قضايا

ثامر عباس: المثقف العراقي في جلباب السياسة! (2)

ولهذا فليس هناك كالمثقف العراقي في سخائه بإطلاق الوعود وفبركة الادعاءات، طالما أنه لا يغامر بتخطي ضفاف السياسة، ولا يجرؤ على الاقتراب من عريبن السلطة، وهو الأمر الذي يظهره بأشد حالات النقاء الأخلاقي والصفاء الفكري والتعاطف الإنساني . بيد أنه ما أن تتغير الأحوال وتتبدل الظروف وتنقلب الأوضاع، بحيث ينخرط في لعبة السياسة ويلج إلى معترك السلطة، حتى يشرع بفسخ عقده الاجتماعي، ونسخ موقفه الوطني، ومسخ فخاره التاريخي، ويعلن من ثم طلاقه – بالثلاثة – مع كل ما ينتمي إليه من خلفيات ومرجعيات، وإسدال الستار على كل ما يربطه بالماضي من علاقات والتزامات . وهو ما باتت تدلل عليه حقيقة أن الاعتبار الاجتماعي الذي ما برح يحظى به ويمتح منه، لم ينشأ على خلفية مناقبيات اجتماعية مارسها، أو مواقف وطنية تبناها، أو مبادرات إبداعية اجترحها، وإنما بواقع تدني مستويات الوعي الفردي، وركاكة أنساق المعرفة الاجتماعية، وانحطاط بنى الثقافة الإنسانية، التي كان يعوّل عليها ليس فقط لتسليح المواطن / القارئ بعدة نقد الخطابات السياسية، وتفكيك النصوص الإيديولوجية، وتعرية الخلفيات الرمزية فحسب، بل وتمنحه حق مقاضاة كل من يتلاعب بعواطفه ويتاجر بقضاياه ويساوم بمصالحه .

ومن جملة مفارقات (المثقف) العراقي، انه حين يكون مستبعدا"عن بهارج السياسة ومحجوبا"عن أضواء السلطة، ليس له قرين أو شبيه لا في كشف العيوب الاجتماعية وفضح الانحرافات السياسية فحسب، بل وفي دقة التحليل للقضايا وصرامة النقد للطروحات . ولكن ما أن تغريه مغانم السياسة وتغويه لذة السلطة، حتى ينقلب على عقبيه مرتدا"إلى مرابض جاهليته الأولى، لدرجة أنه يصعب معها إيجاد تفسير منطقي لمظاهر نكوصه وحالات تقهقره، لا في مجال تخليه عن حماسته المعهودة في مقارعة الاستبداد ومناهضة الفساد، فضلا"عن تنصله من التزاماته الأدبية حيال الثوابت الوطنية العليا فحسب، بل واستسلامه اللامشروط أمام مظاهر التعجرف والتكبر والأنانية، بعدما كانت سجايا البساطة والتواضع والغيرية، هي ما يمتاز به عن عامة الناس فضلا"عن خاصتهم، على خلفية ما كان ينوء به من هموم إنسانية، ويرهص به من أفكار عقلانية.

ولأن رجب السياسة مجبول على انتهاج سبل المساومات والانهماك بعقد الصفقات، فان اللغة المنتقاة لاستخدامها في تعامله مع الآخرين، غالبا"ما تكون مفرداتها عارية من حيث القيمة الجمالية، ومباشرة من حيث المصلحة السياسية، ومحددة من حيث الدلالة الاجتماعية . مما يستتبع أن تكون الغايات التي يستهدفها واضحة، والأهداف التي ينشدها معلومة، بحيث تترك للآخر / الغير هامش من حرية الحركة النسبية، ليمارس ذات اللعبة التي يزاولها خصمه، ولكن بشروطه الخاصة وأسلوبه المختلف . وخلافا"لذلك نجد أن داعية الثقافة / المثقف المسيس، عادة ما يعمد – لإخفاء ملابسات تورطه في المشاريع السياسية المشبوهة، وطمس معالم انزلاقه في الصراعات الحزبية الضيقة – إلى أساليب التزويق البياني والتنميق اللساني والزخرف اللفظي، ليس فقط لإظهار حجم رصيده المعرفي، والإبهار بفاعلية جهازه المفاهيمي وأسلوبه المنهجي فحسب، وإنما لإبهام مواقفه المخاتلة، وايهام قارئه الغافل، وتضليل مريديه المستتبعين . ولذلك فقد اعتبر الفيلسوف الفرنسي (ريمون روّيه) إن (ديماغوجيّ السياسة ليبدون شرفاء إذا ما قيسوا بديماغوجيّ الفكر : ان أولئك يخدعون الآخرين ويظللونهم بغية الاستيلاء على السلطة، غي حين إن ديماغوجيّ الفكر يكتفون – بالتخريب والأذى – طالبا"للشهرة وذيوع الصيت) .

ونحن اذ نعيب على (المثقف) العراقي ؛ انغماسه المفرط في المماحكات السياسية، واندلاقه الزائد عن الحد نحو ما يعتقد أنه منجم ثرائه المادي ومعين نفوذه الرمزي، فإننا – بالمقابل – لا نريد له أن يترهّب في صوامع الثقافة المغلقة، أو يتبتل في محاريب الفكر الجامد، ويختار من ثم، حياة الانعزال والانزواء عما يمور في رحم المجتمع من تناقضات اجتماعية وصراعات سياسية، فتلك – على أية حال – مهمة لا يليق به كمواطن أولا"، ولا تشرف تاريخه كفاعل اجتماعي ثانيا". فإذا كان هناك من دين ينبغي على المثقف، أي مثقف، ايفائه لمن هو صاحب الفضل عليه، فان المجتمع الذي ينتمي إليه، ويتغذى على زاد قيمه، ويرتشف رحيق أفكاره، ويحمل وشم هوية، أحق أن يمنحه جهده المعرفي، دون إسفاف ويمحضه ولائه السياسي دون ديماغوجية !! .

 

ثامر عباس

 

في المثقف اليوم