قضايا

كوجيتو العدوى

سامي عبد العالالأنا هو الملاذ الأخير للإنسان أمام أي وباءٍ، إذ ينكمشُ صاحبُه معلِّناً بأحد جدرانه- التي يفترض ألاّ تُوجد- أنَّه مغلق للترميم. وحين يسمع خبرَ الاصاباتٍ هنا وهناك، يهرع إلى تحسس أناه في شكل سعال خفيفٍ أو تجريب أنفاسه أو تجنب أي متطفل يحاول الاقتراب. وربما يتخفف الانسان قليلاً من هذا الثقل، فيحلم بزوال الغمة (بطريقة المقريزي" إغاثة الأمة بكشف الغمة")، ليعود إلى سيرته الأولى، وقد يأخذه الأمل متذكراً الأيام الخوالي حين كان يدفع أناه ego كــ "أنف ضخم" big nose في كل شاردة وواردة بين الناس... أين هذه الأيام والأوقات؟!

صحيح الأنا قد يكون مجرد أوهام في أوهام، لكنه إزاء الخطر يتماسك لتخرج الأوهام في شكل أوضاع ملموسة، يدافع عنها صاحبها ككيان هو الجسم الذي هو فيه. أي تصبح المشاعر والأفكار ذات آثار حسية تَظْهر على وجهه أو هيئته مثل المخاوف والهواجس وحتى التوقعات. فلو شعر بالخوف، سيبدو اضرابه وقلقه باديين للعيان، ولو وُضع في موقف محرج، سيبدو ذا وجه خَجِل ويتوارى من الناظرين. كل ذلك لم يكن ليمنع ديكارت في القرن السابع عشر من اعلان أنَّ الفكر أساس الوجود، وليس فكراً حراً من القيود، بل فكراً مرهونا بالأنا (أنا أفكر إذن أنا موجود cogito).

لكن فجأة تحول الأنا أفكر (على خلفية كورونا) إلى الأنا - فيرُوس يُحْذَر منه. البدايةُ ليست فكراً بحد ذاته كما يؤكد ديكارت، بل حضور الجسم بقدرته على ممارسة الحياة والتأثير على نطاق واسع. هو الآن كوجيتو العدوى بامتياز، يطرح دلالة الإنسان الحي بقدر ما يمثل عدوى للآخرين. الأنا هو الحيوان المعدي داخلنا دون تردد وبواقع الحال. صيغة فكرته قد تصبح مبتذلةً: "أنا اُعْدِي، إذن أنا موجود"I am infecting, therefore I am  ، بكلمات أخرى" أنا مصدر العدوى إذن أنا كائن محتمل العزل الصحي" coronavirus cogito. لكنها صيغة تتحاور- فلسفياً- مع أنماط الكوجيتو بمعناه المثالي والأنطولوجي والمعرفي، وتكشف حدود التواصل في المجتمعات الإنسانية وإلى أي مدى تُمارِس سياسات الوقاية من الأوبئة.

إذا اردنا توضيحاً فلسفياً، فهو من ثمَّ كوجيتو بيولوجي biological cogito يعيد ترتيب شؤون العقل والسياسة والعيش والعلاقة بالآخرين. اثبت كورونا استحالة التحكم في الحياة وانعدام الهيمنة على الطبيعة، وفوق هذا وذاك، يصعُب الانغماس في أيَّة انشطة جمعيةٍ. لأول وهلة تكون الجماعة(التجمع – التجمهر – التكدس- الزحام) أشياء خطيرة. الوباء عدو المجتمع رغم أنه يتجه إلى الأفراد، إلى جسمٍ بعينه. وجه الالغاز إزاء مسألة الفيروسات الوبائية: أنَّ تضع الإنسان في احراج تواصلي يبطل قدرتنا على ممارسة الآخرية otherness.

لكن ما هي جوانب تلك الفكرة؟ وكيف يتحول الفرد من الأنا أفكر إلى أنا أُفيرس الآخر؟

المشكلة تكمن في "أنا موجود"I am  ، الأنا حاضر في حضور من هم غير أنا، لأنَّ الوجود الحي أصبح مقدمةً وليس نتيجةً، أصبح وباءً قابلاً للانتشار. الفيروس ينبهنا إلى وجودك ووجودي البيولوجي بالمقام الأول، يجعلك موضُوعاً للحذر والترقب والتربص والابتعاد ويجعلني موضوعاً للابتعاد واتخاذ المسافة الحائلة دون المواجهة المباشرة. وبالتالي ليس فعل الكينونة هو الذي سيجعلك ظاهراً، بل" فعل العدوى" هو الذي سيضعك تحت علامة استفهامٍ. ولأجل الابتعاد عنك وعني يشترط أنْ تخلع كلَّ سمات وجودك جانباً إلاَّ من حدي الحياة والموت. وهما امكانيتان على الحافة الحرجة من وجودنا، والتي قد تتزحزح إحداهما لصالح الأخرى. يومياً نرى أناساً خرجوا من الحجر الصحي إلى الحياة والعكس أناس لم يكن متوقعاً موتهم لكنهم غادروا بسبب الفيروس.

بعدما اجتاح كورونا الكرة الأرضية، لم تعدْ الكائنات الدقيقة إلاَّ على صلةٍ مهُولةٍ، مخيفةٍ، بعالمنا الكبير. علاقةٌ غامضةٌ لدرجة السرية التامة، لا نقول أكثر مما قد ندرك آثارها أحياناً. وليس ثمة انفصالٌ بينهما وبين حياتنا من أقرب نقطةٍ إلى أبعدها، ولسنا في حاجة إلى برهان. الفيروس غير مرئي، بيد أنَّه يجعلنا نُبرر ما نقوم به من اجراءات وأفعال ظاهرة. لقد فرض عمليات عزل للأصحاء والمرضي بتداخل الضوء والنهار على الكرة الأرضية. أي ذهبت حياتُنا الكونية باتجاه انعدام أي تواصل حسي وطبيعي، انتفت الحياة في الوقت الذي لم نمثل فيه إلاَّ أشباحاً عن بعدٍ.

ربما نسي الناسُ أشكال(هيئة – رسم – وسم) بعضهم البعض، لم ير أحدهم غيره منذ فترة ولم يعد أحدهم قادراً على أنْ يقول أنا، لكون أناه سيوضع تحت الحذر على الدوام. فبمجرد أنْ يسمعه إنسان سيتهرب من لقائه، هو مجرد علامة استفهام متحركة بشكل فج. لا ينظر الفرد إلى الفرد سوى من خلال كونه عدوى، سقط كل شيء وبقي الفيروس هو الحاضر أو المحتمل حضوره. بينما الغياب أصبح هو القاعدة التي تعم جوانب العالم كله، الشوارع والمقاهي والردهات والساحات العامة فارغة من الناس. حقاً العالم غائب عن نفسه حتى في وجود البشر بإقامتهم البيتية. والغياب هو الوجود الطافح بالصور والرموز والتلاشي و بجانب التواصل عن بعد. لقد غدا الآخرين بالنسبة لنا موجات صوتية وذبذبات وأطياف تحملها أخيلتنا عبر وسائط التواصل الاجتماعي.

السؤال التلقائي: هل الحياة غدت ممارسة للصمت الكوني، حين تقطعت أوصال وجودنا المشترك عالمياً؟(أي الإقامة المتوارية بغرض الحماية من الفيروسات).

لو تخيلنا هذه العلاقة، فلن تكون غير سرديةٍ مُطولة عالمياً حول وجودنا (هنا والآن) بأي وقت. فالحاضر نوع من المحافظة الصامتة على وجودنا الصحي لأطول فترة ممكنة، كل جماعة تكتب خلاصها بآداب ولياقات التعامل مع الحياة. هكذا تبدأ سطور الفيروسات والأوبئة في الكتابة حول ما كنا وسنكونه غداً. الحقيقة أنَّ الزمن أول ما تقطعه الفيروساتُ المعدية وأخر ما تدشنه في كل مرة تجتاح الأرض. أي هي تعيد الحياة كحاضر دوماً إلى سيرتها المبكرة، فالفيروس يكمن ويعيش ملايين السنيين دون أن يموت ولا يحياً إلاَّ بظروف مواتية ستأتي يوماً ... وها قد أتت بجحافل العدوى نتيجة كورونا ومشتقاته. هذا المناخ العام من الرعب إزاء انتشاره على نطاق واسع يجعلنا لا نتصور ظروفاً طبيعية فقط قد هيئت له، لكنه يجول ويصول بأرجاء العالم على خريطة الحياة والموت.

ولذلك الفكرة الأولى أنَّ الفيروسات تعيدنا مباشرة – دون زمن- إلى حالة من احتمال حال البدائية. عودة الحياة البدائية إلى واجهة أنماط العيش في العالم مرة أخرى. وهنا ربما يظهر مفتتح صفحات كتاب غيابنا المتخيل. لأن الفيروسات تكتب بحروف هي الآثار الدالة عليها. ولم تكُن وحدها هي الظاهرة في حالة كورونا، بل أُضيف إليها تراكم الأفعال البشرية الطائشة التي أظهرت سمات بدائية لا تخطئ الأولى. وتبدأ في إظهار صفحات البشرية التي حبرت بممارسة الاستئثار والابتعاد عن الآخرين والخوف والرعب. رغم أنَّ التعاطف على بعد يبدو هو اللغة الجارية عبر وسائل الاتصال والتقارير الواردة من المنظمات الدولية، فالتقارب مع مسافات الجغرافيا ظهر كما أشرت كعملية تواصل غير مرئية.

الفيروسات لا تعطينا أية فرصة للفهم والاستيعاب، فهي لا تتكلم، هي صامتة بدورها، واللغة التي تتحدث بها هي لغة المرض وانتقال الوباء من مكان لآخر. ودوماً النتائج من جنس المقدمات، فطالما أنَّ الفيروس مرتبط بجسم الحياة داخلنا( لحم الأنا)، فقد خضعنا للمنطق نفسه، هذا العزل الذي أحال العالم إلى مجموعات من لحوم البشر السائبين. وغدت الدول أكمات بيولوجية فيروسية يتهرب مواطنوها من أي مجال عام، لائذين بالبيوتات المنعزلة، لقد ضاقت الكرة الأرضية فجأة وغدت (كهفاً) هو العزل الصحي إزاء العدوى أو خوفاً من تفاقم الحالات المصابة.

بملء الكلمة، انفكت الخرائط الجيوسياسية لعالمنا المعاصر إلى أقاليم، والأقاليم إلى مجتمعاتٍ تلاحقها عدوى الفيروس وتترصدها. برز التاريخ الوبائي للبشر على مساحات متقطعة من أجسام تعبر الحدود، لكنها أجسام كحال كورونا تنقل المرض بسرعةٍ لم تكن متوقعة. ربما لأول وهلة أصبح الجسم هو الخريطة الفعلية لعلاقتنا بالحياة والعالم. تداخل الحياتي والسياسي والوبائي بطريقة غريبة. فلا تستطيع الخروج عن المجموعات المترامية داخل المنازل والإقامات المنعزلة، كل مجموعة تأخذ حذرها طائعة وإلاَّ فالخطر وشيك. أنت عندئذ قد أدرت عقارب ساعتك البيولوجية عند حدود الالتزام بحفظ الجسم دون ملامسة الآخرين. كمن يحفظ أجسام الحيوانات المقطعة في أوعية تبريد تجهيزاً للأكل.

لكن لمن تجهز أجسام الناس في عالمنا الآخذ في(الانكماش)؟! بالطبع ألهبت الأنظمة السياسية آذان مواطنيها بمزيد من التخويف. وتعاملت معهم فرادى باعتبارهم أجساماً قابلة للتحلُّل وليسوا مواطنين بالمعنى الحقوقي السياسي. وكررت بث الرعب من فيروس يحمل المفاجأة بطبيعته الوبائية ونتيجة انتشار صور الضحايا من الصين إلى إيطاليا، ومن أمريكا إلى فرنسا، ومن انجلترا إلى ألمانيا، ومن الغرب إلى الشرق. باتت الدول بؤراً فيروسية تقتات على مساحة التواصل بين البشر، والسبب هو التعامل المرضي- بافتراض أن البشر هم البيئة الخصبة- على لحم الحياة والموت. أي لابد أنْ يجيئ الإنسان بكل مرة تنتشر فيها فيروسات قاتلة كياناً لحمياً ناقلاً للعدوى.

الخوف والرعب يجعلان الإنسان (الأنا أفكر) لقمة سائغة لمآرب أي نظام سياسي، يفقدانه إرادة الرفض والتمرد، كيف يرفض، ولماذا يفكر أو حتى يتأمل ماذا يجري له وهو واقع تحت ضغط أمر يستند إلى حيوانيته المباشرة؟! بل يحيله إلى مجرد عبءٍ حيواني ينتظر الرعاية والطعام والغذاء دون التطلع إلى أي شيءٍ. وقد حاولت الأنظمة المستبدة استغلال كورونا لاختبار قدرتها على ضبط الحياة العامة. تدس القوة واوامر السلطة فيما يخيف الناس من أخبار واحصائيات حول الضحايا واعداد المصابين.  على افتراض أنْ المواطن حيوان قابل لأن يُساس، يُقاد، يخضع للأوامر محققاً ما يراد له من المبيت مبكراً والإقامة الوقائية دون تمرد. شريطة إحاطته بمناخ من الهوس الاعلامي الذي يختلط فيه الحابل بالنابل، الغث بالثمين، الفعلي بالمزيف، ومع اختفاء أساليب الشفافية تسود "ثقافة الضفادع".

حيث يعم المجال العام مناخٌ من النقيق الاعلامي المتواصل والفوضوي من هنا وهناك. والأنظمة تستهدف زيادةَ هذا التشويش، فلا أحد يعرف ما هي المعلومات الحقيقية حول المرض، ولا ما إذا كان وباءً أم لا، وليس هناك من يقول ما يجري بدقة. هكذا حول الفيروس الأجواء الثقافية إلى أبواق دعائية تتراجع للدفاع عن مواقف من الشعوب ومكانتها لا معها. فالدول الأقل ديمقراطية هي التي تعتبر شعوبها قطعاناً من الخراف الضالة التي لا تستحق شيئاً. وبدلاً من وجود فيروس واحد يعربد داخل المجتمعات، هجمت فيروسات التخلف والديكتاتورية وأصوات الجهل على أجسام الشعوب.

والشعار البائن كالتالي: عُودوا إلى الأنا البيولوجي (على طريقة الفيروس)، شريطة أنْ يظل هذا الأنا أو ذاك في نطاقه الحيوي. لأنَّ تلك الدول لا ترى جدوى من مكافحة لفيروس كورونا، إذا انتج فيروس الفكر في الأوضاع السائدة. ولهذا ستكون هذه الدول حواضن جلدية تشحن مراكز الإحساس الحي إزاء أي فكر وعدوى جنباً إلى جنبٍ. ينبغي لك ألاَّ تتساءل، ألا تناقش، نحن مرضى على أَسِرّة الأنا وحسب. ولو ابيح للأنظمة السياسية المتخلفة أن تعلن الأفراح، لفعلت لأنَّ الفيروس يلتقي مع أهدافها القاضية على أي نقاش عام حول ممارساتها.

الفيروس سياسياً يختطف الأنا أفكر لصالح سلطة الهيمنة. يلغي وجودك تماماً، وفي النهاية يجعلنا أرقاماً بين:  شخص مترقب تحت الاختبار أو مصاب، أو مصاب قابل للمعافاة. ليس الفكر ضرورياً، بل المهم أنك أصبحت جسماً ليس أكثر. ولو فكرت مجرد التفكير في أمور السياسة، فإنك ستثير غرائز السلطة المستبدة. والمفارقة أنك كـ "أنا" كنت منذ سنوات مجرد قطيع في شوارع الثورات الربيعية، يتم ترصده وملاحقته لو انخرط في مظاهرات سياسية. لكنك حالياً أمسيت كتلة من اللحم المُعدي، مجرد كتلة مملوءة بالفيروسات، يجب تحاشيك ووضعك في مساحة لا تبرحها. وأنت لست خطراً على نفسك والمحيطين حولك، بل خطراً على كل إنسان محتمل آخر، على الحياة.

لم يعد لكلام الأنا ولا لرمزيته الإنسانية أية جدوى ولا أي تأثير يذكر،  فالمجال العام لا يقبل أي رمز تحرري من نوع ما، الرمز هو الجسم الذي يعكس العدوى أو يقي منها محاطاً بإجراءات هيمنة (سياسية طبية). وبدت الدول قوية بمقدار ما تضبطك إيقاع الاجسام المنعزلة. الدول آلية توزيع لكل مواطنيها ومراقبة الشوارع الفارغة. حظر التجول، المستشفيات المتنقلة، الطوارئ، نشر الكمامات، ضبط الجموع وتذويب نقاط الاختناق الجماهيري. كلها حدود الأنا بيولوجياً فقط، لقد تم سلخ رمزيته وألصقت بالسمع والطاعة إلى حدود العزلة المشبعة بالرعب والخوف. ولحقت ذلك إجراءات التحكم في حركة السلع والغذاء والدواء والانتقال والسفر. إذن وقعَ الأنا في ممارسة الكينونة عند درجة الحس البدائي، ولم يذهب أكثر من ذلك.

 

سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم