قضايا

الدين والديمقراطية كما يراهما نجيب محفوظ

حيدر جواد السهلاني"أن الليل مهما يطل فله نهاية، وأن الشمس ستشرق غداً".. نجيب محفوظ

المقدمة:

تعرض نجيب محفوظ إلى تكفير وملاحقة وجدل لم تتركه في حياته، وحتى بعد وفاته، فقد وصلت إلى حد اغتياله عام (1995)، وطعن في نواياه الدينية وعقيدته بالله(جل جلاله)، وطعن بمرجعيته الفكرية والسياسية والدينية. فقد ظهر التناقض حول نجيب محفوظ، من يرى فيه أديب مسلم، ومن يرى فيه أديب يشجع على الألحاد وفسق الشباب، وهنا كثيراً ما يتطرقون إلى رواياته وتحليل رمزية الرواية، واعطاء موقف منها ويرون فيها تدعو إلى الالحاد والجنس ، وأنه يعتنق الفكر الماركسي والعلمانية، ومن يرى أنه أديب مسالم فكثيراً ما يعطي آرائه الدينية والسياسية بشكل رمزي برواياته، فمثلاً في روايته (اولاد حارتنا) ناقش فيها الأديب أفكاره عن الألوهية بشكل رمزي مفعم بالدلالة، وهذه الأفكار تعد في غاية الجرأة، بالنسبة إلى بيئة لا تقبل النقاش( وهنا نذكر المفكر نصر حامد أبو زيد عندما قال لابد من إعادة قراءة النص الديني، تعرض إلى التكفير والردة وتم رفع دعوة تفريق لزوجته منه، المفكرون كثيراً ما يتعرضون إلى الطعن والردة والتكفير ولو رجعنا إلى التاريخ لوجدنا الكثير ممن أعدم أو حرق وعلى سبيل المثال لا الحصر اعدم سقراط وحرق برونو ومنهم من نفي من بلد إلى أخر مثل ماركس، فلا عجب نرى أديب ومفكر مثل نجيب محفوظ يتعرض للتكفير والتناقض،  فروايته مثلا " اولاد حارتنا"  منعت من النشر وفي الوقت نفسه تنال أفضل جائزة عالمية "جائزة نوبل"). لم أتطرق إلى روايات نجيب محفوظ وتفسير رمزيتها ، ولا إلى الدراسات التي ترى في نجيب محفوظ أديباً أو ملحداً، فضلت أن أتطرق إلى كتابه (حول الدين والديمقراطية) وهو كتاب عبارة عن مقالات، يعطي فيها رأيه بوضوح بدون رمزية، وفي الحقيقة لم أرى نجيب محفوظ يدعو للألحاد، بل على العكس يرى في الدين ضرورة للحياة ويتجلى الدين في سلوك الإنسان.

الدين:

يدعوا نجيب محفوظ إلى أن يكون الدين تربية روحية تتلقى في جو من التعاطف والإرشاد والمحبة، بعيداً عن معاناة الحفظ والخوف من السقوط، مع الاقتناع الكامل بأن الدين ليس معرفة تحفظ، ولكنه معاملة وسلوك تقوم عليه الحياة الإنسانية الكريمة، ويؤكد نجيب محفوظ من الضروري التركيز على آيات القيم والأخلاق والأهداف الإنسانية. والدين ليس علماً من العلوم، ولا فرعاً من المعرفة ، ولكنه تربية روحية يتجلى جوهرها في المعاملة والسلوك والرؤية، بدليل أنه كثير ما يحدث أنه يوجد تلميذ متفوق في الذكاء وسيئ في الخلق، ويحصل على أعلى درجة في الدين (الدين يريد من الإنسان أن يكون إنساناً) والدين يدرس في المدرسة كعادة علمية تعرض أبوابها وآيات قرآنية وأحاديث نبوية وعقائد وعبادات، يحفظها التلميذ ويمتحن فيها ثم ينساها بعد ذلك، كما ينسى غيرها من العلوم. وللدين دور خطير في الوجود، وهو دور الوصايا على العقل، ولا يجوز كبته أو تحديد مجاله، أو التدخل في تطلعاته، ولكن لا بد من ضمان استغلاله للخير، وحده عن مغريات التدمير والهلاك، ويرى في العلم لا يفسر الدين، والإيمان يجب أن نتخذ منه قوة على مشقة البحث العلمي، ولابد من كشف أسراره وابتكار اختراعاته خدمة للوطن والإنسانية، فالعالم المؤمن حقاً ليس هو الذي يهجر المعمل ليفسر القرآن، ولكنه يكرس حياته للعلم والبحث والإنسان.

أما الإسلام كما يراه نجيب محفوظ، فهو يوفر للإنسان حياة كريمة وحرية، ويوفر للمجتمع عدالة اجتماعية شاملة، فالنظام الإسلامي لديه مقومات الحياة المجتمعية التي تحفظ للإنسان العيش بحرية وكرامة، ويحارب الإسلام الفقر والحاجة وحث على التكاتف الاجتماعي، وأمر الإنسان بالعمل والتعمير وتحصيل العلم والحكمة، ويحترم الإسلام العقائد الأخرى، ففي رحابه عاش اليهودي والمسيحي جنباً إلى جنب مع المسلم في حرية وكرامة ومساواة، ويدعوا الإسلام للتسامح ومحبة المخالفين له في الرأي أو العقيدة، ومن المبادئ التي يقوم عليها نظامنا الاجتماعي السلام بين الطبقات، بمعنى أنه أحل التضامن بين الطبقات، والنجاح يكون تحت ظل هذا المبدأ رهناً بإخلاص كل مواطن له، والعمل على تحقيقه بالطرق والأمانة وإلا أنقلب شعاراً لا معنى له،  وبذلك يصبح الإسلام فردوساً ويصبح مركز جذب للآخرين. والإسلام ليس هو السبب في جهل المسلمين وعدم تطور البلاد العربية كما هو في الغرب، بل أن السبب الحقيقي يكمن في المسلمين الذين لا ينتمون إلى الإسلام إلى بشهادة الميلاد، فهنا يعترض نجيب محفوظ على المسلمين لا الإسلام.

الانحراف الديني: يرى نجيب محفوظ أن الانحراف وجد منذ القدم، فالتاريخ يزخر بالأفكار بشتى أنواعها، منها الرجعي الذي يتعلق بفردوس مفقود في الماضي، ومنها المستقبلي الذي يركز على الغد القريب والبعيد، ومنها المعتدل الذي يأخذ من كل زمان ومكان ، ومنها الحكيم الذي يعتمد على التطور والرأي، ومنها الذي يؤمن بالمدفع والديناميت. أذ الانحراف حالة عقلية متحركة لا علاقة لها بالدين، وأن وجدت في الدين متنفساً لها، كما تجده في الرياضة أو السياسة، وهي حالة مرضية مثل سائر الأمراض تحتاج إلى طبيب. والانحراف هو نتيجة لما تكون عليه حالتنا النفسية والوجدانية، تلك الحالة التي تكون ثمرة لتراكمات اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية، وأيضاً لربما من مشاكل الشباب مثل الجنس والسكن والمستقبل والزواج والتعليم والثقافة ، فكلما ملنا إلى التوازن والانسجام والصحة النفسية والاجتماعية، مال اختيارنا إلى الأفكار البناءة والإنسانية، وكلما مال بنا الوضع إلى القلق والقهر والحقد مال اختيارنا إلى الأفكار المنحرفة والأحلام الدموية. والانحراف في الدين يوشك أن يكون ظاهرة اجتماعية، وينشأ الانحراف اساساً من استغلال فئة من المغرضين للروح الدينية عند الشباب، أو عند جمهرة منهم، فيحولونهم من مريدين للخير والتقوى والحب إلى متهوسين وسفاكين للدماء. ويفرق نجيب محفوظ بين التطرف والانحراف، فالتطرف يمثل بلوغ الغاية القصوى في الإيمان بأي عقيدة، تنتمي إليه الصفوة المجاهدة، المؤسسة على العلم والأخلاق والمستعدة دائماً للبذل والتضحية بالنفس، في سبيل المثل الأعلى، أما الانحراف فهو الخروج عن الحدود بضغط من انفعال أهوج قائم على الجهل، مسوق بالتضليل مندفع إلى الأذى والعدوان. ويرى نجيب محفوظ من الضروري أن يتم الحوار مع المنحرفين والمضللين، ويكون معهم من قبل رجال الدين والتربية الدينية، وذلك للإفادة منهم ومعرفة أسباب الانحراف، وضرورة إعادة النظر في أسلوب الدراسة الدينية والوعظ الديني والبرامج الدينية، أما علاج الانحراف فهو الحضارة، أذ التربية الدينية هي علاج لسوء فهم الدين ونشوء جماعات دينية منحرفة، لكن هنا التربية الدينية لا تمحو التناقض بين الدين والمجتمع، فهنا الفرد سوف يجد تناقضاً بين ما تعلمه وما موجود في أسرته وشارعه ونظامه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ويعتقد نجيب محفوظ أن الناشئ على هذا التربية ستمزقه الحيرة بين ما تعلم وبين ما جرى عليه نظام الحياة من مبادئ ومعاملات وتقاليد، وبالتالي ستكون النتيجة أما أن يستهين بالدين، باعتبار تعاليمه جميلة، ولكنها غير صالحة للتطبيق، وأما أن يتمسك بالدين ويتهم المجتمع، ولكنه يعتمد في تغييره على الحكمة والموعظة الحسنة، وبذلك يعتقد نجيب محفوظ العلاج الحاسم لن يأتي إلا بتطهير المجتمع وتغييره ومحو وجهه القبيح ودفعه في طريق التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، واحترام حقوق الإنسان كالعدالة والحرية وغيرها، فلا علاج للانحراف إلا بالحضارة.

الديمقراطية:

يعتقد نجيب محفوظ أن الديمقراطية نظام غربي ومذهب متكامل من النظرية والتطبيق، اعترف بحقوق الإنسان والاقتصاد الحر، وحقق إنجازات رائعة في ميدان التقدم، والديمقراطية لا تعفي الدين ويقابلها في المجتمع الإسلامي الشورى. ويرى نجيب محفوظ أنه لا يمكن أن تتحقق الديمقراطية والحرية إلا في ظل الأحزاب، وأن الأحزاب حقائق واقعية، وفي ظل الأحزاب تم التقدم اجتماعي، والديمقراطية تربية عسيرة تتطلب جهاداً مستمراً وتضحية متواصلة وتهذيباً مطرداً، كي يحل العقل محل الغريزة وتسيطر المناقشة على التعصب والعنف والقوة العمياء. والديمقراطية هي روح قبل أن تكون شكلاً واسماً، وهي دعوة إلى الأغلبية لتمارس حقها المشروع في الحكم ولو بمعارضة الحكومة حيناً، ودعوة للمعارضة لتمارس حقها المشروع في المعارضة من خلال مبادئها وأهدافها ولو بتأكيد الحكومة حيناً. ويفهم نجيب محفوظ من الديمقراطية بأنها لم المخالفين تحت مركز فكري واحد أو مؤسسة شرعية واحدة، فكثير من الأحزاب المخالفة في العقيدة والفكر، لكن يوجد فيها أفكار جيدة فمثلا الماركسية، على الرغم من فيها أفكار ضد العقيدة الإسلامية لكن يوجد فيها أفكار اجتماعية واقتصادية جيدة. ويرى نجيب محفوظ أنه لا يوجد تناقض بين الإسلام وبين الديمقراطية.

 

حيدر جواد السهلاني

.......................

الهوامش:

نجيب محفوظ: حول الدين والديمقراطية، أعده للنشر فتحي العشري، الدار المصرية اللبنانية.

 

في المثقف اليوم