قضايا

ثامر عباس: مواضيع ثقافية لم يفت أوانها بعد (2)

(الموضوع / الثاني) : وباء السياسة وشقاء الثقافة

يوم أمس كنا قد نشرنا (الجزء الأول) من هذا الموضوع، وها نحن ننشر (الجزء الثاني) منه، آملين أن ينال اهتمامكم ويحظى بتعليقاتكم .

وهكذا فالكل سيغدو صريع حمى التكالب على السياسة والتغالب على السلطة، حتى وان استحالوا إلى لصوص محترفين أو قتلة عتاة، طالما لا يوجد ما يردع نوازعهم الشريرة ويقمع دوافعهم البهيمية، فضلا"عن تهذيب أخلاقهم وتشذيب سلوكهم وعلقنة وعيهم وأنسنة علاقاتهم . هنا تدخل الثقافة كعامل تنوير فكري وتربية أخلاقية وتوجيه سلوكي وتوعية اجتماعية، يعصم عناصر المجتمع من عواقب الشطط القيمي ويقيهم من مثالب الانحراف الإنساني، ليس فقط لأنها تحضّ (قولا") على نبذ العنف في السياسة والعدوان في الاناسة، والإقلاع عن التعصب في الدين والتطرف في المذهب، والتخلي عن الإكراه في الولاء والإجبار على الانتماء . وإنما بالإضافة إلى ذلك – وهذا هو الأساس من وجهة نظرنا – تبني (فعلا") صرح الإنسان من الداخل، وتنشئ معمار الشخصية من الجذور، وتعمّر مدماك المجتمع من الأعماق .

وعليه فإذا ما تجاهلت السياسة ضرورة الثقافة، لإنارة طريقها وتقويم سلوكها وتحسين أدائها، ووتغاظى السياسيين عن أهمية المثقفين في ترشيد قراراتهم وتوجيه خياراتهم وتفعيل قدراتهم، فان احتمالات شقاء الثقافة ومكابدة المثقفين ستكون واردة الوقوع، إن لم تكن حتمية . وحين ذاك لا علاج يرتجى في مجتمع فقد صمام أمانه، ولا أمل يتوخى في واقع أضاع بوصلة اتجاهه . ولأن امتهان العمل السياسي في العراق، لا يتطلب من المرء سوى توفر روح التمرد للانقضاض على السلطة، ولا يشترط فيه غير حيازة مقومات المغامرة للإطاحة بالنظام – وهو الأمر الذي وسم السياسة العراقية على الدوام بإراقة الدماء والتهام الضحايا – فان الأجيال المحسّنة من السياسيين العراقيين الجدد، وجدوا فيه ضالتهم المنشودة وعثروا من خلاله على بغيتهم المقصودة ؛ ليس لأن العراقيين – لا سامح الله – يحبون الانخراط بالسياسة ويعشقون الانضباط بالسلطة، لأسباب حضارية تتعلق نزوعهم العقلاني لإنشاء دولة وطنية قوية يفتخرون بها، وبناء مجتمع مدني متماسك يعتزون به، وإحياء شخصية عراقية صلبة ينتمون إليها . وإنما لأن السياسة – بعرفهم – هي الطريق الأسرع لارتقاء سدة الحكم، والسبيل الأضمن لبلوغ عرش السلطة، والمجال الأسهل لامساك مقاليد النظام . حيث فرص الاستئثار بالقوة بكل أشكالها، والاستحواذ على الثروة بمختلف أنواعها، والاستفراد بالقيادة بجميع ضروبها، والتحكم بالمصائر بشتى صورها .

وكما في مساوئ عسكرة المجتمع وأدلجة الدين ـ التي لحقت بمكونات هذا المجتمع المبتلى بجهّال السياسة وعيّال المعرفة، فان حصيلة تسييس الوعي وتحزّب الثقافة، لا يمكن لها إلاّ أن تفضي إلى مزيد من الخراب على المستوى الحضاري، والمزيد من الاحتراب على المستوى الاجتماعي، والمزيد من الاغتراب على المستوى النفسي . على خلفية الاعتقاد الوهمي الذي يعشعش في الأذهان ويربض في العقول، والمتضمن إن الخلافات السياسية بين الأحزاب المتصارعة، لا يمكن تسويتها إلاّ بانتهاج سبيل العنف واللجوء إلى القوة، مثلما إن الاختلافات الإيديولوجية بين الكتل المتصارعة، لا يمكن معالجتها إلاّ بترجيح كفة الخيارات التعصبية والعدوانية، كما إن التباينات الاقوامية والطوائفية والقبائلية، لا يمكن تذليها إلاّ باستخدام وسائل التطهير والإبادة والاستئصال .

وفي حين إن بذار السياسة بسيط ونموها سريع وحصادها وفير – خصوصا"عند تفاقم المحن وتعاظم الإحن، حيث التوترات في ذروتها والصراعات على أشدها – فان وزع الثقافة صعب ونضوجها بطيء وقطافها شحيح . وهو الأمر الذي يجعل من زؤان الأولى يطغى على براعم الثانية، مزاحما"إياها على حقولها، ومنافسا"لها في تربتها، ومتطفلا"عليها في نسغها . ولذلك يلاحظ إن السياسي الدخيل – وما أكثرهم وقت الانكسارات والانهيارات – لا يخشى من شيء مثلما يخشى من المثقف الأصيل . إذ إن الملاحظات النقدية التي يبديها هذا الأخير، لا تلبث أن تفضحه وتعريه حتى وان كانت لا تعنيه مباشرة، لأنه يشعر شخصيا"بجهله في أمور السياسة، وتخلفه في قضايا الاجتماع . وان التحليل الموضوعي الذي يمارسه سرعان ما يؤرقه ويمضّه، حتى وان كان لا يقصده بذاته، لأنه يدرك بقرارة نفسه مستوى خوائه الفكري وجدبه الثقافي، وعليه فلن يطول الأمر حتى يقلع (السياسي) عن ابتسامته الصفراء، ليكشّر عن أنيابه المخضبة بالدم لافتراس (المثقف)، كما انه لن يتردد حتى يخلع قفازاته المخملية ليظهر مخالبه لتمزيق (الثقافة) . 

ولكي لا يبدو حديثنا كما لو أنه ضربا"من التخيّل والتوهم، فان لنا فيما تمخض عن تجربة العراق السياسية ومواقف زعرانه السياسيين، ليس فقط في ارتهان الثقافة لمرجعيات الطوائف المتصارعة، وتشديد عبوديتها لأجندات القبائل المتخاصمة، وتحويلها، من ثم، إلى مجرد وسيلة إعلامية / دعائية مدججة بالأكاذيب ومحشوة بالأباطيل فحسب، بل وفي حرمان المثقفين من التمتع بحقوقهم المادية والاعتبارية، والحيلولة دون ممارسة دورهم التوجيهي، والقيام بوظيفتهم التنويرية، في مجتمع هو بأمس الحاجة إلى من يقيله من عثراته المتكررة، وينهضه من كبواته المتواترة، ويشخّص له أخطائه المتقادمة، ويؤشر لديه انحرافاته المتراكمة، وبالتالي يعيد له وعيه، وينمي لديه وطنيته، ويحي فيه عراقيته . وإذا كانت الثقافة – في الأوضاع العادية والطبيعية – تعتبر لازمة من لوازم الوجود الإنساني، فإنها – في الحالات الطارئة والاستثنائية – تصبح ضرورة مصيرية، يفضي إهمال مقوماتها أو تجاهل عناصرها إلى فناء المجتمع المعني واندثار حضارته . فهل يا ترى يتّعض من بيده زمام أمورنا السياسية من حكمة التجارب، وهل يرعوي سراة قومنا في السلطة من موعظة الممارسات ؟؟؟ .

الحق أقول إني أشك في ذلك !!! . 

 

ثامر عباس

 

     

في المثقف اليوم