تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

عبد العزيز قريش: مؤسسة التربية.. للحقيقة وللواقع المعيش قول

عبد العزيز قريشأمام بعض الظواهر التربوية القائمة في المجتمع بما فيه المجتمع المدرسي؛ يقف العقل حائرا في مقاربتها من حيث تعقدها وتشابكها، وصعوبة تأطيرها تحت نظرية معينة سواء تربوية كانت أو نفسية أو اجتماعية أو سياسية أو إيديولوجية! فهي تنفلت عن الإمساك الإشكالي لتشييد معمارها الموضوعي لكي يسهل تحليلها ومساءلة مفرداتها علميا وعمليا. ويزيد درجة تعقيدها شدة التغيير الحاصل في المجتمع والمجتمع المدرسي على مختلف المستويات الحياتية الذي يلاحقها في الزمن المكان والأثر والتأثير! ومتطلبات هذه التغيرات من عمق في التفكير وتطور في الرؤية والمعرفة في ظل تسارع الواردات الجديدة الكثيفة من عالم التقنيات والمعلوميات والعولميات التي تغزونا بشكل تتاري ونحن منزوعو السلاح الفكري أمامها؛ قلما نفطن لشراكها وفخاخها التي تسلبنا هويتنا باسم التفاعل الحضاري أو التصادم الحضاري. تلك الواردات التي لم تعد تلائم طبيعة المؤسسة والمجتمع المحافظة افتراضا المتجهة في كثير من المسارات نحو السكون والرقود بحكم الاستقرار في الأوضاع المعروفة والمعلومة بدل الدخول في المجهول والمجازفة بالعادة المألوفة، التي اعتادها المجتمع والمجتمع المدرسي؛ علما بأن العلاقة التبادلية بينهما حاصلة رياضياتيا تأثيرا وتأثرا. لذا؛ تتولد من فكر الباحث مجموعة من الأسئلة الجوهرية التي تسائل المجتمعين معا بكثير من علامات الاستفهام حول ظروف حاضنات تلك الظواهر ومربياتها ومشغلاتها، وكيفيات مقارباتها إن قاربناها في أحسن الحالات! وأطروحاتها النظرية والعملية في تدبير تفاصيلها ومفاصلها، والخلاصات والاستنتاجات والاقتراحات فضلا عن ترصيدها وتركيمها وتوثيقها والاستفادة منها في الوضعيات المتكافئة ... أسئلة؛ الأجوبة عنها قمينة بفتح باب البحث على مصراعيه في المجتمع المدرسي والمجتمع العام مؤسسة وأفرادا، ما يوطن الفكر البحثي في المجتمعين معا من جهة أولى، ومن جهة ثانية حل إشكاليات ومشاكل تلك الظواهر، فتتطور منظومتنا التربوية من جهة ثالثة؛ ومنه يجد العلم والمعرفة الأصيلين طريقهما إلى المجتمع. فبلا مساءلة وبحث لا يكون طرح الإصلاحات التربوية أصيلا وواقعيا، ونابعا من معطى واقعي معيش. وإنما يكون واردا ورود الريح من الشمال إلى الجنوب أو صعوده من الجنوب إلى الشمال؛ فيكون مبتور الجذور والأصول، مختل السيرورة والفعل، مضطرب النتائج، خاصة في مجتمع لا يدري الوارد عليه طبيعته الاجتماعية والفكرية والثقافية والإيديولوجية والسيكولوجية ... ولا يعرف كيف تدار فيه الأمور وتدبر الملفات والقضايا، كما لا يعلم طبيعة الصراع القائمة فيه بين المؤسسات والطبقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والإيديولوجية والعقائدية. وما يتضمن من حراك وصراع وتنازع خلا مسألة خبزية تحرق الأخضر واليابس في دوامة الوجود المعيشي البيولوجي؛ فيفقد الكثير من المعطيات والمعلومات والمعارف في تعاطيه مع قضاياه فضلا عن جهله بميكانيزمات دواليب الحراك الاجتماعي. وما تجارب المجتمع العام والمجتمع المدرسي عنا ببعيد. فكم من المشاريع فشلت حين أسندت ملفاتها للأجانب الذين تم استيرادهم من الخارج استيراد السلع والبضائع اعتقاد من السياسي أو التقني بنجاعة طرحه في معالجة مشاكل المجتمع المدرسي أو المجتمع العام.

مع طرح الاستيراد أو إسناد الأمور لغير الكفاءة والوعي الإنساني أو تسلط الطفيليات على المجال التربوي أو العام؛ تنزع روح الفكر والعقل والجسم والفعل والإرادة، وتقتل الأطروحات الجادة والمسؤولة، وتنتعش الأطروحات الترقيعية والتلفيقية والرؤى الراهنة غير الاستراتيجية، التي تنظر في أبعد مدى حد قدميها، وتراه مدى بعيدا! غير واعية بما تفعله بالأجيال القادمة التي توأد في المهد. وهو ما يحصل؛ حيث فقد المجتمع الثقة في مؤسسة التربية ولم يعد يعول عليها في إحداث التغيير المطلوب علميا وتقنيا وإنسانيا وحضاريا وثقافيا وسياسيا، ودخلت في أفول حضورها الفكري والعلمي والاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي والإنساني بعد عصرها الذهبي، يوم كانت تصنع العقول والإرادات والقيم، والشجاعة التي فدت خلفها بروحها ودمها ومالها، فشربت من ماء المنفى والاعتقال والتعذيب والتشريد والتهجير ما عبدت به طريق حرية التعبير والاستقلال واستقلالية الذات وعزتها وكرامتها، وضمنت به أدنى الحقوق الإنسانية في زمن الجمر والقهر والطغيان. طغيان الإنسان على الإنسان من أجل التسيد! فكانت مؤسسة التربية حينها القناة الطبيعية التي تصنع المفكرين والقادة والفلاسفة وقوادر المجتمع الذين يبنونه ويغيرونه؛ لكن حين صارت إرادة التسيد أقوى من إرادة مؤسسة التربية، وانحدرت في السلم الاجتماعي والمعرفي والثقافي والاقتصادي والفكري، وحتى في الإيديولوجيا، غدت مجرد قناة لمحو الأمية الأبجدية أو التقنية في أحسن أحوالها فضلا عن تحصيل المعيش اليومي ككل المؤسسات الإنتاجية أو التجارية أو خدمية، لا إبداع ولا خلق يرقى إلى ترقية المجتمع إلى مصاف الدول المتقدمة المبدعة التي تصنع التقدم الإنساني والحضاري والتاريخ.

مؤسسة التربية دخلت في تكرار نفسها، وفي الروتين اليومي والعادة القاتلة للخلق والإبداع والتجدد، فما كانت نجحت فيه البارحة فشلت فيه اليوم: التدريس؟! والفشل لا يمكن التستر عليه أو إنكاره إلا من جاحد أو متستر على الخطإ؛ لأنه قتل أجيالا كثيرة ما عادت تستطيع كتابة رسالة بطريقة سليمة فضلا عن إجراء بحث رصين، وما عادت عصامية التكوين تستكمل تعلمها من خارج مؤسسة التربية وتغنيه بقيم إضافية نوعية كثيرة! حتى ترقى بذاتها وبمجتمعها وبأجيالها الحاضرة والقادمة، فلم يعد واردا ذلك في الحسبان لتعلق المخلوقات بالماديات والمكتسبات المالية وتركيمها وترصيدها في البنوك والعقارات والضيعات والمشاريع التجارية ... فكل الوجود مرتهن للماديات والماليات فقط! وغيره من القيم الإنسانية والفكر التنويري والاستقلالية البشرية والكرامة ورديفاتها الأخلاقية عملة كاسدة في المجتمع، بل هي عنوان التخلف والتأخر والبلادة والحمق والإعاقة النفسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وإن شئت هي عدم في عالم الأشياء، ما عادت تستهوي إلا المتخلفين عقليا ونفسيا مثلي!؟ وأما ما يصنع للإنسان والمجتمع القوة والسطوة في عالم الأقوياء فمؤسسة التربية بعيدة عنه كل البعد؛ فهي مازالت تروج للأساطير والخزعبلات والهمروجات والتخيلات المضرة بالعقل والفكر والمستقبل، القاتلة للكفايات والإرادة والإبداع والابتكار. ومازالت تسكن العقل بمسكنات الماضي وإنجازاته العظيمة، وتغرق في الماضوية إلى أذنيها معتقدة أن ذلك هو المدخل الحقيقي إلى عالم التقدم والقوة والحضارة أو تردد ما قاله ويقوله الآخر كالببغاء. وتجنت على الماضي والحاضر والمستقبل، وعلى ما احتوى من إنجازات وعطاءات فكرية، ما كانت لتكون لدينا تراثا يستشهد به في العطاء فقط وإنما تكون مصدرا ومرجعا لحاضرنا الحضاري نبني عليه تقدمنا إزاء الاستفادة من الفكر الإنساني العالمي في ذلك، لكن حنطونا فيه وبه في أحسن أحوالنا دون أن نفقه منه شيئا! وادعوا البدعة على الخروج عنه، وبالمروق منه على كل نقد له، وما برحوا يشهرون بكل منتقد فاحص لأخطائه المعرفية والتاريخية أو يعدمون من لم يقل بقولهم فيه! مؤسسة تربية في هذا الزمن عاجزة عن تغيير ذاتها فبالأحرى تغيير المجتمع وهي تئن تحت وطأة واردات المجتمع إليها، تلك التي تغيرت لغتها من لغة عربية إلى دارجة هجينة، استقطبت لغة الشارع الموبوءة بمعجم ناب الألفاظ، قمته سب الدين، وقاعدته ما استهجنه السمع من ألفاظ المياه العادمة وقنوات الصرف الصحي. لغة؛ احتارت في نسبها وكينونتها وانتمائها! هي السائدة في السوق اللسني المجتمعي الرائج في الشارع والأسواق والمركبات التجارية الضخمة والمقاهي والملاهي ... يستحي السمع السليم في موسيقاه سماع ذلك المعجم على لسان بشر لا يشبه البشر إلا في الهيئة، أما المضمون فهو خارج عن إطار الإنسانية بمفهومه الروحي والأخلاقي والقيمي والوجودي! كائن مؤذ جارح ...

في ظل هذا الواقع المر الذي تعيشه مؤسسة التربية تحت سقف السياسوية التي انقلبت عن السياسي بفعل الذئاب السياسوية في مبادئه وقيمه إلى نقيضه، وتحولت من الثورة إلى الثروة، وما برحت تنقل البندقية من كتف إلى أخرى، وترتدي من الألبسة ما خيط لها، ومن الألوان ما أختير لها ... حتى انبرت خطيبا في محافلها الفرجوية تبرر ما استنكرته البارحة وعارضته بشدة، وتزيده من مسحوقات التجميل اللغوي والأدبي والمشاعري والإيديولوجي والإثنوي والعقائدي ما يسهل هضمه من السذج، وما يفتن عقول وقلوب طرر الدنيويين، ويذكي الحماس، ويثير الإحساس، ويفرز الأدرينالين في التابعين الطامحين إلى الوصول لحواشي الموائد والفوائد مع أسف من فقدوا ثقتهم بوعود أولئك السياسويين الذين أوهموا الأوطان بالآمال والأحلام وأداروا ظهورهم لحكيهم مهما كان جميلا ومنمقا ومدغدغا للأحاسيس. قلت؛ في ظل هذا الواقع المؤلم والحزين والكئيب تنبعت أسئلة جوهرية لابد من طرحا مهما كانت درجة حرارتها وحرقتها لأنها تمس الحقيقة التي لامحالة ستنجلي يوما ما في واقعنا المعيش، ونكون حينئذ مضطرين للإجابة عنها، فالتاريخ لا يرحم الأمم ولا الشعوب ولا الأفراد، فهي أسئلة قائمة في مؤسستنا التربوية بأسبابها، من قبيل:

ـ هل مؤسسة التربية مازالت قائما في مجتمعنا شكلا ومضمونا؟

ـ  إلى أي مدى تلعب دورها الحقيقي الواجب عليها في المجتمع؟

- إلى أي حد مازالت تحمل مشعل التغيير الفكري والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي والحضاري للمجتمع والأفراد؟

ـ إلى أي حد يثق فيها المجتمع ويسلم لها سدة الريادة في التغيير؟

- إلى أي مدى مازالت تصنع المفكرين والفلاسفة والعباقرة والمثقفين المتنورين إزاء صناعة الإرادة الصلبة والقوية التي تجر قاطرة التقدم؟

ـ ألا تصنع الجهل في وقنا الحاضر؟

ـ ألا تستحق مؤسسة تربيتنا إحداث رجة في قلبها وعقلها وفعلها؟

- ألا تستحق إحداث قطيعة مع كل ما يشدها إلى الخلف ويخلق فيها التخلف والتأخر والبؤس الفكري والعملي والروحي؟

ـ ألا تستحق مؤسستنا التربوية الأفضل في كل شيء؟

- ألا يمكن نزع صب النفايات السياسوية والنقابوية عنها حتى تسلم من عللها؟

أسئلة يجب طرحها بكل جرأة أدبية دون خلفيات أو أفكار أو مواقف أو ظنون أو شكوك استباقية، والتصدي للإجابة عنها بكل جرأة وإرادة ومصداقية دون مجاملات أو نفاق اجتماعي أو وظيفي. فللإجابة شروطها ومتطلباتها وظروفها وأساسياتها حتى تؤدي دورها الإيجابي في حل المشاكل والإشكاليات التي تعيشها مؤسسة التربية، ولكي تجد الحلول الحقيقية والواقعية التي تناسب تلك المشكلات والإشكاليات والقضايا المرضية التي تؤخر مؤسسة التربية في المجتمع، التي يجب أن تكون في وضع أفضل من جميع المناحي! فهل نبقي مؤسسة تربيتنا في الإنعاش الوجودي نلقي عليها نظرات الحسرة والألم بين الحين والآخر، ونجلب لها قوارير الأكسجين لنفلتها من السكتة القلبية، ونخلصها من الموت المحتوم أم نذهب بمشرط الجراحة إلى أورامها لبترها كليا عن جسمها حتى تسلم وتغنم؟! فهذه المؤسسة معني بها الجميع لأنها شأن عام؛ الجميع أمامها سواسية في الاهتمام، وهم في المسؤوليات اختلاف درجة ونوعية ودور. لا يمكن تركها لوحدها تعاني من التشنجات السياسوية والنقابوية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والإيديولوجية والفكرية والسجالات الفارغة المبيدة للفكر والعقل والروح، وعائدها السلبي القاتل لها! والله وبصدق النية والقلب والقول كفانا مضيعة للوقت، فأجيالنا تضيع بين أيدينا ونحن السبب والوسيلة، وسيحاسبنا التاريخ وتلعننا الأجيال القادمة؟!

 

عبد العزيز قريش

 

 

في المثقف اليوم