قضايا

المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد ورؤيته الاستشرافية.. بمناسبة ذكرى وفاته

بكر السباتينفي ذكرى وفاة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد استضافت الجمعية الفلسفية الأردنية يوم الثلاثاء الموافق 2 أكتوبر 2018 الدكتورة نهى خلف في محاضرة حول "إشكالية الهوية عند إدوارد سعيد". كما أخبرنا عن ذلك في صفحة المفكر مجدي ممدوح.

وتأتي هذه الفعالية بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لرحيل إدوارد سعيد. هذا المستوى الرفيع عهدناه في نشاطات هذه الجمعية التي ترفع شعار التنوير..

لقد لفت انتباهي عنوان هذه المحاضرة القيمة التي ستدخلنا إلى أزمة الهوية لدى هذا المفكر الاستثنائي وانعكاس ذلك على مواقفه السياسية والإنسانية، هذا إذا علمنا أيضاً بأنه أمريكي من أصول فلسطينية، وكان دائما يشعر بأنه الأمريكي الجاني والفلسطيني الضحية..

وفي اعتقادي بأنه من هنا بدأ صراع الهوية لدى المفكر العالمي إدوارد سعيد الذي رحل فيما بيانات فكره ما لبثت تتجلى أكثر في وقتنا الراهن، وقد تحدث سعيد بالتحليل عن دور المستشرقين في التمهيد للاستعمار بكل صوره، وخاض معارك فكرية مع كثيرين وتنبأ بدورهم التخريبي المستقبلي في منطقتنا، وخاصة نتائج أبحاث المستشرقين التي ما لبثنا نعيش نتائجها.

وينبغي على من يريد أن يفهم واقعنا أن يقرأ كتاب إدوارد سعيد الأشهر عن الاستشراق، حيث وصف الاستشراق على أنه سياسة، ومعرفة لها منهج معين لا مكان فيه للعمل الفردي انه عمل جماعي شارك فيها كل مكونات المجتمع الغربي: المفكر والمثقف باسم المناهج العلمية، الراهب والقسيس ورجل الدين والسياسي المحنك. وفي الختام هل يمكن اعتبار الاستشراق حملة صليبية جديدة أو دعوة بابوية تحاول طمس معالم العقيدة الإسلامية؟ أم هي ردة فعل تلتجئ الى القوة لرد الاعتبار لنفسها؟ إنها تعود الى الماضي التاريخي لتؤكد استمرار الأحداث..

ويعتبر الاستشراق في خالصة ما تضمنه كتابه (الاستشراق)، انطلاقاً من أواخر القرن الثامن عشر، مؤسسة مشتركة للتعامل مع الشرق وحكمه، إنه أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، وإذا لم نكتنه الاستشراق بوصفه إنشاء فلن يكون في وسعنا أن نفهم الفرع المنظم تنظيماً عالياً الذي استطاعت الثقافة الغربية عن طريقه أن تتدبر وتنتج الشرق سياسياً، وعسكرياً، وعلمياً… إضافة الى الحدود المعوقة التي فرضها الاستشراق على الفكر والفعل. يأتي الكتاب في هذا الإطار وفيه يتناول إدوارد سعيد موضوع الاستشراق وخلفياته وكيف استطاعت الثقافة الغربية من خلاله ان تتدبر الشرق وحتى أن تنتجه سياسياً واجتماعياً وعسكرياً وعقائدياً وعلمياً وتخيلياً. ومن جهة أخرى يتحدث إدوارد سعيد في كتابه هذا عن الاستشراق الذي احتل مركز السيادة بحيث فرض قيوده على الفكر الشرقي وحتى على من يكتبون عن الشرق. وغاية حديثه هذا هو الوصول الى كيفية حدوث كل ذلك ليكشف عنه وليظهر أن الثقافة الغربية اكتسبت المزيد من القوة والهوية بوضع نفسها موضع التضاد مع الشرق باعتباره ذاتاً بديلة.

كان إدوارد سعيد مركزيا في نشوء دراسات الاستشراق ودراسات ما بعد الاستعمار. ويظل اسمه واعماله أمراً روتينيا بل واجباً في كتابات الطلاب والنقاد في المجال الأكاديمي. سيادة ادوارد سعيد لا تعجب كثيرين ممن رأوا انه بأطروحته حول علاقة الاستعمار بالاستشراق العضوية التي برزت في كتابه الاستشراق (1978) مدعاة للغضب لأنه وضع المسمار الاخير في نقد الاستشراق. ثلاثون عاما مضت على نشر الكتاب ورغم المراجعات الكثيرة الا انه ومنذ صدور هذا العمل التأسيسي لم ينقطع النقاش حول الاستشراق بين مؤيد لأطروحة سعيد ومعارض لها. وقد جرت العديد من المحاولات لمقاربة افكار سعيد الاولى في الاستشراق وتجديدها، وقام سعيد نفسه بتقديم عمل اخر يواصل تقاليد الاستشراق وهو الثقافة والامبريالية (1993). جهود سعيد النقدية كان لها بعد اخر، وهي ان ناقديه ربطوا بين تفكيكه بنية الاستشراق المعرفية ونقدها ومن ثم تحطيمها وبين موقفه من فلسطين ودفاعه عنها في المحافل الدولية وفي امريكا بالذات حيث تعرض للتهديد واطلق عليه اللوبي اليهودي لقب دكتور ارهاب.

حتى أن المتصهين روبرت اروين الباحث والناشر حيث نشر عام 2006 كتاباً عن الاستشراق والمستشرقين واعدائهم بعنوان "شهوة/ شبق للمعرفة: المستشرقون واعداؤهم" وهاجم فيه سعيد هجوماً مراً ووصف الاستشراق لسعيد من ضمن ما وصفه بانه عمل تدجيلي خبيث من الصعب التفريق بين الاخطاء غير المقصودة من تلك المتعمدة، مشيرا الي ان الكتاب لم يكن يستحق كل هذا الاحتفال والاحتفاء. وكان روبين قد وجد فرصة جديدة لمهاجمة سعيد في مقال نشره الملحق الادبي لصحيفة التايمز ووصفه بمزور الحقائق وصاحب اللغة الركيكة، إلا أن ما كان يدهشه هو ان سعيد بعد ثلاثين عاماً من صدور كتابه لا يزال يتسيد النقاش. ويبدو ان هذا ما يثير حساسية اروين. ويفتتح هجومه قائلا "إن كثيراً من الأكاديميين (لم يسم احداً منهم) يرغبون في ان يكون نقاش سعيد في الاستشراق صحيحاً..

وكان من أشد خصوم إدوارد سعيد في حياته ممن خاض معهم معارك فكرية هو المفكر الصهيوني البريطاني برنارد لويس (عراب صفقة القرن) الذي قسم العالم الإسلامي وخاصة الأمة العربية، وفق مبدأ التقسيم العرقي والطائفي ووضع خرائطه الشهيرة التي توضح ذلك.. إدوارد سعيد الذي يسعى كثيرون لنقده من باب التسلق والوصولية ظل قامة مديدة ترعب الخصوم لنصاعة فكره وبيان محدداته وثراء معرفته ودمجه في سياق أبحاثة بين اللغة التقريرية والسردية المفعمتين بالمنطق التحليلي والمعززتين بالمفاتيح المجردة أحياناً أو المعبقة بأريج الصور الشعرية الموظفة لفهم المعنى مستعيناً هذا المفكر بالموسيقى الكامنة في العمق وراء الشكل.. هذه لغة إنسانية جمع في بوتقتها إدوارد سعيد بين مناهج البحث العلمي المحرد بمحدداته واللغة الأدبية الرفيعة بدلالاتها.. هذا هو إدوارد سعيد الذي بات صاحب المدرسة الفكرية (السعيدية) وبات له اتباع في كل جامعات العالم وخاصة جامعة كولمبيا الي عمل فيها طوال حياته، إنهم السعيديون.. الذي ما لبثوا يدافعون عن نهجة بما يتوفر لديهم من معطيات الواقع التي أثبتت بما لا تدع مجالاً للشك بأن الفكر السعيدي كان يتمتع برؤية استشرافية محيطة وقادرة على التنبؤ والبناء عليها.. 

بكر السباتين

 

 

في المثقف اليوم