قضايا

ثامر عباس: المثقف العراقي في جلباب السياسة ! (1)

لا نكاد نقرأ مرجع من مراجع الثقافة، أو نطالع مصدر من مصادر المعرفة، حتى نلمس إن هناك شبه إجماع على وجود لازمة معيارية لا تفتأ تتسيّد في مضمار النص وتتربع على عرش الخطاب، تنطوي – تصريحا "أو تلميحا"- على حكم قيمي مسبق، يلزم وعي القارئ على قبول بديهية صورية مفادها ؛ إن المظنون ب (المثقف) أن يكون بارومتر فائق الحساسية، يؤشر لاتجاهات حراك المجتمع الذي ينتمي إليه، ويشير لأنماط التفاعلات الصاخبة بين مكوناته، فضلا"عن كونه بمثابة عنصر رصد دائم التيّقظ وشديد الانتباه، لتشخيص مكامن العلل وتأشير مصادر الاختلالات. ولهذا فقد أناط إليه المفكر المغربي (عبد الإله بلقزيز) مهمة (الدفاع عن الفكرة العقلانية غي الوعي والاجتماع، وعن الحرية والتسامح في السلوك الفردي والاجتماعي، وعن النهضة كاختيار حضاري للأمة، وعن العلم كسلاح لا غنى عنه للتقدم) .

وخلافا"لمألوف ما تواضع عليه العرف الثقافي، فقد اعتاد (المثقف) العراقي على الظهور بهيئة (ملاك طاهر)، حين يكون خارج معطف السياسة وبعيدا"عن حاضنتها، ولكنه لا يلبث أن يتحول إلى (شيطان ماكر)، حين يرتدي جلبابها ويندس بين ثناياها . كما وأن يجيد دور (الضحية البريئة) والمغرر بها، عندما يكون بمنأى عن حرم السلطة وبلاط السلطان، ولكنه سرعان ما ينقلب إلى (جلاد قاس) يزدري الرحمة، لحظة دخوله رواق الأولى ويغدو من ندماء الثاني . بعبارة مختصرة؛ إن (المثقف) العراقي ما أن يتسلطن في مرابع السياسة – سواء أكان ضمن طوائف النظام أم قبائل المعارضة – بعدما كان منبوذا"يعاني التهميش والإقصاء - أو يمسك بين يديه صولجان السلطة – لا فرق هنا بين أنواع السلط التي يتقلدها – بعدما كان هدفا"لطغيانها ودريئة لتنكيلها، حتى يستحيل إلى أي شيء يمكنك تصوره / تخيله، باستثناء أن يكون (مثقفا") . إذ إن بوصلة مصالحه المتقلبة، وبندول مواقفه المتذبذبة، قمينة بأن تحيله إلى (كائن صلصالي) يمتاز بطابع المرونة في المبادئ والمطاوعة في القيم، للحدّ الذي يتيح لمن يروم استثمار دوره (الطليعي) واستغلال وظيفته (العضوية)، تشكيل شخصيته وتنميط وعيه ونمذجة سلوكه كيفما يريد، ويقولب تفكيره حسبما يشتهي.

ولعل المشكلة لا تكمن فقط بحيازته قصب السبق لهذه الخاصية السلبية على أقرانه من مثقفي بعض البلدان المجاورة، ولا حتى في إمعانه بها وإسرافه فيها، بقدر ما أضحت مظاهرها في المجتمع العراقي تتخذ أبعادا"خطيرة، ليس من مصلحة أحد أن يجري التعتيم عليها أو التهوين من شأنها، بحجة إن العراقيين يجتازون الآن مرحلة انتقالية ملتبسة، لا مناص من قبول بعض التضحيات وتقديم بعض التنازلات ـ بحيث تزيغ الأبصار وتتشوش الأفكار وتترجرج المواقف . وعلى ما يبدو فان عقود القمع السياسي والانسحاق الاجتماعي والحرمان الاقتصادي والتخلف الثقافي والإذلال النفسي، أجبرت الإنسان العراقي على العيش في كنفها والترعرع بين أجوائها، بحيث لم تلزمه فقط بالتطبّع على صفات / رذائل – وان بدت موازية لقيمه ومحايثة لواقعه، إلاّ أنها لا تعدم أن تبقى رابضة في حالة كمون ضمن ثنايا عقله الباطن – علّها تقيه من شرّ السلطة وتحميه من بطش السلطان فحسب، بل وأورثته جملة من الرواسب والعقد التي ما فتأت تستوطن كيانه وتهيمن على تفكيره، بحيث ما أن يندثر الوازع الذاتي / العرفي لديه، ويتلاشى المناع الاجتماعي / الوضعي عليه، حتى تستفيق (= الصفات / الرذائل) من سباتها وتشرأب من مكامنها، لتؤطر سلوكه وتنمط وعيه وتمسخ شخصيته .

ملاحظة : تكملة الموضوع في الحلقة الثانية يوم غد بإذن الله 

 

ثامر عباس

 

في المثقف اليوم