قضايا

علي ماجد شبو: "عبث" البير كامو والثورة المهانة في محركات الربيع العربي!

لا شك إن العنوان أعلاه يُعجّل بإفلات سؤالين هامين ومُلحّين: لماذا البحث في مفهوم "العبث" في هذه الأوقات التي تمر بها المنطقة العربية؟ وأليس مفهوم "العبث"  قد أُشبع بالبحث على مدى العقود الثمانية المنصرمة؟ وللإجابة على السؤال الأول، يكفي ان ننظر الى هذه الوقائع التي ترسم أيامنا وتجفف طموحاتنا، ننظر من حولنا، نظرة عميقة، وبمعايير غير تقليدية، الى الواقع الذي تعايشه مجتمعاتنا العربية، على إختلافاتها وعلى تنوعها، هذه النظرة، ستفرز أنقى وأوضح حالات "العبث" ضمن الفكر الفلسفي لكامو، وسأسرد بعض الأمثلة، كتطبيق عملي للمفهوم الفلسفي، وكإسناد لهذا القول. أما الجواب على السؤال الثاني فأختصره بلا لم يُشبع بالبحث بعد، (خاصة وان البير كامو يعود وبقوة لتصدر المشهد الثقافي، في فرنسا وأوربا عامة، في العقد السابق كما الحالي) وإن ذات الوقائع، المشار اليها، للمجتمعات العربية تؤكد ذلك. وقائع لا تحمل بذور لمستقبل مشرق، ولا ليقينيّة مصيريّة ترفع من الأرواح المرهقة الكهلة قدريّة حياة لا تُليق بالإنسان، ويقينيّة موت يقضي على منجزات تاريخ برمته.

لنتسائل أولاً، أمام مرآة القلب، كيف تجري حياة البشر عامة؟ الاستيقاظ صباحا، ثم الذهاب الى العمل، توقف للغداء، ثم الرجوع الى عمل، عودة الى البيت، عشاء ثم نوم. هكذا يوم السبت وكذلك الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، [1] ويتكرر ذلك في الأسبوع الذي يليه ثم الشهر الذي يليه وتمضي الأيام والأسابيع والشهور والسنين بدورات متكررة، بملل شديد، وبرتابة ممنهجة، متأنية، ترفض المفاجئات التي لاترتكن الى هذه الدورة الحياتية الرهيبة. ولكن قد يحدث ، في إطار هذه الدورة الجهنمية، برق في وجدان الانسان يحمله الى الوعي بما يجري، الوعي المتعطش لكشف أسرار الحياة واسرار العالم، الوعي الذي يبحث عن كنه هذه الحياة. وعي يتفحّص هذا الشرخ العميق بين الروح وبين عالم أخرس. قد يأتي هذا الوعي عند "منعطف شارع" او عند "بوابة مطعم" كما يقول كامو. وعندها يبدا التساؤل عن جدوى هذه الحياة؟ وعن معناها المفقود؟

ليس هناك جواب واحد مقنع للإنسان الذي يشغله هذا الصراع القائم بينه وبين العالم. صراع مع عالم بلا أحاسيس قادرة على تلمّس أوجاع الألم او حرارة الأمل. وهنا يتعمّق الشرخ الكبير بين عقل الانسان وبين العالم، ويتسع هذا الشرخ كلما تعمّق وعي الانسان. ومع ذلك فهناك عدة أجوبة سهلة، تحاول أن تجسّر الهوة بين الانسان والعالم، ولكنها لن تُحيّد الصراع القائم بينهما، أولها، الإجابة النابعة من "الإيمان" والقناعة "بالحياة الأخرى" وما تحمله من قيم عدالة ومساواة، مفقودة في هذه الحياة. والاجابة الثانية مبنية على "منظومة أفكار" وأيديولوجيات ويتوبيات سياسية او اجتماعية تحمل "مشاريع آمال" لحياة أفضل من الواقع المعاش. والإجابة الثالثة هي تلك التي تعي مآسي الحياة كما هي، وتعي عمق الظلم الناشئ عن فقدان العدالة والمساواة، وتعي حجم الحرية التي تتوق لها الروح، كما تعي هشاشة التحدي بين الانسان وهذا العالم وتقبل ذلك التحدي وتمضي في الحياة كما هي. لا شك ان كل ذلك ينطوي على الكثير من "العبث"، كمفهوم لغوي ولفظي، ولكن الأهم من ذلك، كمفهوم فكري وفلسفي، وهو ما نحن بصدده.

أُستخدم مصطلح "العبث" في الفلسفة  لوصف كل ماهو منفصل عن "المعنى" المحدّد مسبقاً. كما وصُف العبث فلسفياً بإعتباره نتيجة كليّة لحالة العالم. في حين ان البير كامو يرى مفهوم العبث مختلفا في بحثه الفلسفي "أسطورة سيزيف "، فكامو يرى أن العبث هو نقطة إنطلاق وليس نهاية، أي مرحلة الشروع بالحياة. والعبث، في مفهوم كامو، يُمثّل لحظة إدراك شديدة الحساسية للتناقض القائم بين الطموح الإنساني وبين حياة مسلوبة المعنى، فالعبث هو "مواجهة بين اللاعقلانية وبين الرغبة الجامحة في الوضوح والتي يتردد صدى نداؤها في أعماق الانسان".  [2]أي، بتعبير آخر، إن العبث هو حصيلة هذه العلاقة المتناقضة بين لاعقلانية الواقع وصفاء الوعي الإنساني. لأنّ حالة الانفصال التام بين الانسان والعالم، والقطيعة الحاصلة بين الأسئلة الميتافيزيقية للإنسان وصمت العالم المطبق حيالها، هما جوهر مفهوم العبث. ومع ذلك، فإن العبث بالنسبة لكامو، هو حالة إيجابية لإنها تنطلق من أصالة الحياة ذاتها، حيث ان حالة اللامعنى التي تطغي على الأشياء عامة وعلى المحيط الإنساني، بآلامه وآماله، لا تقبل الحلول الجزئية ولا تقبل المراوغة، بل تستوجب التعامل بوعي صافٍ تام يُؤسس لأخلاقيات سلوكية أخرى في مجتمع راكد.

أما في المواجهة القائمة بين الفعل الإنساني وبين رحابة العالم، أو بتعبير آخر، بين الشرط أو الطموح الإنساني في الحياة وبين حالة الحياة "كمعنى ناقص" داخل هذا الوجود، يؤكد كامو مفهوم العبث، بكل كثافته، ضمن هذا التناقض. حيث ينطوي تحت معاني مفهوم العبث، الإدراك المؤلم لهكذا تناقض. فالعبث ليس خياراً فكرياً للهروب من هذا التناقض بأي شكل كان، بل بالعكس "للحفاظ عليه حتى وهو يسحقني، وبالتالي فاني بإحترامي له، أقرّ بما هو جوهرياً فيه. لقد عرّفت (العبث) للتو على انه مواحهة وصراع بلا هوادة" [3]  هذا الموقف الواضح من كامو يُناقض تماماً المفاهيم السلبية الشائعة عن مفهوم العبث وعن دلالاته التهميشية في مسار المجتمعات. فكامو هنا لايبحث عن حلّ لهذا الصراع القائم، بل بالعكس فهو يدعو للاحتفاظ به، ولكن بتغيير مواطن القوة والعزم في هذا الصراع.

كيف ينشأ العبث أو الوعي بالعبث؟ هناك بعض الدلالات والبيئات التي يجب ان تتوفر مسبقاً من إجل إشعال لحظة الوعي، المُلزمة لإكتشاف العبث، من أبرزها: إدراك قيمة الحياة اليومية التي تُستلب ضمن سياق روتيني، ممل، ولانهائي، يُطفئ أنوار الأمل. ثم إدراك، بوعي حاد، حالة غياب العدالة وتسيُّد حالة اللامساواة، ومن ثم الإحساس التراجيدي بالغُبن. وكذلك إدراك وتلّمس حجم القمع والتسلط والاستبداد على مختلف المستويات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، وأخيراً، شحذ الوعي لضرورة الخروج من هذه الدائرة الجهنمية بالتحريض ضدها وبالتمرد عليها. أي ان ادراك عمق التراجيديا اليومية يضفي على الحس العبثي للإنسان طبقة رقيقة وهشّة من حصانة تستقوي بالتمرد وبالتحريض.

يتبلور مفهوم العبث عند كامو بشكل خاص في عدّة أعمال روائية، ومسرحية وبحثية: أسطورة سيزيف عام 1942 ، وهي البحث الفكري والفلسفي الأساسي لمفهوم العبث. تقول الأسطورة، بإختصار، أن الآلهة حكمت على سيزيف بإن يحمل صخرة من قعر الوادي الى قمة جبل، وحين يصل القمة، تسقط الصخرة ثانية الى قعر الوادي وعليه ان يرفعها الى قمة الجبل ثانية، وهكذا تستمر هذه الحالة الى ما لانهاية، أي الى الأبدية. يتساءل كامو عن الجدوى في مثل عمل كهذا، تافه، وبلا فائدة، وبلا آمل. ومع ذلك يرى كامو في عمل سيزيف شيئاً آخر يدفعه الى مواصلة العمل (برفع الصخرة) بلا ملل، وهو "القبول" بذلك الوضع، أي "القبول" في التحدي الذي لم يختاره. حيث كان سيزيف، كما يراه كامو، يرفع الصخرة الى قمة الجبل منتشياً انه سيجبر الآلهة على ان تعمل على إسقاطه الى قعر الوادي وهو يعاود حملها ثانية. وهكذا بلا انقطاع على إمتداد الأبدية. هذه هي شرارة المفهوم الفلسفي للعبث عند كامو. لاشك ان هذه الحالة تمثل التراجيديا البشرية بكل خيباتها وأوجاعها، ولكن أيضاً بكل صفائها ونبلها.

هذا البحث النظري الفلسفي للعبث غرسه كامو بتطبيقات عملية في جميع أعماله على تنوعها، فنجد ذلك في رواية "الموت السعيد" (كُتبت بين عامي 1936-1938 ولكنها طُبعت للمرة الأولى عام 1971 أي بعد حوالي عقد من وفاة المؤلف ) ورواية "الغريب" عام 1942 وفي مسرحيات "كاليجولا" (كُتبت هذه المسرحية عام 1938 وعُرضت لأول مرة على المسرح في عام 1945 )، و"سوء تفاهم" 1944 ، وهي نموذج مفجع لوقائع العبث، و"حالة حصار" 1948 (وقد كتبت هذه المسرحية الاخيرة بطلب ودعم من الممثل والمخرج الفرنسي الكبير جان لوي بارو والذي قام أيضا بإخراجها وتمثيل الدور الرئيسي فيها). وكذلك في الأجزاء الثلاثة من يوميات البير كامو. عقب ذلك، البحث الفلسفي المعروف "الانسان المتمرد" ثم روايتي "الطاعون" و"السقطة" وكذلك مسرحيتي "قدّاس لراهبة" 1956 (إعداد مسرحي عن قصة بنفس العنوان لوليام فولكنر) و"الممسوسون" 1959 (إعداد مسرحي عن دويستوفيسكي). نجد في جميع هذه الاعمال تطبيقات لمفهوم العبث وما ينطوي عليه من تحريض وتمرد.

لعل أهم أكتشافات الامبراطور "كاليجولا"، في المسرحية التي تحمل نفس العنوان، هي "أن الناس يموتون وهم ليسوا سعداء". حقيقة مفجعة حقاً، إلاّ أنها لا تمنع الناس من مواصلة حياتهم كالمعتاد. هذه الحقيقة جعلت من كاليجولا، هذا الإمبراطور المستبد، يُمعن في إذلال كل مَنْ من حوله، لا لذنب بعينه، بل لانهم كانوا يمثلون بالنسبة له حالة الإستكانة والركود والخنوع التام لمصائرهم، بلا تساؤل أو أحتجاج. مالذي قاد كاليجولا لهذا الاكتشاف؟ هل هو إنسداد أفق الحياة؟ ام هو رغبة في نموذج آخر من الحياة؟ أو لانه لم يستطع "إمتلاك القمر"،  [4] (كاليجولا المشهد الرابع)، أي أنه لم يستطع ان يُمدد بحدود سلطاته وإستبداده الى الكون الفسيح. والتساؤل الأهم من ذلك، مالذي دعى كاليجولا الى هذا الاكتشاف؟ أي ماهي الموانع اليومية لبناء أفق واسع يحتمل السعادة والتعايش مع الواقع بكل أبعاده؟ إن الإجابة على تلك الأسئلة هي التي تشكّل، الى حد بعيد، فهم "العبث"، كمفهوم فكري وفلسفي بعيداً عن المفهوم اللغوي المتداول. ولكن، وكمحاولة للإجابة، من زاوية أخرى، فإن العالم الذي يحيط  بالإنسان، عالم لا أُبالي، عالم أصم، خالي من أحاسيس تلمّس الأوجاع والألم، أو اللهفة لإنتظار شعاع من الأمل، ولذلك يتسرب "العبث" بكثافة ليكوّن "الرابط الوحيد" بين الانسان والعالم. هذه المفارقة المأساوية تأخذ شكلاً واقعياً اذن، فهي التي تشدّ الانسان والعالم الى بعض، مفارقة تنطوي على التناقض بين التوازن الهش وبين أحاسيس التحدي، واليأس، بل وحتى "الكراهية". إن هذه الاحاسيس، على الرغم من عدم إنسجامها مع بعض، تستطيع ان تكون سبباً لتشبث البشر بصلات مصيرية مع العالم.

ماذا يحدث عند تبلور الإحساس بفقدان المعنى "المفترض" للحياة؟ وهو المعنى الذي يتخذه الناس لمواصلة الحياة. لنستعرض قليلاً اين يمكن ان يتمركز هذا المعنى بالنسبة للناس عامة. إن معنى الحياة يتمركز، بالنسبة لبعض الناس "بمصدر الدخل" أي "بالعمل" والمشاريع المرتبطة به، وبالنسبة للبعض الآخر يتركز في علاقة عائلية أو حميمة مع شخص قريب جداً او "الحبيب اوالحبيبة"، ولغيرهم يتركز المعنى في دوام "الصحة" والعافية. وهكذا، فإن فقدان المعنى هنا يكون سبباً كافياً لبعض الناس لإنهاء حياتهم، عبر "الانتحار". هذا هو الخيار الأول المتاح، فحين يشعر الانسان بهذا الطلاق بينه وبين العالم، يتزايد إحساسه بأنه قد أخفق حياته، وتسرّبت مشاريعه الواحدة تلو الأخرى نحو زاوية مغلقة من حياته التي تمّ إستلابها تماماً. "فالعبث بحدّ ذاته يُمثّل التناقض" [5] ، ويزاد إحساسه بالوحدة الباردة في مملكة هالكة، ولا يتمكن من إلتقاط أية إشارات تصالحيّة بينه وبين العالم. ينتحر، لأنه ببساطة، حين يختفي السبب، الذي يُضفي شرعية على وجوده، فيتحول ذلك السبب ذاته، الى مبررٍ كافٍ لموته. ينتحر، لانه يرى في ذلك إنهاءً لحالة "العبث" التي تغلّف حياته والعالم. ولكن الوجه الاخر من الحقيقة يرفض هذا الخيار لانه من غير الممكن معالجة حالة "العبث" بالأستسلام التام بالانتحار، بل، بقدر ما يكون بالوعي الصافي، الواضح، الرافض للمراوغة والخداع، والرافض لجعل الانتحار مشروعاً ينتصر على مشروع الحياة. قوة الرفض هذه تبرز من خلال التمرد والثورة، إحساسان يتجسدان في فكر وسلوك وأخلاقيات الانسان وسيرافقانه على إمتداد حياته. فالتمرد والثورة هما ثمن الحياة التي نعيشها، أما الانتحار فهو إذن خيارٌ مرفوضٌ بالمطلق. يقول كامو "إني أستخلص من العبث ثلاث نتائج: تمرّدي، وحريتي وشغفي. وبإدراكي ووعيّ أحوّل ذلك الذي كان دعوة للموت إلى أن يكون قاعدة للحياة.  وانا أرفض الانتحار"  [6]

في حين ان الخيار الثاني للرد على عبثية الوجود يتوّلد من فكرة الخروج من هذا العالم، الذي نعيشه عبر، الإيمان، والقناعة وكذلك الوجدان والمخيال الى عوالم أخرى، تمنح السكينة والسلام وتزيل التوتر الوجودي عبر الأرتهان الى عوالم ميتافيزيقية أخرى. عوالم تعوض عما تفتقده هنا في هذا العالم، بل وتعطيك أجوبة مريحة للأشياء المستحيلة، أجوبة بحجم أحلامك ومخيالك وأوهامك. من ضمن هذه العوالم، "العالم الآخر"، كما هو الحال في بعض الديانات. إن أهمية العالم الآخر تكمن في ان الجميع يتساوى فيه بعدالة إلاهية، وبحريّة مطلقة، غير معهودة، على هذه الأرض، يضاف الى ذلك وجود "الجنة" التي تعوض عن الحرمان في الحياة الارضيّة، ففيها متع لم تنشأ على الأرض على الإطلاق. ثم والأهم من ذلك كله، لم يعد للحياة في ذلك العالم الميتافيزيقي حدود فانية، فالخلود والأبدية هما فقط حدوده. هذه العوالم إذن، تسمح للإنسان بأن يتجسد فيها عبر الإيمان والقناعة بما هو عليه، فهي تحرره من فكرة ان الحياة فارغة ولا معنى لها، وبهذا تُلغي التوتر الذي يعيشه بحياته اليومية، وتمكنه من الاستمرار في الحياة دون أسئلة محيّرة، وبلا حاجة الى أجوبة ملتفّة. يرى كامو ان هذا الاختيار وسيلة ناجعة وفعّالة لمواصلة الحياة، ومع ذلك يصفه بانه خيار "جبان نوع ما" في التعامل مع معنى وجودنا، ثم يصف هذا الخيار "بالانتحار الميتافيزيقي". وهناك أيضاً، بالإضافة الى العوالم الميتافيزيقية، عوالم اليوتوبيا Utopia (الأحلام الطوباوية أو المدينة الفاضلة) التي تضم "إيديولوجيات" فكرية وسياسية تنطوي على تحقيق آمال جماعية بفردوس أرضي مشابه للجنة الموعودة، ولكن الحقيقة ان غالبية هذه الأيديولوجيات مغلقة تماما على نفسها، وإقصائية، على الرغم من بيانات الانفتاح والحرية، ولكن هذه الايديولوجيات تجعل من معتنقيها، غالباً، أسرى أحلام وأوهام كبيرة، أي أسرى لعالم بلا نوافذ ولا أبواب.

الخيار الثالث هو القبول بالأمر الواقع، أي "القبول بالحياة" كما هي، وذلك يعني القبول بحياة فاقدة المعنى، حيث ان الإقرار بذلك هو إقرار بالعبث. أما خلاف ذلك، فسيصبح من اللامعقول تماماً الشروع ببناء معنى للحياة قبل "الاعتراف" بأنها لا تملك أساساً أي معنى، بل أن كامو يمضي الى ماهو أبعد، فهو يرى أن ذلك يجب ان يثنينا عن مجرد المحاولة أو الشروع في بناء "المعنى". إن الوجود المجرد في هذه الحياة، والإقرار بالعبث، هما التحدي الأول في "القبول" بالاستمرار في هذه الحياة، وهو ما يُضفي الشرعية اللازمة على التمرد بل والثورة. "من الممكن أن نبيّن أنه لا يمكن أن يكون هناك سوى عالمين محتملين لعقل الإنسان ، عالم المقدس، وعالم التمرد. إن اختفاء أحدهما يعادل ظهور الآخر، على الرغم من أن هذا الظهور يمكن أن يحدث في أشكال وأساليب مقلقة" [7]. إن القبول بالحياة بوعي واضح، صاف، وتام، بلا مراوغة او مخاتلة، يستوجب الشروع بالتحدي الذي يفرضه ذلك الوجود في الحياة. ذلك التحدي الذي يمنح الحياة قوة الخصم في هذا الصراع غير المتكافئ والمتأتي من انعدام القدرة على الاختيار المطلق والحر. ولهذا فإن موقف التحدي يُجرّد مشاعر الضحية عن مسار الانسان. فالتحدي يستوجب الاعتراف بالخصم، وبامتلاك الزخم والقوة اللازمين للتشبع بالتمرد والثورة، فبهما تكتمل شرعية الوجود الإنساني في هذه الحياة. شرعيّة تستكمل قوى عيش الحياة بشغف مكثف وسعادة لا تخادع.

من أين جاء كامو بهذا المفهوم؟ لاشك عندي بأن كامو، كان قد إستقى هذا المفهوم من شواهد المآسي اليومية لحي "بالكور" العمالي الفقير، في الجزائر العاصمة، حيث نشأ، ومن المآسي الإنسانية الكبرى التي حدثت في الحربين العالميتين في أوربا ودمرت المجتمعات والمدن والتراث، وتركت العالم مهشّماً إنسانياً، ولم تعد النظرة الى ماهو يومي في الواقع المعاش تتضمن بالضرورة آمالاً لمستقبل يُرجى له. لذلك كانت أفكار وفلسفة كامو، في الكتابات الأولى، قائمة على العبث بمفهوميّ "الوعي والحرية". وقد برزت هذه المفاهيم في أعماله الأولى مثل "القفا والوجه"، و"الغريب" و"أسطورة سيزيف"، ومسرحيات مثل "حالة حصار"، و"كاليغولا"، و"سوء تفاهم" و"العادلون". ثم في مرحلته الثانية تعمّقت تماما ابعاد ذلك "الوعي" وتلك "الحرية" لتشمل "التمرد والثورة"، وكان من ابرز أعماله الانسان الثائر وروايتي "الطاعون" و"السقطة" ومجموعة من ستة قصص تحت عنوان "المنفى والملكوت"، إضافة الى مسْرحة وإعداد نصوص حوالي ستة مسرحيات من الأدب العالمي منها "قدّاس لراهبة"، عن وليم فولكنر، و"الممسوسون" عن دويستوفيسكي.  مع ملاحظة أنه كان لمفهومي التمرد والثورة بذور في جميع الاعمال الأولى لكامو، وإن كانت بدرجات متفاوتة.

قبل أن أبدأ بمحاولة النظر في تطبيق مفهوم العبث، عند كامو، على الربيع العربي والمجتمعات العربية، أرى من الضروري، هنا، التساؤل ولو بإيجاز شديد، عن التاريخ الشخصي لكامو فقد يساعدنا ذلك على فهم ما أحاول تطبيقه على المجتمعات العربية : وُلد البير كامو ونشأ في حي بالكور العمالي الفقير، في الجزائر العاصمة، وقد قُتل والده (الجندي) في إحدى معارك الحرب العالمية الأولى وهو مايزال طفلا صغيراً، ولذلك فهو لم يعرف أباه أبداً. أما أمه فقد كانت سيدة مكافحة تعمل لتُعيل صغارها. كان كامو من بين الطلبة المتفوقين في دراسته. ثم بدأ بكتابة مقالات مختلفة وبدأ حياته كصحفي وكفنان في مجال المسرح. هذا بإختصار شديد، ثم انتمى في ذلك الوقت، 1935 ، الى الحزب الشيوعي. وذكر هو ذلك في رسالة الى جان جرونيية (أستاذه، ومستشاره وصديقه) "لدي رغبة عارمة في تقليص حجم التعاسة والمرارة اللذان يُسممان الإنسانية" [8] ، وبقي في الحزب لمدة عامين فُصل بعدها بعد ان كتب مقالات ينتقد فيها الحزب الشيوعي. فقد أسرّ كامو الى أستاذه جان جرونيية "بأنه كان مجبراً بأن يكون شيوعياً لكي يبقى قريباً من الناس الذين ينتمي اليهم، قضية العمال في الجزائر والتي تبنّاها الحزب الشيوعي، ولكن كامو كان حذراً من الأهداف الأخرى للحزب الشيوعي كما ذكر جان جرونيية في كتابه عن كامو" [9]

في عام 1943 كان كامو يُدير، في فرنسا، الجريدة السرّية للمقاومة الفرنسية ضد النازية المسماة Combat أي "المعركة". وكان دوره في المقاومة، ومواقفه بإتجاه قضايا الحرية والعدالة والمساواة قد وسمت تاريخه و تاريخ تلك الفترة. مايشوب تاريخه هو موقفه من الجزائر والذي كان لا يؤيد فيه المقاومة المسلحة، بل المقاومة ضمن واقع الجزائر الفرنسية. أي انه كان بالضد من آمال ورغبات الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال. كما عبّر عن ذلك الكاتب والروائي الجزائري "واسيني الأعرج" "كل هذه القوة وهذه الطاقة الخلاقة (عند البير كامو) غيّبتها الخيارات اللاحقة لألبير كامو عندما أصبح صوت الجزائر الأخرى جزءاً من المنظومة الثقافية الباريسية في ذلك الوقت. فجأة سكت الطفل الإسباني/الجزائري الفقير (إشارة الى الأصل الاسباني لكامو عن طريق أمه والى الأصل الجزائري عن طريق مولده وعيشه في الجزائر)  بسبب إنتصار البير كامو الآخر، الذي أصبح صوتاً فرنسياً ثقافيا كبيراً يدافع عن جزائر متعددة تحت راية الاستعمار الفرنسي، جعلها إندلاع الثورة التحررية، غير ممكنة، بل بلا معنى". [10] ونرى تأكيد ذلك في مقولة كامو، نفسه، والمعروفة: "إذا كان عليّ أن أختار بين أمي ووطني فإني سأختار أمي". وكان كامو يقصد هنا بوطنه الجزائر، وبأمه فرنسا.

هذه المقدمة الموجزة للغاية عن حياة كامو كانت مهمة لإعطاء صورة ولو مصغّرة، مع أنها غير منصفة بالتأكيد، عن إنتماءاته الفكرية والمبدئية داخل حركة المجتمع. فكامو لم يكن، ضمن مفهومه للعبث، سلبياً بمفهوم الانسحاب من دورة الحياة او من ديناميكية المجتمع، بل كان فعّالاً بقوة، ككاتب ملتزم بقضايا الوطن، (وطنه فرنسا الذي أختاره) وكمفكر منشغل بهموم وآفاق الانسان والمجتمع، وفنان مسرحي. كان كل ذلك عبر مختلف الوسائط الإبداعية، من المقالات الصحفية والبحثية الى الكتابة الروائية والنظرية الى التمثيل والإخراج في المسرح.

لننظر الآن الى العلاقة بين مفهوم كامو "للعبث" وما يجري في الواقع العربي. كيف يمكن ترجمة  مجموع الأفكار والاحاسيس، فيما سبق ذكره، الى لغة السياسة، دون المساس بالمفهوم، وبالمفردات والمعنى الفلسفي "للعبث" كما حدّد أبعاده كامو؟ أعتقد بأن الوقائع العربية توفّر لنا إجابة واحدة واسعة، وإن كانت بنهايات شديدة المُخاتلة، ودلالات تترصد المعنى، وأعني بذلك "الربيع العربي". ومن هذا "الربيع" سأسعى ان أجعل اللغة لا تبتعد كثيراً عن المفهوم الفلسفي، ولا تقترب كثيرا من لغة السياسة. إنما لغة تنشغل بالانسان وهمومه وهي لغة مقبولة من الجانبين، رغم ان كليهما لايتفقان.

ان المجتمعات العربية ترضخ، تقليدياً، الى حزمة من إنظمة الاستبداد الذي يزيد من فقره وحرمانه. فإن فقراء هذه المجتمعات تعاني من الاستبداد بألوانه السياسي، والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فعلى الصعيد السياسي أعتادت هذه المجتمعات بأن ترى حكّامها، عموماً، لايمتّون الى البشر بصلة، فهم آلهة خالصة، وبأحسن الأحوال أنصاف آلهة، تأمر بكل شيء ما عدا الإنصاف والعدالة وما عدا إشباع شغف الناس بالحرية. أما على الصعيد الاقتصادي، فيظل الفقراء غير قادرين على الاندماج في حركة الاقتصاد الرسمي، فهم يعملون بما هو مُتاح لهم.  وما هو متاح هو سوق الاقتصاد غير المنظم، او غير الرسمي، الذي تحاربه الدولة. أما على الصعيد الاجتماعي فالنتائج التهميشية كانت لها مقدماتها في القمع السياسي والاقتصادي، وأخيراً، على الصعيد الثقافي، نجد أصواتاً تتحدى كل أشكال القمع، فيبرز من بينهم أصوات ثقافية مميزة، في جميع مجالات الثقافة والفنون، تشكل الهوية الإبداعية للمجتمع.

كيف أبتدأت إحتجاجات الربيع العربي؟ إبتدأت من شارع البنوك (وول ستريت) في نيويورك، عقب أزمة الرهن العقاري عام 2008 . ثم أنتشرت، كالبرق، الأزمة المالية حول العالم، وجعلت البنوك العالمية والمحلية لدول عديدة تمرّ بأزمات حادة للغاية أدت الى بيع أصول وإغلاق بعضها. وأثرت هذه الأزمة، بشكل مباشر، على ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية عالمياً. من هذه الأزمة تولّدت حركة إحتجاجية سلمية في إسبانيا باسم الغاضبون (انتقلت فيما بعد الى فرنسا باسم السترات الصفراء والى عدد من دول أوربا). ثم ظهرت قبل ذلك حركة إحتجاج ضد "إفتقاد العدالة الاقتصادية" في نيويورك تحت عنوان " إحتلوا وول ستريت"، وسرعان ما انتقلت هذه الحركة الى عدة مدن وولايات في أمريكا. ساهمت شبكة الإنترنيت بشكل فعّال في إقامة وتسهيل الاتصالات بين الأشخاص الذين يتشاركون بذات الاهتمام. هذه هي البيئة العامة التي سيطرت على العالم في نهاية العقد الأول وبدايات العقد الثاني من هذا القرن. بيئة تشي بنهاية الرأسمالية التي نعرفها، ولعلنا نشهد بداية ظهور نظام إقتصادي سياسي جديد أكثر حنكة وأكثر قسوة ولكن بوجوه "ديموقراطية" لم نعهد مخاتلاتها بعد.

ماهي الأسباب الجوهرية لإنبثاق الربيع العربي؟ وهنا انا معني فقط بالحركات الاجتماعية الحقيقية، المسحوقة تحت ثقل كل أنواع الاستبداد. ولا يعنيني أي جانب آخر. مذكّراً بان من هذه المجتمعات الفقيرة تكونت بؤر شديدة التعصب وشديدة التخلف ولّدت العديد من الحركات الراديكالية. هذا الوضع هو ما إستدعى الحكومات الى تبرير زيادة عنف القمع والاستبداد. ويبقى الامر هنا في دوامة جهنمية، تدور في حلقة مفرغة، بين الفقر والحرمان والطموح الإنساني نحو حياة كريمة من جهة وبين إستغلال هذه الظروف من قبل ايديولوجيات وأفكار متعصبة من جهة أخرى ثم الدورة الأخيرة في زيادة القمع والاستبداد على كل المستويات. الم يكن كل هذا هو العبث بعينه، ثم أليس في ذلك شيئاً هاماً من سيزيف؟

ولنبدأ إذن بالنظر الى الواقع العربي من منظور الشباب. ولنأخذ مثالاً لشاب أنهى تواً دراسته الجامعية خلال العقدين المنصرمين فقط: ماذا يحدث له بعد ذلك؟ في معظم البلدان العربية ليس هناك أدنى ضمانة بان هذا الشاب سيتمكن من الحصول على فرصة للعمل، ناهيك عن أمر التحاقه بعمل ضمن إختصاص دراسته. لأن الحكومات، كما القطاع الخاص، غير قادرين على توفير فرص عمل لملايين من الشباب الذين يدخلون، في كل عام، في طابور إنتظار على أبواب سوق العمل. أي ان هذا الشاب (وهو كناية عن ملايين في المجتمعات العربية) لن يتمكن من أن يحصل على دخل ثابت، وهذا يعني أن تتسرب كل أحلامه الأخرى في الاستقلال المالي وما يتبع ذلك من سكن وزواج وغير ذلك من طموحات ومشاريع. بمعنى آخر، أن المستقبل لم يعد موجودا بافكار، وأحلام وحتى مفردات هذا الشاب. أحساس شديد الخطورة على الصعيدين الفردي والمجتمعي، ويتزايد، لدى ملايين الشباب، الإحساس بإلظلم، كما يتزايد الإحساس بخيبة الأمل و "بالغُبن". ثم إدراكهم المفجع للغياب المأساوي والقاسي لمعايير العدالة في المجتمع.  إضافة الى أن وضعهم المهمش داخل المجتمع يزيد من معاناتهم اليومية من الاستبداد والهيمنة الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية، والثقافية، لذلك فان أعين الشباب تتجه صوب الخيار الأول وهوعبور الحدود نحو بلد آخر "يمنحهم المعنى المنشود لحياتهم". هدف الخروج اذن البحث عن مستقبل مفقود في بلد الموطن.

إنما حين تبدأ آفاق الأمل بالإختفاء، عند هؤلاء الشباب، يبدأ تدريجيا الشعور باللامبالاة و اللاأمل (اللاأمل في فكر كامو لايعني اليأس مطلقاً) ويتزايد هذا الإحساس، خاصة تحت ضغوط القمع الاقتصادي والسياسي وحتى المجتمعي. هنا يبدأ قبول الحياة وقبول الواقع من منظور سيزيفي بحت، أي القبول بهذه الحياة وبهذا الواقع من أجل التحدي. ولهذا الشعور أنماط سلوك غالبا ما تكون معاكسة لبروتوكول وأنساق المجتمع ورغباته. لنتذكر بأن هذا الأحساس برمته هو "العبث".

يتكوّن البروتوكول الاجتماعي، عادة، من مجموعة كتالوجات لفظية وسلوكية واخلاقية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن السلوك الأخلاقي وقيم الأخلاق تختلف بإختلاف المجتمعات وإن حافظت على الأسس الإنسانية الأولى لأن " كل الاخلاق تقوم على فكرة أن الفعل له عواقب تضفي عليه الشرعية أو تلغيه". [11]  لهذا فإن ادراك ابعاد تفاصيل كل كتالوج من هذه، ثم التعمّق في الإدراك الى ان يستحيل ذلك الى "وعي" صافي وواضح، ليس فقط لفهم أعماق هذا البروتوكول، بل لتوجيه ذلك الوعي الإنساني الى أعماق ذاته. ومن مرآة هذه الذات ينعكس الإحساس المفجع بان الحبل السري بينه وبين العالم قد أنقطع. هذا الانقطاع يُغذي الوعي بالخيارات المحدودة التي تفرزها الحياة، وبالعرقلة الشديدة في التماشي مع أنساق البروتوكول الاجتماعي بكل تنوعاته وتقييداته. "فهل نستطيع، بعيداً عن المقدّس وقيمه المطلقة، أن نجد قاعدة للسلوك؟ هذا هو السؤال الذي تطرحه الثورة" [12]

قد يتأتى "الوعي" من التفكير والتأمل الطويل لمجرى الحياة اليومية، ولكنه قد يأتي أيضاً، بجدحة (قدحة) فكر تزيد من عمق الإدراك لما هو رتيب ويومي، ويزيد من خواء الأيام المتشابهة والتي لاتحمل إلاّ تكرارها في كل مرة. إنبثاقاً من هذا الوعي ستنشأ خصومة حادة بين الفرد والنسق الاجتماعي العام قد يُحيل الفرد الى إنسان غير متجاوب مع تفاصيل الحياة اليومية، ويُركن في زوايا سلبية أو هامشية من حركة المجتمع. اما الانسان الذي أستيقظ على ذلك "الوعي" الصافي فهو الذي ينشأ لديه "الحسّ العبثي" لإنه لا يتعامل بسلبية مع أنساق المجتمع بل يمهد أجوبته بسلسة من التفاعلات السلوكية والفكرية والأخلاقية التي تسمح له ليس فقط برفض ماهو سائد إجتماعياً، بل للتمرد على أنساق ذلك المجتمع ثم، أخيرا، الى شحن الإرادة الملحة للتغيير، أي الى الثورة. والثورة، عند كامو، لا تأخذ شكلاً عنيفاً، بل حالة من حالات التفاوض مع الحياة العبثية. (أشير هنا الى مفهوم الثورة في مسرحية العادلون). هنا يتحول كل شاب من المجتمعات العربية، وبهذا الصفاء والوعي، وبهذه المواصفات، الى سيزيف حداثوي يُمارس عليه حكماً قاسيا بتحييده من دورة الحياة ولكنه يقبل التحدي من أجل بناء حياة جديدة ليس له فقط بل و للمجتمع. يقول كامو " أنا أثور (أو أتمرد) إذن نحن موجودون. (ثم يضيف) ونحن وحيدون". [13]

وبالعودة الى حالة الربيع العربي، فاني أشير هنا الى المثال المفجع الأبرز هنا، فيما أعتقد،  وهو محمد البوعزيزي، بائع الخضار، التونسي، المتجول بعربته. وهو الانسان الذي لم يتمكن من إيجاد عمل يُعيل به نفسه وأسرته فاضطر الى سلك هذا المسلك من الاقتصاد غير الرسمي، والمسمى أيضاً بالقطاع الاقتصادي غير المنظم، والذي يكون ممنوعاً بقوة القانون، فالدولة تُمارس حالة من حالات الإقصاء الاقتصادي، أي الأبارتايد الاقتصادي، ضد مواطنيها الفقراء الذين لايملكون الوسائل لتسوية أوضاعهم قانونيا، وفي نفس الوقت لا تتبنى الحكومة أية تشريعات قانونية تسمح بإدماج هذا القطاع، غير الرسمي، ضمن دورة الاقتصاد، أو على الأقل التغاضي عنه، خاصة وأنه يمثل مصدر عيش لعدد كبير من العائلات الفقيرة في معظم المجتمعات العربية. الحكومات في المنطقة العربية، وبضغط كبير من منظمات البرتون وود (مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهم) مهتمة بتعزيز ثوابت النظام الرأسمالي، بشكل تدريجي، في مجتمعات لا تمتلك المعايير لذلك. بمقابل ذلك تتقلص هوامش الحريات بخديعة الانتخابات والديموقراطية التي تبدو في هذه المجتمعات إنتقائية الى حدّ بعيد.

لم يكن البوعزيزي مهتماً بالسياسة، ولم يكن لديه ترف الوقت للاهتمام بذلك، فهو بالتأكيد ليس ناشطاً سياسيا، ولا ناشطا إجتماعياً، تحت أي بند كان، ولا يحلم بالديمقراطية، ولاتعنيه الانتخابات، فهو معني فقط بحريته في العمل، وبالكسب الذي يمكنه وعائلته من العيش بكرامة. البوعزيزي أختار "التحدي من أجل الحياة"، ولكن قوانين الدولة منعته من ذلك، فسقطت من البوعزيزي كل الخيارات التي يعرفها، ووجد نفسه وجها لوجه مع حياته المفرّغة من المعنى، فقرر أن يتمرد على ذلك، ولكن بشكل سلبي تام، فإنهى حياته بأن أحرق نفسه في شتاء ذلك اليوم البارد من السابع عشر من ديسمبر (كانون الأول) عام 2010 منهياً بذلك مشاريعه في العيش. العيش ضمن الهامش الذي تسمح به السلطات. الشاب محمد البوعزيزي ليس وحيداً في مجتمعاتنا العربية، فمثله ملايين على إمتداد الجغرافية العربية. إنما يبقى محمد البوعزيزي مختلف عن الجميع، لانه كان الثائر الأول والذي ضحّى بحياته، فحينما أوقد النار بنفسه، أشعل، في ذات الوقت، حرائق لن تطفأ داخل المجتمعات العربية المختلفة. وكان بلا أدنى شك حالة سيزيفية مجهضة، غير أنه كان أيضاً وبوضوح سبارتاكوس الربيع العربي.

هنا، انا أعتقد بأن الجزء الحقيقي والفعّال والنظيف مما سمي " بالربيع العربي" هو مشاركة هؤلاء الشباب فيه. الشباب الذين تملّكهم هذا الإدراك وهذا الوعي لواقع بلدانهم وسعيهم لتغيير الحال، أي التعامل مع المعنى المُغيب للحياة عبر ماتوفر لهم من آفاق من خلال مختلف حركات وإحتجاجات الربيع، ذلك الربيع المجهض عربياً. لإن "ليست كل قيمة تؤدي الى التمرّد، ولكن كل حركة تمرّد تستدعي ضمنياً قيمة ما". [14] فقد إعتادت المجتمعات العربية أن تفرز معارضات سياسية على قياس الحكومات التي تعارضها، ولذلك فإن الغالبية العظمى من حركات المعارضة العربية هي أسوء فعليّاً من الحكومات، لانها لا تملك أية رؤية مستقبلية حقيقية لتنمية المجتمع. وهكذا، فإن الشروع بالتمرد من قبل الشباب، في هذه الحالة، مثّل الانتفاض على إحساسهم اليومي بكونهم "الضحية". وبدأت، تدريجياً، تتصاغر مشاعروأحاسيس عقد التدني والنقص، التي فرضها المجتمع على الشباب بسبب غياب العدالة، وتعويضها بالحس بالعُليّة وبالمساواة.  هذه المغامرة لا تُحسب بنتائجها٫ بل بالموقف السيزيفي للشباب المتمرد "فليست الثورة في حدّ ذاتها هي النبيلة، بل ما تسعى اليه، حتى لو كانت النتائج متواضعة". [15]  ولذلك فقد كان الدخول في هذه المغامرة من قبل الشباب، بوعي ما، والاستمرار بهذه المغامرة، بغض النظر الى اين ستقود، فعلياً. لأن ذلك شكّل لديهم، بالنهاية، فعل الوجود. لانهم كانوا في ساحات الاعتصام أحياء، ويمارسون وجودهم ببساطة. إحساس إختلسه منهم المجتمع.

"إن الثورة المهانة، بتناقضاتها، وآلامها، وهزائمها المتجددة، وكبرياءها الذي لا يعرف الكلل، يجب أن تعطي مضمونها من الألم والأمل لهذه الطبيعة (البشرية)". [16] كانت إحتجاجات الربيع العربي بالنسبة للشباب بمثابة حركة تمرد لعبور الحدود. ليس المقصود هنا الحدود الجغرافية للبلد، وإنما عبور حدود الحياة التي سعوا للوصول اليها، حدود للعبور نحو تحقيق الطموح وتثبيت الحلم. لم يبحث هؤلاء الشباب عن ربيع جديد، يُنشأ لهم أحلاماً مستحيلة، بل أرادوا ان يكونوا، هم انفسهم، عاملاً لتغيير واقع الحال، من واقع التهميش واللامبالاة الذي كانوا يعيشونه الى واقع تحريضي وثوري. أي نحو واقع يحمل آفاق مستقبل لحياة جديرة بأن تعاش. وأن تعاش بشغف وبكثافة. "لا أعرف ما إذا كان لهذا العالم معنى يتجاوزه. لكنني أعلم أنني لا أعرف هذا المعنى، وأنه من المستحيل بالنسبة لي في الوقت الحالي معرفته. ماذا يعني لي ذلك خارج حالتي؟ لا أستطيع أن أفهم إلا من منظور إنساني. ما ألمسه ، ما يقاومني ، هذا ما أفهمه. وهاتين الحقيقتين يفتحا ، شهيتي للمطلق، وعدم اختزال هذا العالم إلى مبدأ عقلاني ومبدأ معقول ، ما زلت أعلم أنني لا أستطيع التوفيق بينهما. " .  [17]

بتعبير آخر، كانت لهؤلاء الشباب محاولة لخلق فردوسهم الأرضي بعيدا عن الأفكار الميتافيزيقية او الأحلام الطوباوية. لم يجدوا هامش من الحريات يتّسع لطموحاتهم، ولا لآمالهم، بل لم يكن هناك فسحة لممارسة حياتهم. لذلك، وبالوعي والإدراك الصافي الذي أحرزوه، فقد قاوم هؤلاء الشباب كلّ الحلول المؤقتة. مقاومة تنطوي على رفض كل "المسكنات" الأخلاقية والدينية والقانونية التي ُتُجبر الانسان على قبول الواقع بمآسيه دون القدرة على التمسّك بالمبادئ والأخلاق الأساسية التي تمنح العزم والقوة لتحدي ماهو قائم من أجل الشروع بالأمل بمستقبل أفضل. فالعبث يتصالح مع الحياة بالقبول، ولكن هذا القبول مشروط بالقدرة على الرفض والجرأة في التحدي. أعتقد أيضا بأن الامر ينحى قليلاً عن العمق الفكري ويتجه نحو سلوكيات مثقلة بمجموعة الأخلاق والمبادئ. وهنا يذكر كامو بأنه " لا يمكن وضع الأخلاق موضع المناقشة، فقد رأيت الناس يتصرفون بشكل سيئ مع الكثير من الأخلاق، وأجد كل يوم أن الصدق لا يحتاج الى قواعد" [18] ولن أسترسل أكثر في نتائج هذا المثال فنحن نعيش هذه الوقائع اليوم. ثم إن الأهمية بالنسبة لي، ليس الربيع العربي بذاته، بل محرّكاته الرئيسية التي أُطفأت. أي الشباب.

وفي الختام، لم يكن الربيع العربي سوى إحتفال بحجم الوطن. احتفال مع كراسي مستعارة، تقابل مسرح هائل بانتظار ان ترفع الستارة، ولم تُرفع. وجمهور يأتي للمرة الأولى متخم بالفقراء وبشباب متعب من البحث عن فرص عمل. يغادر الجمهور، كما الجميع أماكنهم، ويعود الفقراء بعيون حمراء الى بيوتهم.  ثم جاء غيرهم ليستعيد الكراسي التي كان بعضها مقلوبا، والبعض الاخر محطماً وترك على البعض الاخر قناني صودا فارغة لمشروبات أمريكية، وبقايا أقنعة ممزقة. وكانت الارضيّة بإكملها تحمل مخلّفات من هزّة أرضية عنيفة وشديدة الانفجار، لم تحدث، فقد أُجهضت في هذا المكان قبل ان يغادر المحتفلون. الم تكن هذه صورة شديدة المرارة، وشديدة الواقعية ونقية "للعبث"؟ أم أنها إحد وجوه الفشل الذي يُعانيه التمرد حين لم يكن الوعي مستكملاً شروطه؟

***

علي ماجد شبو

......................

[1] هذا الجزء من الفقرة كُتب بتصرف بالاعتماد على النص الأصلي في أسطورة سيزيف: "يحدث ان يتهدّم المشهد، النهوض، الباص، أربع ساعات في المكتب أو في المصنع، وجبة الطعام، الباص، أربع ساعات من العمل، وجبة الطعام، نوم، الاثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس، الجمعة، السبت، طبقاً للنسق نفسه."

Albert CAMUS, Le Mythe de Sisyphe, Ed : Gallimard. Page : 20.

[2] Albert CAMUS, Le Mythe De Sisyphe, Ed : Gallimard Page : 26

[3] Idem Page : 34

[4] Albert Camus, Caligula ; scène IV ; Edition Folio Théâtre  Page : 46

[5] Albert Camus, L’Homme Révolté; Ed : Gallimard, Collection : NRF. Page : 16

[6] Albert CAMUS, Le Mythe de Sisyphe, Ed : Gallimard. Page : 60

[7] Albert Camus, L’Homme Révolté; Ed : Gallimard, Collection : NRF. Page : 29

[8]  Herbert R. Lottman, Albert Camus, EdItion du Seuil, Page : 91.

[9] Idem, Page:  161.

[10] الكاتب والروائي الجزائري "واسيني الأعرج" في مقاله البير كامو، موت الجزائر الأخرى والمنشور في جريدة القدس العربي في 22 سبتمبر/أيلول 2020

[11] Albert CAMUS, Le Mythe de Sisyphe, Ed : Gallimard. Page : 64

[12] Albert Camus, L’Homme Révolté; Ed : Gallimard, Collection : NRF. Page : 29

[13] Idem, Page: 112

[14] Idem, Page: 22

[15] Idem, Page: 109

[16] Idem, Page: 260

[17] Albert CAMUS, Le Mythe de Sisyphe, Ed : Gallimard. Page : 50.

[18] Albert CAMUS, Le Mythe de Sisyphe, Ed : Gallimard. Page : 63

 

في المثقف اليوم