قضايا

تيم كرين وتهافت فهم الالحاد للدين

لعل من الموضوعات المهمة التي تشغل الساحة الثقافية بشكل عام، والساحة الفلسفية بشكل خاص هو حضور الدين في المجال الفكري والاجتماعي، فضلاً عن المجالات الاخرى وهذا الحضور يعد من أهم التحديات التي تواجه المجتمعات المعاصرة سواءً أكان الأمر يتعلق بقبوله أم برفضه، ويحاول الفلاسفة والمفكرون من مجالات مختلفة مناقشة ذلك الحضور وبيان موقفهم منه. وخلاصة القول إن مهما حدث من تغييب للدين في المجتمعات الغربية، إلا إنه لا يمكن تغييبه عن اذهان الناس وهذا ما تبين مع العديد من فلاسفة الغرب .

لقد استوقفني النقاش الساخن حول الدين، إذ ما زال بعض الملحدين متمسكين بقناعاتهم، إلا إنها في الوقت نفسه لا تؤثر على قناعات المتدينين، وهذا ما يتبين مع كتاب (معنى الاعتقاد) رؤية إلحادية لـ تيم كرين(*) Tim Craneالذي عُد من افضل كتب الفلسفة لعام 2017م وهو من اصدارات جامعة هارفرد. إن تصور القارئ العام عن هذا الكتاب يوحي بأنه كتاب فلسفي بامتياز، وليس اكتشافاً لحقائق أو معلومات جديدة، إنما تحليل لمجموعة معرفية موجودة، وهذا ما يثير الاهتمام. وفي الوقت نفسه لا يتضمن تقييم للدين أو موقف منه، إنما ينظر في معنى المعتقد الديني ويوفر وسيلة لفهم النقاش الحالي ويقترح أيضاً المواقف الفعالة عملياً التي يفترض أن يتخذها الملحدون من ظاهرة الدين .

يعد كرين من الفلاسفة الملحدين، رغم أنه قد تعلم في بيئة كاثوليكية، وفي كتابه معنى الاعتقاد يقدم رؤية لملحد مضطرب في موقفه من الدين، واستعمل فيه مهارته الفلسفية ورؤيته الناقدة للالحادية الجديدة-ريتشارد دوكينز بشكل خاص-، التي تقوم على الاعتقاد بأن الدين غير عقلاني ويمتلك افكاراً بدائية انتهت مع العلم الحديث، ويشير كرين الى فشل هذا الادعاء، وذلك يتمثل بعدم تغيير موقف المتدينين من الدين. ويقترح لزملائه الملحدين أن يرسموا صورة أكثر دقة للدين، وتعبر عن الدين نفسه الذي هو مسألة هائلة، مترامية الاطراف ومتنوعة وأية محاولة لتعريفها، مهما كانت شاملة ستغفل جوانب عديدة، بل إن معظم محاولات تعريفها مهما كانت، ستستحوذ على شيء وتغفل عن اشياء.

وبالامكان تقديم خلاصة لكتاب (معنى الاعتقاد) من خلال القول بإن المشكلة الاساسية مع معظم الملحدين، هي إن الدين ليس كما يتصوروه، فالملحدون يميلون إلى معاملة الدين بوصفه نوعاً من علم الكونيات البدائية، بالمقابل من تفسير الكون الذي يقدمه العلم، وتوصلوا من خلال ذلك الى القول بأن المتدينين غير عقلانيين وخرافيين ومغرضين، إلا إن هذا الرأي من الدين غير دقيق. ويقدم كرين رؤية بديلة وفق مرتكزين: المرتكز الأول/ الدافع الديني أو الوازع الأخلاقي. المرتكز الثاني/ الانتماء أي إن الدين يتضمن الانتماء إلى جماعة اجتماعية يشاركها في الممارسات التي تعزز روابط الانتماء. وبمجرد فهم هاتين الفكرتين بشكل صحيح، يظهر عدم كفاية فهم الملحدين للدين .

المرتكز الأول: الدافع الديني أو الوازع الأخلاقي:

يعتقد كرين بأن الصورة التي تُقدم عن  الدين من الملحدين غير كافية، إذ إن من اهداف الدين هو الجانب الأخلاقي المستمد مرتكزاته من المبادئ العامة للعيش سوياً في الحياة العامة، سواءً أكانت عن الكتاب المقدس أو في القرآن الكريم أو أي كتاب سماوي آخر، ومفاد تلك المبادئ تقول إذا تم الالتزام بالتشريعات الالهية ستكون النتيجة هي الحياة الابدية مع الله، واذا لم نفعل ستحل علينا اللعنة الابدية والعقاب في الجحيم. وينبغي معرفة التشريعات المفروضة على المتدينين وهكذا يمكن وصف مبادئ مختلفة عن الكنائس المسيحية سواءً اكانت من خلال الكنيسة الكاثوليكية أو من الكنائس الأخرى، أو كما يتلخص في الوصايا العشر (لا تسرق، لا تزني، لا تقتل...الخ). كذلك ينبغي معرفة مبادئ الإسلام المتجسدة في القرآن الكريم وفي الشريعة (الصلاة، الصيام، الزكاة،...الخ) وتتلخص أحيانا في أركان الاسلام الخمسة.

ومن الواجب القول إن الوصايا العشر أو ما تم ذكره من مبادئ الاسلام لا تمثل كل ماجاءت به العقائد المسيحية أو الاسلامية، فهي مجرد مداخل لنظم وعقائد واسعة وممارسات تنظمها التعاليم الدينية، إلا إن هذه  الممارسات أساسية لأي شيء نعترف به بأنه دين، إلا إنها ليست مسائل أخلاقية فحسب، ولا مجرد تعبير واضح عن بعض الاعتبارات الكونية، وهذا هو السبب الذي دفع كرين الى القول بأن صورة الدين من خلال الأخلاق فقط غير كافية، لهذا فهم الدين من خلال الفكرة الثانية ألا وهي الانتماء.

المرتكز الثاني: الانتماء:

يرى كرين إن الملحدين الجدد لم يقدموا إجابة عن سؤال ما الدين؟ فالدين هو الشعور بالاحساس بالانتماء للمجتمع والاشتراك مع الآخرين في الممارسات والشعائر الدينية، لهذا فإن الحوار الذي يحدث بين المتشددين من الملحدين الجدد مع المتدينين، غالباً، ما يكون في مقاصد مختلفة ولا يناقشون الشيء نفسه. ويشير الى إن عدد سكان العالم اليوم ما يقارب سبعة مليارات، ستة مليارات منهم متدينين- أي ينتمون الى دين سواءً أكان سماوياً أم أرضياً-، لذلك حتى لو كان الشخص ملتزماً بالالحاد من الناحية النظرية سيكون عليه ايجاد طريقة للعيش مع المتدينين من الناحية العملية .

الحقيقة التي يقول بها كرين هي أن المتدينين بشكل عام لم يخترعوا الممارسات الدينية نفسها، إنما هم يتشاركونها جنباً إلى جنب مع أشخاص آخرين، مع التأكيد على وجود صلاة خاصة وعبادة خاصة لكل ديانة، ولكن نموذج الممارسة الدينية يُعد تكراراً لفعل اجتماعي تم القيام به فيما مضى عدة مرات، وربما أحدهم يسأل هل بالامكان اجتماع الناس بشكل تلقائي من دون دين، ويؤدون بعض الممارسات والطقوس معاً من تلقاء إنفسهم وبشكل مستقل عن الآخرين؟ هذا الأمر إن توفر في غير الدين فإنه لا يمكن تكراره وبشكل مُقنع، أما لقاءات المتدينين فإنها تتجدد عدة مرات، وهذا هو السبب الرئيس في تحديد الانتماء الى الجماعة، أو الإيمان، أو الطائفة، التي هي عنصر أساس في المعتقدات الدينية.  ويمكن القول إن الانتماء إلى دين يشبه الانتماء إلى أمة وتكمن نقطة هذه الملاحظة التي قدمها كرين في توضيح مدى انتشار ظاهرة تحديد الهوية وطبيعتها في العالم الراهن، ففي تحديد مع من إيمانك أو الى أية كنيسة تنتمي، هو جزء مما يشكل هوية الفرد، ومعنى ذلك أن تنتمي إلى شيء ما، أو إلى مكان ما.

وينتهي كرين الى القول بان المجتمعات البشرية هي مجتمعات دينية،، سواءً أكانت من حيث العادات والممارسات التي يستخدمها المتدينون، أو من حيث ما يتبع من أفكار دينية وتقاليد قد تركت اثراً في أكثر المجتمعات علمانية .

 

د. قيس ناصر راهي

.......................

الهوامش

(*) تيم كرين: يُعد من الملحدين. حالياً، يعمل استاذاً للفلسفة في الجامعة الاوربية المركزية، بعد أن عمل في جامعة لندن لمدة عشرين عاماً. في عام 2005م أسس معهد الفلسفة في جامعة لندن، وكان أول مدير له حتى عام 2008م، وفي عام 2009م انتقل إلى كلية الفلسفة في جامعة كامبريدج، وبقى فيها الى2017م. أما عن كتابه معنى الاعتقاد: الدين من وجهة نظر الحادية:(The Meaning of Belief: Religion from an Atheist’s Point of View) من مؤلفاته الاخرى كتاب (عناصر العقل: مدخل الى فلسفة العقل) وهو من الكتب المهمة في مجاله .

 

 

في المثقف اليوم