قضايا

سمات العنف في عالمنا اليوم

علي رسول الربيعيإن يتصف العنف المتفجر اليوم بسمات غير مسبوقة في التاريخ، فهو يتزايد ويتخذ من المراوغة أوجها معقدة ومتعددة ويتخفى ليتفجر بين الناس بطرق غير متوقعة. يعبر العنف عموما عن درجة من درجات الصراع، وغالبا ما يتفجر عندما تصل حرارة الصراع إلى درجة معينة. فيؤدي المستوى العالي من الصراع إلى مستوى عال من العنف في معظم الأحيان. يمتلك العنف ديناميكية خاصة، أي له قوته وفعاليته ومحركاته الذاتية، وبالتالي فإن تحول الصراع إلى عنف يُعد في حد ذاته تغييرا في طور ودور ودرجة الصراع.

قد يُـنظر إلى العنف بوصفه انحرافا عما هو طبيعي أو سوي، لذا قد يظهر متقطعا وعرضيا وكاستثناء للقاعدة، وله القدرة على التحول من شكل إلى آخر. يختلف العنف عن العدوان غير المسبوق باستفزاز يبرره. فبينما يستمد العدوان حافزه من الرغبة في إنزال الأذى بالآخرين كهدف بحد ذاته، فإن للعنف هدفا آخر ألا وهو بعث رسالة للآخرين.

يواجه العالم اليوم عنفا غير مسبوق ويختلف في خصائصه وسماته عن ذلك العنف المتفجر طوال تاريخ الحروب بين الدول والصراعات التقليدية في عدة طرق:

* ليست لهذه الحروب الجديدة بداية محددة أو نهاية معروفة. فهي لا تبدأ بإعلان حرب أو في حملة عسكرية كبيرة وليست لها نهاية رسمية على الطريقة التقليدية للحرب.

* تتصف هذه الحروب بأنها طويلة الأمد وربما تستمر لعقود، وقد تحدث فيها حلقات من القتال الشرس تتخللها أوقات سلم نسبي، وغالبا ما تكون حدود الحرب/ والسلام غير واضحة المعالم في الزمان والمكان.

*هناك اختلاف في أشكال أو أنماط هذه الحروب، فقد تشترك فيها قوات مسلحة نظامية، وجماعات غير نظامية، ومتمردون، ومدنيون، وزعماء حرب محليون. فهي ليست حربا بين قوتين عسكريتين تقليديتين منفصلتين بشكل واضح.

* التدخلات الأجنبية في الحروب المحلية حيث يجند مقاتلون من أصقاع عديدة من العالم، أو تأتي قوات مرتزقة، أو أحتلال من قبل قوات اجنبية، فتشكل هذه التدخلات جزءا أساسيا من ديناميكية هذه الحروب.

* يتم تمويل هذه الحروب بطريقة مختلفة عن الحروب التقليدية بين الدول، إذ تأتي مصادر تمويلها من خلال التجارة الدولية في ما يعرف بالاقتصاد الموازي، مثل تهريب النفط، وتجارة المخدرات، والماس، وغسيل الأموال، وتهريب البشر، والمتاجرة بالأعضاء البشرية، والسطو المسلح وغيرها.

*هناك أثر كبير وحاسم للثورة التكنولوجية في الاتصالات على طبيعة هذه الحروب من خلال دورها في تسهيل التواصل بين شبكة التنظيمات والخلايا وقياداتها؛ إذ يمكن أن يتم اتخاذ القرارات بمرونة وبسرعة عبر التواصل حول العالم باستعمال هذه التكنولوجيا المتقدمة.

* تقع المنظمات والزعامات التي تدعي تمثيل هوية الجماعات( إثنية، دينية، ثقافية) في قلب العوامل المفجرة للعنف.

لا ينتج العنف الطائفي في زمننا هذا من انفجار أو هيجان عفوي أو لاعقلاني من قبل جمهور غاضب أو يشعر بالإحباط والخيبة، ولكن عن عمل متعمد ومدبر من قبل زعامات أو منظمات بقصد زيادة تماسك الجماعة الطوائفية وبناء قاعدة شعبية موالية.

تقوم هذه الزعامات بالتحريض على العنف من أجل خلق وتثبيت الحواجز المادية والنفسية بين الجماعات، ولكسب تأييدها ومن ثم السيطرة عليها والتحكم بها. تؤثر هذه العملية بطريقة فعالة في تشكيل الهويات المتنازعة وفي إثارة نوع عنف أكثر وأقوى. لقد تكاثر استعمال العنف كوسيلة من قبل تلك الزعامات في السنين الأخيرة وتؤكد الشواهد في العراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها على ذلك.

تكشف العلاقة بين العنف والمعنى عن أحد أوجه هذا العنف وسماته المميزة. إن المقصود بالمعنى هنا ما يرتبط بالشخص نفسه، أي الطريقة التي يعي ويتدبر بها تجربته وخبراته، ومساره، وموقفه.

ومن هنا قد تكون حالة الخيبة والإحباط التي يشعر بها الشخص من مسببات العنف، ولكن قد يختزل هذا تفسير العنف بوصفه رد فعل من قبل الشخص الذي يقوم بذلك من أجل الوصول إلى حالة من التوازن النفسي. لذا فإنه من الأهمية الالتفات إلى السياق السياسي والأحوال الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية التي يعيش في وسطها الشخص ويعمل، بالإضافة إلى التحولات التي تخضع لذلك السياق.

لذا لا يمكن اقتصار ديناميكيات العنف على ما يتعلق بمسعى الشخص وقدراته على تحديد موقفه داخل هذا النوع أو ذاك من العلاقات، إذ يندرج العنف داخل استمرارية ثقافية وتربوية أيضا.

يحتاج الشخص إلى تبرير العنف أمام نفسه وأمام الآخرين، وبهذه الحالة لا يكون العنف دون معنى، بل بالعكس قد يبدو مفرط المعنى. ويترافق العنف الجماعي، على الرغم من فقدان المعنى، غالبا مع سرديات متنوعة تملأ أي عجز في المعنى، وتتمثل أبرزها في الوعي الأسطوري أيديولوجيا ودينيا.

يتفجر العنف في المجتمعات ذات البنى التقليدية والداخلة قسرا في سياق العولمة، عندما يجد الفرد أو الجماعة صعوبة في التوفيق في الممارسة بين عناصر المعنى التي تمتلكها والتي هي ليست بعيدة عن الواقع المخترق من قبل العولمة فقط، ولكنها مناقضة له. فيصبح العنف تعبيرا ملموسا عن الوعي الأسطوري، هذا الوعي الذي يسمح باندماج التمثلات والتخيلات والمعاني المتعارضة، والمتضاربة، والمتناقضة معا، وعندها يكون هذا الوعي والعنف وجهين لعملة واحدة، أي أن هذا الوعي يقدم تمثلا خياليا ليوفق بين عناصر لا يمكن أن تندمج في الواقع التاريخي والاجتماعي، وهذا ينطبق تماما على تجليّات الوعي الأيديولوجي كفكرة خاطئة بالمعنى الذي أشار إليه دوركهايم.

يمكن للاعتقاد الديني في توظيفه السياسي أن يتحول إلى عنف غير مقيد من خلال إضفاء معنى على الفعل لا يقتصر على العالم الواقعي كما هو موجود، ولكنه يوحد آمالا وقناعات تتعلق بهذا العالم والعالم الآخر. لهذه الآمال والقناعات دور كبير في تفجر العنف السياسي. فامتلاء المعنى الذي يوفره الاعتقاد الديني يمنح الفاعل قوة وشرعية غير محدودة بوصفها صادرة عن “حكم إلهي”.

علينا إدراك أن ترجيح احتمال تفجر العنف يكون كبيرا عندما تصبح المحافظة على السلم الأهلي والاجتماعي والاقتصادي صعبة في ظل تراجع العلاقات الاجتماعية، والسياسية، والثقافية أمام هيمنة منطق القطيعة والتمزق وفقدان المعنى، وعندما تنهار بنية العلاقات أمام فرط وامتلاء المعاني إلى ما بعد السياسية.

لا يمكن إعتبار العنف منتجا للمجتمع ولا بأيّ شكل من الأشكال، ولكنه تعبير صارخ عن نقص وعجز وانحطاط المجتمع. لا يمكن أن يُنتِج العنف إلا الشر ويبقى السؤال الكبير، ما إذا كان يمكن مقاتلته بالخير أم لا، وكيف نفعل ذلك؟

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

 

 

في المثقف اليوم