماء هو ما يُفَسِّر "صفاء وشفافية" السماء.

وهذا "البخار"، أو "الدخان"، يمكن ويجب فهمه على أنَّه "السماء الأولى، أو البدائية، أو الهُيُوليَّة" التي "سَبَّعها" الله، أي جَعَلها "سَبْع سماوات".

في "كتاب الله"، أو في "اللوح المحفوظ"، ويوم خَلَقَ الله السَّماوات والأرض، كَتَبَ الله وقرَّر أنَّ "عدد" الشهور عنده 12 شهراً. "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ".

عدد الشهور عند الله 12 شهراً.. وعدد أيَّام الأسبوع عند الله يجب أن يكون 7 أيَّام؛ وهذه الأيَّام السبعة يجب أن تكون السبت، والأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة. ويكفي أنْ نُمْعِن النظر في معاني هذه الآية حتى يتَّضِح لنا ويتأكَّد أنَّ الله قد خَلَقَ السَّماوات والأرض وما بينهما في سِتَّة أيَّام أرضية؛ فهل من "تأويلٍ" لعبارة "في سِتَّة أيَّامٍ" يَصحُّ بَعْدَ ذلك؟!

إنَّ "الخَلْقَ من العَدَم" ليس بالخَلْق الذي يقول به القرآن، فالله كان، وكان عرشه على "الماء"، ولَمْ تَكُن السَّماوات والأرض (وكان أيضاً "العَمَاء"، و"الهواء"، و"الريح"، التي على متنها كان الماء). "أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ".

"السَّماوات" و"الأرض" كَانَتَا "رَتْقًا"، أَيْ كانتا متَّصلتين، مُتلاصقتين، مُلْتَزقتين، مُتَرَاكِمتين، في ابتداء الأمر، أي قَبْل أن يشرع الله يَخْلُق السَّماوات والأرض وما بينهما. ثمَّ "فَتَقَ" الله هذه مِنْ تلك، فَجَعَلَ السَّمَاوات سَبْعًا والأرض سَبْعًا؛ وَفَصَلَ بَيْن السَّمَاء الدُّنْيَا والأرض بِالْهَوَاءِ، فَأَمْطَرَتْ السَّمَاء، وَأَنْبَتَتْ الأرض؛ وَلِهَذَا قَالَ "وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاء كُل شَيْء حَي أفلا يُؤْمِنُونَ".

"الفتق"، لغة، هو "شقُّ" الشيء، أي فصل بعضه عن بعض. قال ابن منظور في "لسان العرب": "الرَّتْقُ هو ضد الفَتْق". وقال ابن سيده: "الرَّتْقُ هو إلحام الفتْقِ وإصلاحه. نقول: "رتقه، يرتقه، رتقا، فارتتق"، أي "التَأَم". ونقول: "فتقه يفتقه فتقا"، أي شقَّه"، فالفتق خلاف الرتق.

وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير ورواية عكرمة، عن ابن عباس، إنَّ المعنى هو: كانتا شيئاً واحداً. كانتا ملتصقتين، ففصل الله بينهما، ورفع السماء إلى حيث هي، وأقرَّ الأرض. وهذا القول يوجب أنَّ خلق الأرض مقدَّم على خلق السماء؛ لأنَّ الله لمَّا فصل بينهما ترك الأرض حيث هي وأصعد الأجزاء السماوية.

وقال ابن عبَّاس: "كانت السَّماوات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، فلمَّا خلق للأرض أهلاً فتق السماء بالمطر، وفتق الأرض بالنبات".

وقال عطية العوفي: "كانت السماء رتقاً لا تمطر فأمطرت، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت فأنبتت".

وقال إسماعيل بن أبي خالد: "كانت السماء واحدة، ففتق منها سبع سماوات، وكانت الأرض واحدة، ففتق منها سبع أرضين".

وقال أبو جعفر: أوْلى الأقوال، في ذلك، بالصواب، قول مَنْ قال إنَّ السَّماوات والأرض كانتا رتقاً مِنَ المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث، والأرض بالنبات، لدلالة قوله "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ..".

وقال كعب: "خلق الله السَّماوات والأرض بعضها على بعض، ثم خلق ريحاً في وسطها، ففتحها بها، وجعل السَّماوات سبعاً والأرضين سبعاً".

الآية، في ضوء كل تلك التفاسير، تفيد معنيين. الأوَّل هو أنَّ السَّماوات والأرض كانتا رتقاً مِنَ المطر والنبات، ففتق الله السماء بالغيث، والأرض بالنبات. والدليل على هذا المعنى قوله "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ". والمعنى الثاني هو أنَّ السماء والأرض كانتا ملتصقتين، ففصل الله بينهما بالهواء، أو الريح، فالسماء رفعها عن الأرض بغير أعمدة (تأكيداً لقدرته) أي جعلها مُقبَّبة على الأرض مثل القُبَّة.

لقد بنى الله السماء، أي رفعها بغير عمد، وجَعَلَهَا سقفاً. فما معنى ذلك؟

معناه، الذي لا يختلف فيه اثنان يحتكمان إلى المنطق، هو أنَّ السماء كانت ملتصقة بالأرض، ففصلها عن الأرض إذ رفعها عنها بغير عمد، فصار بينهما هواء أو ريح.

الآية إنَّما خاطبت عقول الناس الذين أدهشتهم رؤية السماء مرفوعة عن الأرض كسقف لا أعمدة له، فقالت لهم إنَّ السماء كانت، مِنْ قَبْل، ملتصقة بالأرض، فرفعها الله بقدرته الخارقة بغير عمد ترونها. ولَمَّا فصلها ورفعها عن الأرض صار ممكنا أنْ تمطر السماء، وأنْ تنبت الأرض، وأنْ تكون حياة، فمِنَ الماء خلق الله كل الكائنات الحية.

في تلك السورة، نَقِف على جوهر "التصوُّر الكوسمولوجي القرآني"، فقد جاء فيها: "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ". نكتفي بهذا القدر من دراسة ومقاربة الباحث الكبير جواد البشيتي، ونقول هذه هي الرؤية الميثولوجية الميتافيزيقية الماورائية، التي هي أقرب للخرافة منها للتصور العقلي، التي قدمتها الأديان المساوية بصيغ متنوعة لكنها متقاربة ومتماثلة ومتناصة أحياناً، والتي لا علاقة لها بما طرحته العلوم الحديثة، الفيزيائية والكوسمولوجية، عن نشأة الكون .

قارِن الآن بين "التصوُّرين الكوسمولوجيين" في القرآن كما وردا في سورة "فُصِّلَت" وسورة "النازعات": في سورة "فُصِّلَت"، جاء "لقد خَلَقَ الله (للبشر) ما في الأرض جميعا (أي كل ما في الأرض) ثمَّ (أي بَعْدَ ذلك) استوى إلى السماء (أي قَصَدَها وتوجَّه وارتفع إليها، فهي كانت موجودة قبل أن يخلق منها، أو يجعلها، سبع سماوات) فسوَّاها (أي جعلها) سبع سماوات؛ وقد قال "سوَّاهُنَّ" ولم يَقُلْ "سوَّاها"؛ لأنَّ الضمير في "سوَّاهُنَّ" يرجع إلى السماء التي هي في معنى الجمع الآيلة إليه, فصيَّرها "سبع سماوات في يومين". و"سَوَّى"الشيءَ معناه: قَوَّمَه وعَدَّلَه وجَعَلَه سَويًّا؛ و"سَوَّى" العمل معناه: أَتَمَّهُ.

أمَّا في سورة "النازعات" فيقول الله إنَّه قد قام بـ "دحو (بَسْط)" الأرض، مُخْرِجاً منها ماءها ومرعاها، بَعْدَ خَلْق السماء. وهذا قد يُثير التساؤل الآتي: كيف يقوم الله بـ "دحو" الأرض مُخْرِجاً منها ماءها ومرعاها "بَعْد" خَلْق السماء، بحسب ما ورد في سورة "النازعات"، وهو الذي خَلَق (للبشر) ما في الأرض جميعا "قَبْل" أن يجعل السماء سبع سماوات، بحسب ما ورد في سورة "فُصِّلَت"؟!

إنَّ الأرض (أي كوكب الأرض) بحسب هذا "التصوُّر الكوسمولوجي القرآني"، الذي تضمَّنته سورة "فُصِّلَت"، هي أوَّل وأقْدَم شيء خلقه الله. وهي أيضا الشيء الذي اسْتَغْرَق خلقه كاملا الجزء الأعظم من مُدَّة الخَلْق (أربعة أيَّام من زمن الخَلْق الذي هو ستَّة أيَّام). ومن هذا لا بدَّ لنا من أن نَسْتَنْتِج أنَّ الأرض أقْدَم وجودا من الشمس ومن مجرَّتنا (مجرَّة درب التبَّانة) وأنَّها (أي الأرض) مهما شاخت تَظل الشمس (مع سائر الأشياء في الكون) أصغر منها عُمْراً، وبما لا يزيد عن بضعة أيَّام. ويكفي أن تَعْتَقِد بأنَّ الأرض هي أوَّل وأقْدَم شيء خلقه الله حتى تَعْتَقِد، أي حتى يجب أن تَعْتَقِد، أيضاً، بأنَّ الأرض والكون بأسره متساويان عُمْراً، وبأنَّ الفَرْق في العُمْر بين الأرض وبين سائر المخلوقات في الكون لا يتعدَّى، ويجب ألاَّ يتعدَّى، بضعة أيَّام فحسب.

والله، في سورة "النازعات"، يَنْسِب ظاهرتي "الليل" و"الضحى" إلى السماء، وليس إلى الأرض، فقد "أغْطَش (أي أظْلَم)" ليلها، أي ليل السماء، وأخْرَج (أي أظْهَر) ضحاها، أيْ ضحى السماء. و"الضحى" لغةً "ضوء الشمس"، أو "ارتفاع النهار وامتداده"، أو "وقت ارتفاع النهار وامتداده وانتصافه". لقد نَسَبَ "الضحى" إلى السماء، وإنْ قال في سورة "الشمس": "وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا".

لقد رأيْنا هنا فَصْلاً لظاهرتي "الليل (الذي أظْلَمَه)" و"الضحى (الذي أظْهَرَه)" عن الأرض؛ ثمَّ فَصْلاً لهما عن "الجبال" التي قام بإرسائها (أي تثبيتها) لئلا تميد بالبشر.

وفي سورة "الأنبياء" ورد "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ". "يُغْشِي اللَّيْل النَّهَار". الله، هنا، يَذْكُر "الليل" و"النهار" مع "الشمس" و"القمر"، فَهُما، أي "الليل" و"النهار"، يدوران حَوْلَ الأرض (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) كما تدور الشمس (في الظاهِر) والقمر. والليل (الدائر حَوْل الأرض) يُغْشي، أي يُغطِّي (بظُلْمَتِهِ) النهار.

"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ..". النهار (أو الليل) يَجِيء، ثُمَّ يَذْهَب وَيَخْلُفهُ الليل (أو النهار) لا يَتَأَخَّر عَنْهُ لَحْظَة؛ كما قال "لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ولا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار وَكُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُونَ". تَارَة يَطُول هذا، وطورا يَقْصُر ذاك. هذا يَأْخُذ مِنْ ذاك، ثُمَّ يَتَعَاوَضَانِ؛ كَمَا قال "يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَار وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْل"، أَيْ يَزِيد مِنْ هذا في ذاك، وَمِنْ ذاك في هذا".

الله، في سورة "النازعات"، أنْجَز، بَعْد خَلْق السماء، ثلاثة أعمال (في الأرض) هي: دحو الأرض، وإخراج الماء والمرعى منها، وتثبيت الجبال فوقها. و"دحو" الأرض ليس من معانيه (اللغوية) أنْ يُخْرِج منها ماءها ومرعاها. معناه فحسب هو "بَسْطها". ليس بعد هذا الشرح الوافي الذي أتحفنا به الباحث جواد البشيتي ما يجعلنا نتقبل كالعميان هذه المقولات الخرافية اللاعقلانية عن الأرض والسماء والماء والشمس والقمر والليل والنهار الخ...ناهيك عن خرافات القيامة والعذاب والعقاب والثواب والجنة والنار والجحيم والشياطين والجن والملائكة؟

بدأ التفكير الخرافي مبكراً منذ صياغة نص التوراة في بابل من قبل حاخامات اليهود المقيمين في بابل بعد السبي البابلي لليهود وتأثرهم بأساطير بلاد الرافدين في سومر وآشور وبابل، وضمنوها ما عرف فيما بعد بسفر التكوين عن عملية الخلق الإلهي للكون والحياة والإنسان والتي تبناها الفكر الكنسي وإن لم يشر إليها في الأناجيل الأربعة الرسمية المعتمدة من قبل الكنيسة الكاثوليكية وزادوا عليها خرافة ولادة المسيح من دون أب بمعجزة إلهية، ثم جاء الإسلام وردد بصياغة أدبية قرآنية خاصة به نفس المقولات والأفكار الأسطورية والخرافية التي وردت في العهدين القديم والجديد.

 

د. جواد بشارة

...........................

مقدمة كتاب الكون المتسامي

 

في المثقف اليوم