قضايا

الجنس بين المقدّس والمدّنس

عصمت نصارتعددت الآراء حول ماهية الجنس، فالفلاسفة الروحيون يعتقدون بأن الجنس فعل دنس، في حين يؤكد علماء الأنثروبولوجيا أن الأعضاء التناسلية والممارسة الجنسية كانت عند الشعوب البدائية وفي الثقافات التليدة ينظر لها على أنها جزء أصيل من العبادات المقدسة والطقوس الدينية، فيحدثنا فيليب كامبي عن الجنس بوصفه الصورة الأولى للمقدس فيذكر أن الشعوب البدائية منذ أكثر من 36 ألف، عام كانت تعبد المرأة وتقدس عضوها التناسلي وتنقشه وترسمه على جدران المعابد، وذلك باعتباره أصل الحياة وسر وجود البشر والصورة الإنسانية التي ترد إليها كل الموجودات بما في ذلك الذكر الأول (آدم) الذي خلق من طينها، ويحشد كامبي في كتابه "العشق الجنسي والمقدس" عشرات الأساطير من الشرق والغرب ليبرهن على أن الأنثى وليس الذكر هي أصل الوجود بأسره (ربة السماء وربة الأرض) وأن كلتاهما قد وجد ليس عن طريق التناكح، بل عن طريق آخر غير معروف، والأم الأولى هي إيزيس المصرية وأفروديت اليونانية وفينوس الرومانية وأورانيا الفارسية.

ويضيف كامبي أن العلاقة بين ممارسة الجنس بين الذكر والأنثى عند الشعوب البدائية لم تكن مرتبطة بإنجاب الأطفال، إذ كان المعتقد السائد أن إلهة الخصب والنماء هى التي تضع بذور الأجنة في أحشاء النسوة، فيحملن ذكورا وإناثا، وذلك عن طريق بعض المأكولات أو الاستحمام في الماء المقدس - الذي قد اغتسل فيه أحد فحول الرجال، وإلى مثل ذلك ذهب أرسطو - أو الريح أو حرارة الشمس وشعاعها أو النار معبودة الفرس، ويعني ذلك أن ممارسة الجنس كانت مجرد رغبة ولذة واستمتاع بشهوة حسية.

وذهب "ول ديورانت" في موسوعته الشهيرة "قصة الحضارة" إلى أن الإنسان البدائي لم يفكر في الجنس  من زاوية الحرام والحلال أو المقدس والمدنس، وذلك لأن الإنسان (ذكر وأنثى) كان يمارس الجنس بمقتضى إرادته ورغبته في اللذة والمتعة والسعادة وليس لإنجاب الأطفال، لذا لم تفرض على العملية الجنسية في القبائل البدائية أي قيود اجتماعية أو دينية أو خلقية، وفي هذه الحقبة أي قبل ظهور الحضارات لا نكاد نجد أثراً للدعارة إلا على نطاق ضيق جدا تمارسه بعض الفاتنات من أجل الحصول على ما يعينهن على إعالة أولادهن أو آبائهن العاجزين أو شراء القرابين المستحقة للآلهة حتى يظفرن بالمغفرة والخلاص والبركة، وقد كان لشيوع النساء وحرية ممارسة الجنس أثر كبير في ظهور العديد من الدلالات والمفاهيم المغايرة لما نعتقد فيه الآن، فالزوجة الصالحة في المجتمعات البدائية هي التي أثبتت التجربة قدرتها على الإنجاب. أما العذراوات المحتفظات ببكارتهن لا يقبل عليهن الرجال بحجة أنهن غير مجربات، الأمر الذي دفع بعض القبائل إلى جعل فض البكارة وظيفة يختص بها الفحول من الرجال قبل زواج العذراوات، ومع ظهور الملكية الفردية أضحى للبكارة والعفة قيمة أخلاقية يتشبث بها الرجال قبل الزواج؛ فالأنثى العذراء هي التي تمهر ويرغب في الزواج منها (باعتبارها ملكية خاصة)، والجدير بالإشارة أن معظم البرديات والنقوش والآثار القديمة كانت تؤكد أن فضيلة العفة والبكارة كانت قاصرة على الإناث دون الذكور، فالأنثى العفيفة هي التي لا تمارس الجنس قبل الزواج، أما الذكر فلا جناح عليه إذا ما مارس الجنس منذ قدرته على أداءه، فقد ترتب على ذلك ذيوع ظاهرة أخرى ألا وهي حجاب المرأة وعزلتها ومنعها من مخالطة الرجال بعد بلوغها، وصنعت بعض القبائل للعذراوات لباساً بأقفال حديدية ليحولوا بين الرجال وممارسة الجنس معهن، أضف إلى ذلك ارتداء المرأة ما نطلق عليه الآن النقاب أو الخمار الذي يحفظ جسد المرأة من عيون الرجال، واستحال العري الذي كان يصاحب شيوعية النساء إلى ملابس فضفاضة ترتديها النسوة المؤهلات للزواج، وأضحى العري من نصيب العاهرات والعبيد.

أما الزنا فكان له مفهوم مغاير أيضاً؛ فالرجل البدائي كان يمارس الجنس بحرية كاملة قبل الزواج وبعده، وعندما أصبحت الأنثى تباع وتشترى وتمهر عند الزواج؛ فأصبحت ملكاً لسيدها أو زوجها، وبالتالي لا يحق لها ممارسة الجنس مع سواه إلا بإذن منه (خلال الدعارة أو الإهداء أو الإعارة للأصدقاء) ودون ذلك كله يصبح فعل المرأة زنا، وكذا اعتداء الرجل على المتزوجات أو العذراوات العفيفات، وكان يحق للرجل تطليق زوجته إذ ما رغب عنها جنسياً، فالمتعة وحدها هي التي كانت تدفع الرجل للإبقاء على زوجته.

وتؤكد معظم الكتابات على أن الشعوب البدائية كانت تمارس الجنس رغبة في المتعة، وليس لإنجاب الأطفال كما كان شائعاً، فكثير من الأمهات كن يستخدمن حائلاً من الأعشاب حتى لا يتكرر حملهن وكان بعضهن يقتلن أطفالهن للتخلص منهم ناهيك عن قتل الآباء لأولادهم المعاقين والإناث.

غير أن الأنثروبولوجيين يؤكدون أن ظاهرة قتل الأطفال من قبل آبائهم لم تكن شائعة إلا بين الفقراء ودونهم كان ينعم الأطفال في القبائل البدائية برعاية وحب ودفء أبوي أفضل من حال أطفال المدنيات والمجتمعات الراقية .

وتؤكد البرديات الفرعونية القديمة أن ممارسة الكهنة للجنس في المعابد يرجع إلى بنية أسطورية عميقة تجعل من تلك الممارسة طقساً شريفاً تمنح الآلهة بمقتضاه البركة والسعادة للعذراوات، وتروي إحدى الأساطير أن الإله (أتوم) الممثل لصورة الإله الخالق قد أوجد العالم عن طريق (الاستمناء) في يده، وقد نتج عن هذا الماء المقدس زوجين من الآلهة، ومنهما تولدت آلهة المدن والمثل العليا والعناصر الطبيعية وسائر الموجودات، وذلك كله عن طريق الجماع الجنسي بين الإله الذكر الأول شو (الجو) والإلهة الأنثى الأولى تفنوت (الرطوبة)، وقد صور الإله (بس) فوق الأسرة وعلى أدوات التجميل، وذلك لأنه كان يطرد الجن والأرواح الشريرة بعيداً عن المحبين والعشاق والنائمين والجميلات الفاتنات، لذا ارتبط اسمه بالمتعة الجنسية وحماية الحوامل، أما الإلهة (حتحور) فكانت المعنية بشئون الممارسة الجنسية المقدسة التي كانت تجرى في المعابد، حيث الراقصات العاريات اللواتي يؤدين حركات إيقاعية تعبر عن حبهن للحياة وطلبهن للمتعة والسعادة، وكان ينقشن على أردافهن وأثدائهن وفروجهن رسومات بالحنة (تاتو)، وفي نهاية الحفل يصطحبن الكهنة إلى المخادع لينلن البركة من خلال الوطأ المقدس، وقد جمعت  الأساطير المصرية عدة صفات للإلهة (حتحور) كان لها عظيم الأثر على تشكيل العقل الجمعي تجاه المرأة، فقد صورتها الأساطير على أنها الأم الحنون والزوجة الوفية والابنة العفيفة والجمال الرحيم المتجسد في صورة فاتنة، وهي أيضاً اللبؤة الشرسة الغيورة على زوجها وأولادها، وواحدة من الجنيات التي تنفث النيران وتحرق كل من يعترضها، وهي كذلك رمز العواطف الدافئة والنور والضياء وشعلة الحب المتأججة التي يتجمع حولها العشاق، وربة الخصوبة والدلال والفتنة؛ فهي التي تمنح الجمال الأنثوي للإناث عند بلوغهن، ومن الأساطير أيضاً ما تصور الإله (آمون) في صورة ذكر قوي ممتع في الفراش المقدس أثناء جماعه مع الملكات البشريات اللواتي كن يشعرن بمائه الطاهر النقي العطر يسري في فروجهن ليستقر في أحشائهن.

ويمضي الحديث عن عالم الآلهة في الأساطير السومرية؛ فنجد الجنس يشغل مكانة الصدارة بين الممارسات المقدسة؛ فالإلهة عشتار (آلهة الحب والخصب) تمثل كل العواطف والأحاسيس التي تجمع بين الذكر والأنثى لاستمرار الحياة، فتتصل بأخيها ابن الحق والقوة تموز لتنقذه من عالم الموتى وتعيده إلى الحياة التي تجمع بين الجمال والحق في سياق واحد، وتروي الأسطورة أن عشتار قد وجدت تموز مشغولاً في حماية قطعان الغنم فراحت تراوده وتثيره بجمالها الفتان؛ الأمر الذي جعل الدماء تجري في عروقه وأصبح له عضواً ذكرياً، وجمع بينهما فراش دافئ تعانقت فيه العديد من الأحاسيس والمشاعر (الشهوة الجسدية، الرغبة والمتعة الجنسية، الحب) ومن ساعتها أبت عشتار أن  تكون لغيره من الرجال، وعلمت جميع النسوة أن المتعة الجنسية التي تطفيء ظمأ الشهوة لا تكفي لبلوغ السعادة، بل يجب أن يسبق هذه المتعة الحب والود والارتياح النفسي.

وذات يوم جرح خنزير بري تموز فأرداه قتيلاً فبكته عشتار وتألم من بكائها كل الإناث في عالم البشر والحيوان، وراحت عشتار تبحث عن سبيل لإخراجه من عالم الموتى، فتوسلت لأختها ربيبة ذلك العالم فغارت من فتنتها وجمال جسدها فسجنتها ليذبل قوامها ويستحيل جمالها إلى قبح، فعلمت النسوة البشريات بما حدث فرغبن عن الرجال وكاد الجنس البشري أن يفنى،  وتوسلن إلى ربة عالم الموت لتخرج عشتار من حبسها ففعلت إلا أن عشتار أبت أن تخرج بمفردها وبعد إلحاح وقرابين وتوسلات من عالم البشر استجابت ملكة عالم الموت لطلب عشتار وأخرجت الحبيبين معاً لتؤكد قيمة الوفاء بين الزوجين.

وإذا ما انتقلنا إلى اليونان؛ فسوف نجد العديد من الأعياد الدينية المرتبطة بأداء العملية الجنسية باعتبارها طقساً مقدساً منها عيد ديونيسيوس الذي كان يجتمع فيه الشباب والشابات ليشربن النبيذ ويرقصن وينشدن بعض الأغاني المثيرة للمتعة الجنسية حتى يتأهل الجميع للاستمتاع بالعلاقة الحميمة التي كانوا يمارسونها وهم عرايا تماما دون حياء أو خجل وكيف لا؟ فما يفعلونه ما هو إلا طقس مقدس، وقيل أن النسوة كن يرقصن متشحات بجلد غزال وكان الرجال يرتدون أقنعة على وجوههم تبعاً للنسيج الأسطوري الذي كان يجعل من هذا العيد موسماً تحل فيه أرواح الآلهة في أجساد البشر، فتهب النسوة الفتنة والجمال والخلاعة والخصوبة وغير ذلك من الصفات التي ترغب فيهن الرجال، كما تنعم على الذكور بالفحولة والقوة الجنسية التي تفوق قوة الثيران وقدرتها على ممارسة الجنس.

وتربط العديد من الموسوعات بين الطقوس الديونيسيسية والجنس الجماعي المصاحب للخلاعة والمجون في عيد باخوس ذلك الذي كانت تجتمع فيه النسوة؛ ليمرحن بين الأشجار أو الجبال، وإذا ما حل الليل تسابق الشباب إلى هذا المكان لمشاركتهن الرقص وشرب النبيذ ثم العلاقة الحميمة، ولم يخل ذلك الطقس الماجن من العنف، فتروي الأساطير أن حلول الإله باخوس في أجساد المحتفلين بعيده مرهون بسفك دم طفل أو بذبح غزال رضيع وأكل لحمه وشرب دمه على ضوء المشاعل.

ومن الأعياد الدينية عند الرومان نذكر عيد اللوبيركال وكان يمارس فيه الجنس الجماعي وذلك يوم الخامس عشر من شباط وهو يوم ميلاد الإله لوبوركوس رب الحقول والقطعان، ولم تعتقد النسوة آنذاك أن افتراشهن للعديد من الرجال بعد جلد ظهورهن بسيور مصنوعة من جلد تيس  هو علة حملهن، بل كن يؤمن بأن هذا الحمل هبة من الإله المحتفى بذكراه، ومن ثم كانت اللذة الجنسية هي الطقس المقدس في هذا العيد كما هو الحال عند الفينيقيين واليونان، فالممارسة الجنسية الجماعية التي كانت دون أي قيود قد جعلت النسوة اللواتي حملن في هذا اليوم لا يعبئن  بتحديد الرجل الذي ينسب إليه من ينمو في أحشائهن، ولم يطالبهن المجتمع بذلك أيضاً.

وقد انتقل هذا الطقس إلى بعض النحل المعاصرة وعلى رأسها نحلة عبدة الشيطان والإيموز.

للحديث بقية لإثبات ان الفارق بين المقدس والمدنس في الجنس يرجع إلى الثقافة السائدة والعقل الجمعي، ولا سيما في حقبة ما قبل الشرائع السماوية.

 

بقلم: د. عصمت نصار

 

في المثقف اليوم