قضايا
صفات قانون الشرق الادنى القديم
لقد وجد القانون منذ ان وجد المجتمع الانساني المنظّم. وعلى الرغم من فقدان كم لا يستهان به من نصوصه لكننا نستطيع ان نتأمل ونتساءل حول نوع القانون الذي اعتمده اسلافنا الاوائل. ولم يكن هنالك أي قانون مدوّن حتى ظهور الكتابة. والتي تركت اثار لا تمحى وسجل يستطيع المؤرخين المعاصرين اعادة بناء المؤسسات القديمة التي عاشت في تلك العصور. إذ تم اختراع الكتابة في حدود نهاية الالفية الرابعة قبل الميلاد في الشرق الادنى القديم وبذلك نجد ان هذا حدث وبعده بفترة تمتد الى مئات السنين ظهرت السجلات القانونية الاولى المعترف بها. وبناء على ذلك، يعدّ الشرق الادنى القديم موطن اقدم قانون معروف في العالم حيث انه يعود الى السجلات القانونية الاولية للحضارات القديمة الاخرى فيما عدا الشرق الاقصى المتمثلة في الهند والصين.
ومن ناحية اخرى يمثل الشرق الادنى القديم مهد نظامين قانونيين هما القانون العام والقانون المدني (حسب تصنيف القوانين في الوقت الحاضر). ويعدّ ذلك نواة القانون الحديث بصورة عامة الذي ترك اثاره وكان له الكثير من التأثيرات المرئية من الاثار المقدسة التي بقيت بعد انهيار الحضارات القديمة الا ان اثرها العميق بقي في عقول صنّاع القانون في الغرب والى يومنا هذا. وفي الحقيقة، نجد ان الترابط غير مباشر من خلال الانظمة الكلاسيكية للقانون العبري والاغريقي والروماني كما ان اثر هذه الانظمة في القانون الحديث وتقاليده معروفة جدا ويعتبر ارثا لحضارة قديمة تتضمن القانون الكلاسيكي والذي بدأ يظهر ثانية في الوقت الحاضر. ويمتاز قانون الشرق الادنى القديم في جميع الاحوال بنظام قانوني واحد وهو نتاج مجتمعات عديدة بلغات مختلفة وحضارات مختلفة ومزدهرة في فترة ما واندثرت بعد ذلك وحل محلها حضارات اخرى عبر الاف السنين والتاريخ الذي بين ايدينا يمثل اول محاولة لعرض مسح وتحليل شامل لقانونهم وهو نتاج عمل دؤوب لفريق من الباحثين يبلغ عددهم 22 باحثاً.
يغطي هذا التاريخ منطقة تقع من الناحية الجغرافية فيما يطلق عليها في الوقت الحاضر بالشرق الاوسط وهو موقع يمتد من ايران الى مصر ويتركز في قوس من الاراضي التي تعرف بالهلال الخصيب ويبدا بأول سجلات قانونية من بلاد سومر في القرن الثامن عشر قبل الميلاد وينتهي في حدود نهاية القرن الرابع قبل الميلاد بعد غزو الاسكندر وجعل الشرق الادنى القديم جزء من العالم القانوني الاوسع للفترة الهيروغليفية – ان مثل هذه الاختلافات في كمية ونوعية المصادر يمكن ان تؤدي الى تقسيم دقيق للأنظمة القانونية وكما هي الحال في التاريخ القانوني الكلاسيكي او الحديث فان هذه المهمة ليست بالسهلة ويتناول كل فصل من الفصول معالجة مصادر من منطقة جغرافية امتازت بمصطلحاتها السياسية او الحضارية اكثر من المعاير الشكلية للنظام القانوني السائد مثل النظام العسكري. ويرتكز التقسيم حسب التسلسل الزمني على معاير سياسية او حضارية معروفة لدى المؤرخين او بكل بساطة لتوفر الارشيفات. وان الحاجة الى الاستمرارية والتواصل في المصادر تعني ان تاريخ الاحداث ليس ممكنا حيث ان هنالك العديد من اللقطات او سلسلة من اللقطات مبعثرة بصورة عشوائية في الزمان والمكان يمكن جمعها.
وضمن اطار كل فصل من الفصول تم تقسيم الموضوع الى فصول قانونية تغطي جميع الجوانب الاساسية والتركيبة للنظام القانوني باستثناء القانون الدولي التي تمت معالجته في فصول مستقلة وكذلك آلية العدالة مثل الادارة والمحاكم والقواعد القانونية التي تطبق من قبل هذه المؤسسات لفض المنازعات. وضمن اطار هذه الثوابت، تم تقديم كل القواعد القانونية سواء أكانت حقيقية ام مثالية. اما مسألة التطبيق العملي فقد تمت مناقشتها في هذه المقدمة وكذلك في الفصول اللاحقة.ومن جهة اخرى تم الاخذ بنظر الاعتبار المؤسسات التي لم تعتبر جزء من الانظمة القانونية الحديثة مثل المحاكم الالهية وكذلك الاجراءات الاثباتية العقلية حيث ان هذه الظواهر تعتبر جزء من الية العدالة الاعتيادية في هذه المجتمعات. ومن ناحية اخرى تم استبعاد القانون المقدس وبعبارة اخرى القواعد القانونية التي تعالج الطقوس العبادات والمهرجانات والعلاقات بين البشر والاله ماعدا ما يلقي الضوء على القانون غير المقدس وطالما ان الخارطة السياسية لهذه المنطقة كانت عرضة لتغيرات عديدة عبر السنوات الطويلة فقد اعتمد المؤرخ نظام التسلسل الزمني وذلك بتقسيمها الى مناطق حسب المدن في الامبراطورية الروسية وبلاد الرافدين وسوريا وفلسطين ومصر وان هذا التقسيم تم استعماله هنا لجمع الفصول جغرافيا وتقسيمها الى ثلاثة اقسام بحيث انها تتزامن مع ثلاثة حضارات رئيسة وهي بلاد الرافدين وبلاد الاناضول والشرق الادنى سوريا وفلسطين ومصر، وثم ترتيب الفصول حسب التسلسل الزمني مع ربط المجالات الحضارية الرئيسية في كل من هذه الالفيات الثلاثة. ولا يعتبر التقسيم اصطناعياً بصورة كلياً طالما ان نهاية الالفية الثالثة والالفية الثانية شهدت فتور في تدفق السجلات وتبع ذلك تغيرات حضارية وسياسية كبيرة ومن ناحية اخرى فان نهاية الالفية الثالثة اتسمت بانتقال المملكة القديمة في مصر وذلك في نهاية السومريين كقوة حضارية في بلاد الرافدين. وشهدت نهاية الالفية الثانية ظهور قوى عظيمة هيمنت على المنطقة بما في ذلك التدمير الشامل للامبراطورية الحيثية لكي يحل محلها في الالفية الاولى تعاقب دول كبرى وهي بلاد اشور وبابل وفارس. ومن الناحية الحضارية تعتبر الالفية الاولى شاهدا على الظهور التدريجي للارامية كلغة واضحة وانتشار انظمة الكتابة الجديدة وذلك في الكتابات الابجدية في غرب اسيا وفي مصر.
وبصورة عامة يغطي هذا المسح معظم الانظمة القانونية بالاستناد الى اللغات المختلفة والى الحضارات والانظمة السياسية التي انتشرت عبر فترة زمنية تقدر ب (3) الاف سنة تقريبا ويعكس كل فصل الخبرة الخاصة ومنهج المساهمة الفردية ولكن في الوقت نفسه نامل بان النظام المعياري للتقسيم سوف يمكّن القارئ من اجراء مقارنة للمؤسسة القانونية عبر الانظمة المختلفة والفترات المختلفة.
وعلى ضوء هذا التنوع والحاجة الى التواصل يمكن ان تتساءل فيما اذا كان الشرق الادنى القديم يعتبر منتدى ملائم لهذا النوع من التخفيف الفكري سواء كان ذلك تقسيما فرعيا متجانسا في تاريخ القانون البشري فهل من الممكن الحديث عن قانون الشرق الادنى باي اطار ذا معنى؟
وحسب وجهة نظر المؤلف انه على الرغم من ان فكرته لا يشاطرها كل المؤرخين في الشرق الادنى القديم وحتى المساهمين في هذا وفي هذا الجزء فان الطبيعة المستقلة للانظمة المختلفة تعكس تواصل مهما في المفاهيم القانونية الاساسية عبر الالفيات الثلاثة. ومن دون الرغبة في التركيز والذهاب بعيدا عن النماذج التاريخية الحديثة مثل انتشار القانون الروماني او القانون العام الانكليزي وسوف نناقش ذلك كله وكل انظمة الشرق الادنى القديم التي تعود وبدرجات مختلفة الى الثقافة القانونية العامة والتي تختلف ربما كما هو موجود في الوقت الحاضر وعلى اقل تقدير فانها تشارك علم الوجود القانوني : وهي طريقة النظر الى القانون التي تعكس نظريتهم للعالم وتحدد افق صانع القانون. والمسألة هنا تتعلق بالناحية الاساسية لطبيعة المصادر القانونية القديمة.
وضمن صياغة تاريخ القانون نجد ان مصطلح (المصدر) له معنيين اثنين. ومن الناحية التاريخية يشير المصدر الى السجلات المدونة والتي يستطيع المؤرخ من خلالها الحصول على دليل للقواعد القانونية والمؤسسات القانونية. ومن وجهة النظر القانونية فان المصدر يشير الى المعايير المدونة وغير المدونة والتي منها تستقي المحاكم سلطتها من اجل اتخاذ قراراتها. (ففي القانون الحديث نجد التشريعات والمعاهدات وغيرها). ومن وجهة النظر التاريخية تعد المصداقية هي الاختبار الدقيق لنفاذ المصدر. وهكذا فان من الضرورة بمكان ان نعتبر المصادر في كل وجه من وجهتين النظر المذكورتين وهي السجلات التاريخية والسلطات القانونية.
ورد الكم الهائل من سجلاتنا من بلاد الرافدين على شكل الواح طينية مدونة باللغة المسمارية. ويكمن سبب ذلك في الظروف التي يتم فيها فخر هذه الالواح الطينية وجعلها مادة معمرة ومستديمة وعلى عكس ذلك فان تدمير المدينة بواسطة الحرق سوف يساعد على الاحتفاظ بهذه الالواح الى ان ياتي دور علماء الاثار لينقبوا عنها وقد تم التنقيب عن عشرات الالاف من السجلات القانونية بهذه الصيغة ويتم اكتشاف المزيد منها سنوياً. وهنالك ايضا توزيع على مدار الزمن حيث ان هذه الالواح موجودة خلال فترتين مهمتين وهي الفترة البابلية القديمة(من القرن التاسع عشر الى القرن السادس عشر)
والفترة البابلية الحديثة (من القرن السادس الى القرن الرابع قبل الميلاد)
وفي سوريا وبلاد الاناضول هنالك عدد متزايد من الالواح التي تحتوي على الكتابة المسمارية تم اكتشافها وتعود الى الالفيتين الثانية والثالثة ففي الالفية الاولى تم اعتماد مواد جيدة للكتابة الابجدية وهذا يجعلها تتوقف لكونها مصدر مهم للسجلات. الا ان هنالك بعض التعويض جاء من التورات التي تعتبر مصدرا رئيسا للقانون في سوريا وفلسطين في الالفية الاولى. وعلى كل حال تختلف عن السجلات الاخرى حيث انها مقتبسة من تقليد مخطوطات متواصلة وهنالك مشكلات خاصة تظهر لعدم كونها مصدرا معاصرا خاصة فيما يتعلق بالتسلسل الزمني والتطبيق العملي للقواعد القانونية التي تتضمنها.
اما سجلات مصر فقد جاءت بصورة اساسية على شكل البردي مع اضافات قليلة من الكتابات على النصب التذكارية والمعاير والاضرحة وبسبب الاحداث فان لم يبق الا اعداد قليلة منها.
ان التوزيع الوتري للمصادر يؤدي الى تشوه في السمة العامة لقانون الشرق الادنى القديم. الا ان كل التركيز سوف يكون لا محالة منصباً على بلاد الرافدين بسبب الوفرة الغزيرة للسجلات المتوفرة. حيث ان مصر ليس لها اقل كمية او تعقيدا من ذلك الا ان هناك العديد منها فقدت او انها موجودة في قطع مشوهة بحيث انها تعطي مزيدا من التشوه.
ومن الجدير بالذكر هنالك معياران متعارضان احيانا يمكن استخدامهما لتقديم مصداقية السجلات التاريخية. واولهما هو المعيار الذي يركز على تقديم الدليل المباشر او غير المباشر للمعاير القانونية وان التمييز ليس وقفيا وانما هي مسالة نسبية تعتمد على اصل الوثيقة (العامة او الخاصة) وفيما اذا كانت توضح معياراً حقيقياً او مبداً او مجرد انها تشير الى احدهما. اما المعيار الثاني فهو الادراك الذاتي الذي بواسطته تم تقديم القانون كمصدر. فان المصادر القديمة (وحتى الحديثة منها) ليست بالضرورة حيادية في تقديمها للمعاير القانونية وبصورة متناقضة فان التوضيح المباشر للقانوني يمكن ان يكون تشويها بسبب المصلحة الذاتية حيث ان قيمة الحكم للقانون هو هدف المصدر. واخيرا تم تقديم الانواع المختلفة للمصادر القانونية التي عثر عليها في الشرق الادنى القديم بصورة مباشرة.
الدكتورة هبة حازم النعيمي
كلية الأثار - جامعة الموصل – العراق
........................
المصدر:
Raymond Westbrook : The Character of Ancient Near Eastern Law، A History of Ancient Near Eastern Law، Brill Leiden-Boston، 2003
مقدمة كتاب ريموند وستبروك