قضايا

الخطاب العربي المعاصر وتجديد التراث.. تخليص الحاضر والمستقبل من الماضي

علي رسول الربيعيتتنازع قضية تجديد التراث والفكر الاسلامي اتجاهات مختلفة ينطلق بعضها من توجه أيديولوجي اسلامي يهتم بإعادة أحياء التراث الاسلامي الذي يعتقد ان المسلمين في هذا العصر قد ابتعدوا عنه وأن لاسبيل لنهضتهم وبناء كيانهم الحضاري الا من خلال العودة لتراث السلف. ويري البعض الآخر ان التجديد يتم بإعادة صياغة التراث الاسلامي صياغة عصرية وتكون مقبولة ومتوافقة مع روح العصر. او أن يقوم بمراجعة طروحات المجددين الاسلاميين السابقين ليبني عليها مواقفه. نهتم هنا بالنصوص ذات المنحي الفلسفي لما لها من عمق ورؤية فكرية ومنهجية. فنناقش محاولة تأسيس رؤية لتجديد التراث من قبل حسن حنفي.

تكمن أهمية مراجعة التراث، حسب ما يراه حنفي، في أنه لا يزال قويا حيا في الوجدان الأسلامي ومؤثر في المجتمعات الاسلامية بشكل كبير، وتجديده ضرورة بوصفه جزءا من مكونات الواقع الحاضر لا دفاعاً عن موروث قديم، وأن تحليله هو تحليل لعقليتنا المعاصرة، فأعتبار التراث مكونا رئيساً لعقليتنا المعاصرة يسهل علينا رؤية الحاضر في الماضي، ورؤية الماضي في الحاضر، فالتراث والتجديد يؤسسان معاً علما جديداً هو وصف للحاضر وكانه ماضي يتحرك، ووصف للماضي علي أنه حاضر معاش، والحديث عن التراث يمكًن من رؤية العصر، والقضاء علي المعوقات وإبراز مواطن القوة والأصالة لتأسيس النهضة العربية - الأسلامية المعاصرة، ولما كان التراث يشير إلي الماضي والتجديد يعني الحاضر فإن قضية التراث والتجديد هي قضية التجانس في الزمان وربط الماضي بالحاضر، وإيجاد وحدة التاريخ، فالتراث والتجديد يمثلان عملية اكتشاف التاريخ، كما يكشفان عن قضية (البحث عن الهوية) والاجابة علي سؤال من نحن؟ وكذلك اكتشاف للحاضر بوصفه تراكم للماضي وهنا تبرز الأصالة والمعاصرة بوصفها تعبير عن مفهومين مترابطين في الصلة بين الفكر والواقع، فالأصالة هي الفكر من منظور التاريخ، والمعاصرة هي الواقع من ناحية السلوك، الأولي أساس الفكر والثانية إحساس بالواقع، والاثنان وجهان لمنطق واحد هو منطق التجديد الذي تعرضه الأصاله والمعاصرة على المستوي الأفقي والذي يعرضه الفكر والواقع على المستوي الرأسي، إن الأصالة وعي بالواقع واتحاد به باعتباره مرحلة من مراحل التاريخ وإعادة تقييم القديم، إنها مرادفة للمعاصرة ولكنها معاصرة أعمق جذوراً في التاريخ وأكثر تحققا لوحدة الشخصية الوطنية، أما المعاصرة فهي إعطاء الأولوية للواقع علي الفكر حتي يصبح الفكر هو رؤية هذا الواقع نفسه، ويتم ذلك في قراءتنا للتراث القديم، فإذا كانت الأصالة هي تحويل الفكر إلي واقع تكون المعاصرة هي تحويل الواقع إلي فكر.

التراث والتجديد

يرى حنفي- إن السبيل لقيام حركة فكرية تتخذ موقفا نقدياً من الموروث بهدف السيطرة على الحاضر / المستقبل من خلال تاصيل التراث والخروج بالسؤال النهضوي من إطاره القديم وتعويضه بسؤال جديد يحثناعلى النظر فيما يشد هذه الخارطة بعضها إلى بعض؛ وأولي المهام هي معرفة النمط حضاري الذي نتعامل معه والمرحلة التي نعيش من التاريخ، فلابد من وضع التراث القديم في إطاره التاريخي داخل الوعي الحضاري كمرحلة إبداع (القرون السبعة الأولي)، ثم تتلوها مرحلة تدوين ثانية وبالتالي فإننا على مشارف دورة ثالثة تتمثل في إعادة بناء القديم بضرب من التأويل والقراءة من أجل إبداع جديد.

ان مصير التراث يتطور ويتحول، وينتقل من عصر إلي عصر، يضع فيه كل عصر روحه فيتشكل بفعل روح ذلك العصر، وهذا ما تسمح به أصول الفقه ومصدرها (الوحي)، أنه يتضح في الأصل الرابع من اصول الشريعة (الاجتهاد) الذي جعلته الحركات الإصلاحية مبدأ الحركة في التراث، وأن أهم ما يميز التراث في أصوله وفي نشأته وتطوره هو حركته وعدم ثباته، فالوحي يتغير طبقاً لحاجات الواقع، والتشريع يتبدل وفقاً لتغيًرات العصر، ومصادر الشرع الثالث والرابع أي القياس والإجماع من أجل تحقيق التغيير في كل عصر.

التراث القديم كله استجابات ذهنية لأجيال سابقة، أنه آراء حول صراع قوى عصر مضى، وقد ساد تراث القوة الغالبة في التاريخ والأصول والعقائد التي تعد اختيارات سياسية محضة وليس علما مقدسا، وعليه لابد من إعادة النظر في المحاور الحضارية القديمة وإعادة الاختيار بين البدائل، فقد تم اختيار البدائل القديمة لحسم صراع سياسي لصالح السلطة، ويمكن اليوم الأختيار بينها لصالح الجماهير فكلها على مستوي واحد من الاجتهاد والنظر دون تكفير لإحداها وتصويب للآخر وربما يمكنه أن يجد بدائل جديدة تماماً لم يطرحها القدماء بدافع المسئولية التاريخية وبروح الدقة العلمية مع مزيد من الوعي بالواقع والجرأة في التشريع، حيث الأزمة بادية في تعاملنا مع التراث القديم ومحاولة نقل علومه كلها دونما اختيار بينها أو تطوير لها. فتقوم رؤية تجديد التراث الأسلامي علي تطبيق منهجية الفقه السياسي، فكل ما يتفق مع الصالح العام في التراث القديم يبقي ويثبت وكل ما يخالفه ينقد و يرفض.

التراث يعبر عن الواقع الأول الذي نشأ فيه وهو غير مستقل عن مرحلة التطور التاريخي وروح العصر أنذاك، أنه هو مجموع تحقيقات العقائد والنظريات والحقائق في موقف تاريخي محدد، وهو مجموعة التفاسير التي يعطيها كل جيل بناء على متطلباته، غياب هذه الرؤية احد أسباب ما نقاسي في واقعنا وفكرنا المعاصر، أي نقص في إحساسنا بالتاريخ لغياب البعد الاجتماعي في تراثنا القديم الذي غرق في البعد الرأسي، لقد تم وضع الإنسان في طرف مقابل مع الله دون وضعه في التاريخ، بل إن علم أصول الفقه الذي تضمن بوادر لإمكانية قيام فلسفة في التاريخ من خلال الإجماع والاجتهاد قد أنطوى على نفسه وغلب مع علم أصول الدين وعلوم الحكمة وعلوم التصوف ذلك البعد الرأسي.

وعي بالحداثة

وتأتي إمكانية توحيد العلوم من تبني ما أعطته العلوم التقليدية وما تلبي مطالب العصر فتأكيد الحرية في علم التوحيد، والعقل، والعلم والشوري، كلها أفكار تعبر عن أهم ما أعطى علم التوحيد القديم وما يلبي نداءات العصر. فغاية (التراث والتجديد) - حسب ما يضعها حنفي - هي توحيد العلوم الإسلامية في علم واحد لأن كل علم يحتوي مقارنة أونقد للعلوم الأخرى، وكذلك تحويل العلوم العقلية القديمة إلي علوم إنسانية حديثة، أي تحويل علم أصول الفقه إلي مناهج بحث، والفقه إلي علم اقتصاد وتشريع وسياسة، والتصوف إلي علم النفس وأخلاق، وعلم الحديث إلي علم تاريخي. ومما لابد منه الآن - حسب مايري حنفي - هي خطوة أكثر تقدما تتمثل في تحويل العلوم الإنسانية إلي أيديولوجية وتلك هي الغاية القصوي من (التراث والتجديد) ليستجيب لمتطلبات العصر.

ومن موقع نظرة تقيميية تبدو أفكار حنفي وكأننا أزاء طرح جديد من قبل العقل السلفي عن نفسه وبالتالي أمام بداية جديدة لتأسيس وعي بالحداثة والتجديد في الفكر العربي/ الأسلامي المعاصر لكن يتضح بعد فحص القول على أكثر من وجه، أن القضية لا تتعلق بتحليل القديم ونقده قصد توظيفه في بناء الحاضر، بل القضية في عمقها لديه هي سلفية تؤول إلي نوع من المقايسة والأستبدال بين عدد من البدائل الجاهزة الكامنة في التراث ذاته، وهو طابع انتقائي برغماتي ملازم للخطاب العربي منذ عصر النهضة الذي لا يستطيع أن يفكر في الحداثة إلا عبر منطق المقايسة.

إن نظرة حنفي للبدائل القديمة على أنها صراع سياسي ليس إلا افتراض لثنائية تبسيطية لتطور علائق المثقف بالسلطات في التجربة التاريخية للأمة الأسلامية. لقد قرأ حنفي، من وجهة النظر هذه، التراث الكلامي الإسلامي كله، أيً أن هناك مثقفا وفقيها ثوريا وآخرا من فقهاء السلطان، أنه نوع من التحليل الثقافوي على حساب الكشف عن السياقات التاريخية ـ السياسية المشكلة للدولة والسلطان لتحقيق الضرورات الداخلية ووالمهام الخارجية المتعلقة بمشروع الفتوحات.

وأخيراً ما يمكن قوله أن حنفي بالرغم من دعوته التي تبقى أصولية في مطافها الاخير، وتأكيده على الهوية الإسلامية ونقد (الاستغراب) إلا أن ذلك لا يعني رفض كل ما هو غربي مثل والأفكار الليبرالية، والديمقراطية والنظم البرلمانية، حيث يري إن العقلانية والعلمية والديمقراطية والنزعة الإنسانية والتقدمية كلها اتجاهات إسلامية إذا ما أعيد بناؤها وتوسيعها خارج النطاق الغربي وأرجاعها إلي مصادرها الاسلامية.

لكن هذا القول يثير الاهتمام على أكثر من صعيد، فهو وأن ظل مؤيداً للتواصل المفيد والمُخصب ما بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي ولكنه يحاول إلحاق القيم الخاصة بالغرب بأصول وتجارب إسلامية سابقة وهذا غير مفيد للفكر الاسلامي وغير منتج علي مستوي التاسيس للحداثة.

إن حنفي يعرف جيداً أن هذه المحاجة التي يرغب في اعتمادها كانت قد شاخت وأدركها الوهن، بل إنها قد تم تجاوزها ونُقضت من قبل المفاهيم الغربية التي يستعملها كالعقلانية والعلمنة والتقدم، وإن الفكر الإسلامي المعاصر لم يستطيع أن يميز بين القيم الإيجابية المتوفرة في العقلنة والعلمنة وفي الموقف التقدمي وبين إدخالها في بنية عقائد دوغمائية ومواقف جدالية وايديولوجية، وإذا كان التباس الدلالي لا يزال تعاني منه المفاهيم داخل المفردات الثقافية العربية، فإن ذلك راجع تاريخيا إلي أن الفكر الإسلامي لم يكن قد اشتغل وبلور بما فيه الكفاية مفاهيم كهذه.

 

د. علي رسول الربيعي

 

 

في المثقف اليوم