قضايا

هاجر مسرور: يضع عبد الجبار الرفاعي الإنسان أولًا

هاجر مسرورأعلم الخواء. وأعرف الروح الجوفاء، لأني أكون كذلك أحيانًا. أشد ما يثقل قلبي حين أفكر في الشر وأحاول أتحرر منه، وحين لا أجد مهربًا أضطر للرضوخ. أحلام الخلاص، اليوتوبيا، أتذكرها كما أتذكر سنوات المراهقة والسذاجة الطبيعية جدًا، حين تسمع أفكارًا حاسمة وراءها يأتي الخلاص الأبدي، ويخيل إليك أن الانعتاق خطوة، الانعتاق عادة، الانعتاق انغماس في شيء ما، لكنه ليس كذلك. الانعتاق الناتج عن الخضوع لشيء وعبادته ليس انعتاقًا، الحق يُعبد لذاته سبحانه. الانعتاق تحرر وصفاء، أن تعبر الروح بخفة، وأن تتواصل في سكينة مع الحق. أن تملأ خواءها بعيدًا عن تصورات الآخر. الانعتاق إخلاص، إخلاص الباطن. وحده الباطن يهم.

أعرف المحبة، أعرف الدعوات الصادقة وحنو الأمهات. أعرفها لأني أرقب وجه مخاطبي قبل كلامه، وأعلم الطيبة. معنى الحياة طيبة، كما قال فؤاد حداد: الجنة فرط حنان.

تمر السنوات، ويتسع الخواء داخلك، تنظر حولك ولا تجد المثل التي يدعيها المبشرون، تواصل لوم ذاتك وكأن المثال حق، أنت القاصر، أنت المذنب، إنك في فراغ، أنت الأضعف. أنت هنا تخدم الصورة، ماذا دهاك لتتحدث عن المعاناة، معاناة داخلية هي نتيجة لتقصيرك. تقصيرك وحدك. لن تغير المنظومة، هي أكبر منك. أنت من يجدر به التغيير. الزمن تغير؟ ولو... نحن لا نتغير. جئت لتَخدم، لا لتُخدم. أنا خادم له. لن تخدمه بغير معاييرنا.

تقف هناك وحيدا. تستشعر الخواء، لم يُملأ فكرك بالمحبة بل بالإلزام. أنت خائف بينما ترغب في أن تكون متوددًا. تغمض عينيك، تدرك أنك لست بذاك الطهر لتُكشف لك الحجب، ولست بالنور لتطلب، أنت منكسر. أنت إنسان، إنسان فقط. تربت أمك على كتفيك فتطمئن. يومئ الآخر لك بابتسامة فتسعد. وتحزن، تحزن حين تستشعر اغترابك عما حولك، حين تطلب المعنى فلا تجده.كلٌ إلى زوال. أمد يدي إليه فيروي ظمئي. أرغب في أن يكون معي، أن أحبه ويحبني، أن يصير صديقي. أرغب أن أكون به. أن يكون المعنى. أرغب في وجوده داخلي، أرغب في رحمته وفي عطفه. أنا ضعيف، وصدى المتكلمين باسمه زادني ضعفا، حاولوا أن يجعلوا القوة والجبروت طريقا للوصول إليه، أن يقتلوا الإنسان ليصل إليه، أن يذوب ليذيع اسمه. ونسوا أن من يذكره إذا مات في قلب المحبين؟ من يذكره حقًا، كما يحب، كما هو، إذا دمرت المحبة ودمر المحبون؟

أثناء التيه، والتيه طريق الوصول، وجدت مجموعة الدكتور عبد الجبار الرفاعي عن الدين وعن فلسفته. عناوين جذابة وطبعات أنيقة وموضوعات كالنار. من الصفحات الأولى سررت بطريقة الكتابة، الخطاب في معظمه مونولوج داخلي أكثر منه كتابة لشخص آخر. هنا يفضي الرفاعي للورقة، فيقرأنا النص حين نقرأه. كتشبيه الرحمة الوارد في الكتاب وتفسير ابن عربي لها: يرحم الله العبد لا ليُرحم فقط، بل ليصير راحمًا.كل كتابة، وكل خلق، وكل إبداع لا ينشد تأثيرًا في الآخر فقط، بل فعلا موازيًا، وشعورًا يستمد جدوره من عمق كل فرد يواجهه.

الظمأ الأنطولوجي، العطش الذي لا يرتوي إلى المعنى. افتقار للمقدس. افتقار ينبع من طبيعة الإنسان. لقد خلق ليفتقر وليبحث عما يغدي روحه. ووحده هو، يملأ هكذا خواء.

يتناول الدكتور الرفاعي هنا، عناءه مع هذا الفراغ، ومع كل منظومة تدعي المثالية، فتنفي وجود أي ألم، أي مأزق وجودي وأي استشعار للاغتراب. بروتستانتية تتغنى بالدنيا وبأثر الدين على الدنيا، وتجعل الفرد قطعة لصورة مثالية، بينما هو لا صورة له، هو وحده لا يعني شيئًا، هو كفرد، كعالم داخلي، ككتلة من المشاعر والأفكار تتصارع في سياقها التاريخي والفكري مع أقرانها، لا أهمية له. سينسج الصورة ليصير ذا معنى. وإن لم تكتمل الصورة، سنستمر أكثر، وسننحت جوانب هذا الفرد، وقد نغير بعض ألوانه ليناسبنا أكثر ويلائم تصورنا. لا بأس، هذا من أجله. هو لا يشعر بالسلام؟ هذه ليست دار السلام.

يضع عبد الجبار الرفاعي الإنسان أولًا، قبل الدين، قبل الأمة، قبل القبيلة، قبل الدولة. على المستوى الداخلي، وحين يتحدث عن الدين، الإيمان، الأمان، البحث عن المقدس، فالعالم الجُواني للفرد هو المهم، يجب عليه أن يتعلم هذا. الاعتقاد الصحيح، الإيمان الصحيح، الإخلاص الصحيح، الحب الصحيح. لا أن يتعلم الامثتال لهذا أو ذاك، أو لهذا الإطار الفكري أو ذاك. النبع الأول لا يتغير، لكن ما بعده قابل للنقاش والمحاورة في ضوء تأثيره على الفرد. وفي ضوء المعطيات الجديدة وحاجيات الفرد المتجددة.

الفصل الأول في كتابه الدين والظمأ الأنطولوجي يتحدث عن "نسيان الذات"، وهذه خطيئة. أن تنسى ذاتك يعني أنك لا توجد، حقيقة، تصير مرآة، تصير منمطًا كآلاف الأنماط الأخرى المتكررة. في الطريق، لا تنسى ذاتك، ولأنك إنسان، فسينتقل اعتبارك هذا وتقديرك ذاتك نحو أخيك، ولن تنساه. ستحترمه، ستدرك أن الطرق متعددة، وأن قوالب الخلاص هي "قوالب". يفضي إلينا الدكتور عبد الجبار الرفاعي هنا عن معاناته، عن رحلات شبابه الشاقة من تيار لآخر، من فكرة لأخرى، انتقال يعني الحياة. انتقال ينقح الفكر ويصفيه، معاناة تؤدي إلى سلام، إلى رحابة فكرية وإلى تقبل، للذات قبل الآخر.

بعدها سيرينا الكاتب مثالا للبروتستانية، مثالا للإصلاح الذي يبدأ خارج الإنسان، مثالا لاشتراكية مغلفة بطابع ديني. ويناقش كذلك موضوع المتصوفة ورأيه فيه، ويميز أنماط التصوف، ويشدد أن الهرطقة والهيام على الوجه واعتزال الآخر ليست السبل للسلام، السبل للسلام هي الوصال مع الخالق، وفهم الخالق من يوصل إليه. إيمان عميق به يبعث في القلب تقديرًا لكل خلقه. يشير الرفاعي إلى ضرورة الانتفاع بتراث العرفاء والفلاسفة في تقوية روحانية الفرد، ويرفض جزمًا من يصفه بالعلماني المؤمن، يشدد على أنه "مسلم وكفى". اختلاف الرؤى في مقام الدين الأول ووجهته الأولى لا ينزع عن المرء دينه، إلا في ذهن السدج. أي المكانين أقدس؟ القلب أم التراب؟

لنوطن الدين في القلب أولًا. وليكن حضوره فينا شفاء وملجأ دائما ومقصدنا الأول.

 

أكثر رحابة. لنكن أكثر رحابة في تقبل الفلسفة والفكر والعلم وكل التطورات، لنترك للعقل مهمته الدائمة أن يفكر، لا أن يكرر. ولنمنح للقلب طمأنينته، لنخطو إليه على عكازينا معا: العقل والقلب.

لنناقش اللغة، المذهب الأرسطي، التاريخ، التفسير، العلوم، الجينات... لننفتح. هذه دعوة عبد الجبار الرفاعي. ليستوعبنا الدين بكل أجزاءنا، لنستوعبه كله.

اقتباسات من كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي:

"في الأسئلة ليس هناك سؤال أخير. في الفلسفة ليس هناك مفهوم أخير. في الفكر ليس هناك رأي أخير. في العلم ليس هناك نظرية أخيرة. في الدين ليس هناك اجتهاد أخير."

"يؤسفني أنه يتفشى فهم تبسيطي لدى بعض المراهقين، ممن يتشبهون بالمثقفين، يتلخص في: امتناع اجتماع الإيمان مع العقل، أي أن تكون مؤمنًا -في مفهومهم- فأنت غير عاقل، أن تكون عاقلًا فأنت غير مؤمن. أما أن يجتمع فيك العقل والإيمان، مثل: ابن سينا وابن رشد وابن عربي، وديكارت وكانط وكيركغورد، فهذا تهافت."

"المطالعة مهنتي الأبدية، إنها محطة استراحتي، إنها ما يمنحني الرضا، ويحررني من نمطية الواقع وتكراره الرتيب الممل، هي ما يفيض عليّ الهدوء، ويثري لحظات يومي بسعادة غامرة."

"تربيتنا على نموذج الإنسان الكامل، وترسبها في لا شعورنا، جعلنا حالمين ببشر عابرين لطبيعتهم البشرية، مجردين من ضعفهم البشري. كأننا كائنات كاملة لحظة ولادتها، كأن كل شخص في مجتمعاتنا هو إنسان كامل، وسيلبث كاملًا أبدًا."

"يتجلى للمرء أنه حيثما يوجد الحب يتحقق الدين.كما يكتشف أن من لا يحب الإنسان لا يحب الله. ويتذوق كيف أن الحب هو وقود الحياة، حين تفتقر الحياة لوقود يحركها. وأن العجز عن إنتاج الحب هو عجز عن الحياة."

 

د. هاجر مسرور، طبيبة مقيمة في الطب الباطني.

 

 

في المثقف اليوم