قضايا

منى زيتون: الحكمة.. السلطة الثالثة

منى زيتونإن أكبر النعم التي تتيح لبشر أن يُهاب وتكون له المنزلة العالية بين غيره من البشر هي ما يُعرف بالسُلطات الثلاث التي عرفها الإنسان منذ بدء الخليقة؛ القوة والمال والعلم، ويُقال إنها لم تجتمع ثلاثتها في ذروتها لبشر قط.

‎ولا شك أن العلم هو أعلى وأرفع السلطات، ولم يعط بشر نعمة أكبر من العقل ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 269].

قال القرطبي في تفسير الآية: "وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة؛ لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح، وكذا القرآن والعقل والفهم"أهـ. وكل الأنبياء آتاهم الله العقل والحكمة والعلم والفهم.

وقد دعا الخليل إبراهيم عليه السلام فقال فيما أخبر رب العزة عز وجل: ‎﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [الشعراء: 83]. ومن دعائه نفهم أن الحكمة توصل الإنسان للحُكم السليم على الأمور وتمييز الشر من الخير، ومن ثم إدراك طريق الخير، والالتحاق بركب الصالحين؛ فالحكمة لا يهبها الله إلا لعباده الصالحين.

وقال تعالى عن لوط عليه السلام: ‎﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: 74].

وقال عن موسى عليه السلام: ‏﴿‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [القصص: 14].

وعن يوسف عليه السلام لما آتاه حُكمه وعلَّمه في سن أبكر مما آتى موسى، قال: ‎﴿‎وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 22].

وقال تعالى في سليمان وفي أبيه داود عليهما السلام ‎‏﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ ‏[الأنبياء: 79].

‏والحليم صفة تدل على تمام العقل، فالحلم هو العقل في لغة العرب، والعقل في الأناة ومخالفة الهوى وضبط النفس عن الغضب‎.‎

وهذه الصفة قد وُصف بها سيدنا إبراهيم، يقول تعالى: ﴿‎وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114]‎.‎ ويقول تعالى في آية أخرى عن الخليل: ‏﴿‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ‏﴾‏  [هود: 75].‏ فالأواه المتضرع، والحليم سليم العقل الذي لا يخامره شك في ربه؛ صحيح اليقين والإيمان بربه.

كما وُصف بها ولده الذبيح إسماعيل ‏﴿‏فَبَشَّرْنَٰهُ بِغُلَٰمٍ حَلِيمٍۢ‏﴾‏ [الصافات: 101]، وكلاهما أوتي رشده من الصغر‎.‎ بينما وصف سيدنا إسحق بالعليم ‏﴿‏‎إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٍۢ‏﴾‏ [الحجر: 53].

ولتفهم معنى النعت انظر إلى إبراهيم وهو يتطلع في النجوم والكواكب وهو فتى ليدرك ما لم يدركه شيوخ قومه، ثم وهو يتوقف عن الاستغفار لأبيه عندما تبين له أنه عدو لله، وانظر إلى ‏إسماعيل الغلام الصغير الذي يخبره أبوه أنه يرى في المنام أنه يذبحه ويستسلم للأمر الإلهي الذي يخبره به ‏أبوه الخليل بهدوء ودون أدنى جدال‎.‎

وكان سيدنا الحسن بعد تنازله عن الحكم لمعاوية يُقال له: "حليم آل البيت"، وغار معاوية فصار المنافقون ‏يتقربون إليه بوصفه بالحلم‎!‎

ولكن نبي الله سليمان قد تفرد عن باقي الأنبياء بأن طلب توسعًا لا يُضاهى في ملكه الذي ورثه عن أبيه، فلا ينبغي لأحد من بعده ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ ‏[ص: 35]. وإن كان هذا يعني أن يتفرق هذا الملك من بعده، لأنه لن ينبغي حتى لأبنائه أن يملكوا ما ملك، وهو ما كان.

وإن كان سليمان قد فاق أباه في العلم والملك فداود قد  زاده الله قوة ‏﴿‏وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سبأ: 10]، كما أن سليمان ذاته كان من أكبر النعم على أبيه ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ﴾ [ص: 30]. فرغم أن داود عليه السلام رزقه الله مائة ولد إلا أن سليمان كان نعمة عظيمة استحق أن يُذكر ويمن الله بها عليه.

ولم يذكر تعالى لنا أن نبيًا من أنبيائه طلب القوة أو المال ليغتر بأيهما على عباد الله، بل على النقيض فقد روى لنا عن قارون، وكيف اغتر بماله ﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾ [القصص: 79]، بعد أن تجرأ وادعى أن ماله جاء بعلمه ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي﴾ [القصص: 78]، وكانت نهايته نتيجة تكبره عن شكر الله على ما آتاه ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ﴾ [القصص: 81]، فلا استطاع نُصرة نفسه ولا استطاع بشر نُصرته عندما استحق عقاب الله، فكان ذنبه عدم الشكر؛ فكأن الخسف جزاء البطر وعدم الشكر.

 

د. منى زيتون

 

في المثقف اليوم