قضايا

مصعب قاسم عزاوي: صناعة العقل العنفي

مصعب قاسم عزاويلا شك أن الكثير من نهج التواصل الاجتماعي بين بني البشر يتم تعلمه عبر «الاستقاء المعرفي» من الآخرين المحيطين بالفرد في وسطه الاجتماعي ومحيطه البيئي الحيوي عموماً. وذلك «الاستقاء المعرفي والسلوكي» هو الذي يتم تعريفه عموماً «بالثقافة الجمعية» التي يستشربها الفرد، ويميل إلى الاتكاء على أدواتها لتفكيك أي موضوع أو هدف جديد يواجهه، وفي حال عدم وجود أي خلفية يمكن استحضارها مما تم اختزانه في خبراته التي استقاها معرفياً من مجتمعه، فإن الإنسان مضطر حينئذٍ إما للعودة إلى غرائزه البنيوية الأساسية المبتناة عضوياً في دارات دماغه والتي تعمل بأشكال ارتكاسية عموماً تسعى لحفظ النوع من الفناء بأي شكل ممكن، أو إلى الاستعانة بقدرات القشرة الدماغية الجديدة وخاصة في منطقة الفص الجبهي، والتي تتمحور حول إمكانيات التحليل العقلي وإيجاد الحلول لمشاكل جديدة لم يواجهها الفرد من قبل، وهي إمكانيات مُستهلكة للطاقة خلوياً  وفزيائياً بشكل أكبر من العمليات الدماغية التي تستند على استحضار الخبرات السابقة والعمل بنتاجاتها، والتي جلها عاطفي وليس منطقياً عقلانياً، إذ أن منظومة ذاكرة بني البشر مبرمجة بيولوجياً لتخزين الارتكاسات العاطفية بشكل أكثر كفاءة من الاستنتاجات المنطقية المحضة الخالية من البعد العاطفي. وهذا يعني في مجمله بأن البشر ميالون بشكل بيولوجي لأن يسروا سلوكياً في حياتهم اليومية في نسق يتسق مع «الثقافة الجمعية» التي يشرئبون في لجها، ويقومون بتكثيف خلاصة تفاعلهم معها في مخزونهم الوجداني التراكمي، والذي سوف يشكل الأنساق العمومية للتعامل مع ما سوف يتفاعلون معه في سيرورة حياتهم، وهو الذي سوف يعيد بدوره نظم ذلك المخزون وحصيلة الارتكاسات العاطفية التراكمية فيه، في حلقة جدلية تتشكل بحصيلتها شخصية وكينونة الإنسان العيانية المشخصة بالبناء على أرضية قدراته البيولوجية وبنيته الوراثية والتشريحية.

وفي هذا السياق تبرز عملية «الاستشراب التعليمي والتربوي» التي تتم من خلال التربية التي يتلقاها الفرد في أسرته ومستوى التعلم الذي سوف يمكنه الحصول عليه كأرقى نموذجين عن ذلك «الاستقاء المعرفي والسلوكي» من المحيط البيئي والحيوي يمكن لهما أن يساهما في تشذيب وإعادة نظم كل الخبرات السابقة لدى الفرد بشكل أكثر كفاءة في سرعة الاستحضار والاستخدام حينما تبرز الحاجة للاتكاء على تلك الخبرات، وذلك لا يعني بالضرورة أن تلك الصيرورة سوف تصب حتمياً بشكل إيجابي أو بناء لصالح الفرد أو مجتمعه حينئذٍ، وإنما يعني لصالح زيادة كفاءة المنظومة العقلية للفرد في استخدام خبراته التراكمية السابقة كأدوات حاضرة دائماً للاستخدام في تواصل الفرد  مع محيطه الاجتماعي.

وبشكل عياني مشخص فإن ما يدعى «ثقافة العنف الشمولي» التي يشاهدها الفرد منذ نعومة أظفاره في كل أحياز حياته وحيوات أهله المحيطين به، سواء على المستوى الكوني بما يشاهده على التلفاز من عنف على شكل حروب بين دول ومجتمعات يتحارب أهلها في حلقة عدمية لا نهاية لها، أو على المستوى المحلي الملموس في حياته عبر ما يتعرض له من «تنميط عقائدي» إلزامي عبر أنظمة التعليم القسرية التي ترغم الأطفال منذ نعومة أظفارهم على التحول إلى كائنات «نفعية انتهازية» بشكل أو بآخر همها الوحيد هو التحصيل العلمي لأجل النجاح في الامتحان، متبوعاً بكل أشكال «غسيل الدماغ» التي لا بد للمؤسسات التعليمية في عموم أرجاء الأرضين القيام به لإرغام الأطفال على التعلم بقوالب معدة مسبقاً ومؤطرة بشكل حديدي، لا تنسجم مع حاجة الطفل وفضوله الفطري للتعرف والاستكشاف عبر التجريب والاستمتاع بما يشتبك معه عقلياً وإبداعياً وحركياً، بعيداً عن شراك الاستقاء المبرمج والمؤطر والمحدد بأزمان ومواقيت محددة وأحياز معرفية جامدة بعينها.

هذا عدا عن العسف الذي يعانيه الطفل صغيراً وهو يراقب حيوات أهله، والتي سوف تكون حاله في قابل الأيام حينما يأتي دوره ليكابد عسف النظم الاستبدادية بمختلف أشكالها الإخراجية سواء على الطريقة الفجة العربية أو على الطريقة المنمقة المزوقة غربياً، والتي لا خيار فيها للإنسان سوى بالرضوخ إلى موازين القوى التي تقتضي بأن «العين لا تقاوم المخرز»، وأن  لا مهرب من سطوة العنف الممنهج الذي يستطيع الأقوياء ممارسته في كل آن وزمان إن سولت له نفسه الخروج والتفكر بالانعتاق من موقع «العبد السعيد»، وأن السعي في ذاك النهج الانعتاقي لا بد أن يجر عليه كل عقابيل «الويل والثبور وعظائم الأمور» الجهنمية التي يمكن أن تتخذ أشكالاً مرعبة تتراوح بين الإفناء الجسدي تعذيباً على طريقة الجلادين الغلاظ في الأنظمة الاستبدادية الفجة، وبين التهميش والتجويع والإقصاء في مجتمعات الديموقراطيات الشكلية فيما يعني عملياً اندثاراً من الحياة الدنيا مع وقف التنفيذ؛ وهو ما يقتضي من ذلك الإنسان طفلاً ويافعاً وشاباً وكهلاً وشيخاً استبطان رعب ذلك «العنف الكامن» الذي ينتظر وراء الباب للانقضاض عليه وعلى حياته، والالتزام بعدم القيام بأي حركة أو سكنة قد تقض مضجعه وتدعوه للصحو من غفوته المؤقتة دائماً.

وإذا أضيف إلى ذلك نمط التواصل العنفي المهول المسوق من النتاجات المرئية لوسائل الترفيه البصري في الأفلام وبرامج ومسلسلات القنوات التلفزيونية والفضائية، وخاصة تلك التي ينتجها الإعلام المتسيد عالمياً، حيث أن جل الإنتاج الفني للأفلام على المستوى العالمي هو بيد حفنة من الشركات الإعلامية العابرة للقارات على شاكلة Warner Media، والتي تجتهد في توطيد رؤيتها الإيدلوجية للعالم بكونه غابة البقاء فيها محصور بالأكثر أنانية وجشعاً وبأساً وعنفاً، وهي صورة يتم ترسيخها أيضاً في وجدان بني البشر وخاصة اليافعين منهم من خلال استبطان السلوكات الحركية الارتكاسية الكامنة والظاهرة في السياقات العنفية المهولة التي تسوق لها الألعاب الإلكترونية الخبيثة التي تستغل بشكل لئيم كل كوامن الضعف في أدمغة بني البشر، وميلها الغريزي لاعتبار إصابة مقذوف للهدف من رميه بمثابة مكافأة يقوم الدماغ بتسجيلها واستذكارها، وإفراز هرمون الدوبامين لدى استبصار أي فرصة لاحقة لإعادة الكَرَّة مرة أخرى وإصابة هدف ما بمقذوف مرة أخرى، وهو ما يعني تعزيز ميل الفرد للقيام بكل الأفعال التي تتيح له فرصة خوض تجربة رمي المقذوف مرة أخرى، والتي ليس أسهل من الألعاب الإلكترونية مدخلاً لتحقيق تلك الرغبة، بما يمهد لحالة من الإدمان الضمني على الألعاب الإلكترونية بشكل لا يختلف كثيراً عن الآلية التي يدمن بها بنو البشر على المخدرات الصنعية التي تقوم بتعزيز إفراز الدوبامين بشكل صنعي في الدماغ من قبيل الكوكايين.

وإذا قمنا باستدعاء المبدأ العمومي في آليات عمل دارات الجهاز العصبي المستند إلى شرط أن «العصبونات التي ترتبط معاً يتم تفعيلها معاً أيضاً» والذي يصاغ باللغة الإنجليزية كما يلي «Neurons That Wire Together Fire Together» وهو ما يعني أن تعرض الفرد إلى مجموعة من المثيرات أحدها العنف سلوكاً أو استبطاناً سوف يؤدي إلى استحضار جملة من الاستجابات التي تواترت مع تلك المثيرات في غير مرة من قبل في عقل الفرد حين مواجهته لظروف في المستقبل تحتوي على أحد مكونات تلك المثيرات حتى لو لم تكن جميعها حاضرة مع بعضها في المستقبل. وكمثال مبسط على التوصيف العلمي السالف يمكن الإشارة إلى أنه لا يمكن للعقل التفكر بإبداع قصيدة شعر أو الترنم بأغنية، حينما يشعر بالغضب، إذ أن الدارات العصبية في الدماغ المرتبطة بالاستجابة على المؤثر العنفي الذي أدى لاستجابة الحنق والغضب، مرتبطة بدارات عصبية أخرى في الدماغ من قبيل دارات السباب والشتم والهياج اللفظي، والتي لا يمكن أن تبدع شعراً وإنما غثاء حضيضياً في غالب الأحايين؛ وهو ما يعني من الناحية العلمية تحقق نظرية العالم الراحل George Gerbner الذي صاغ نظرية «متلازمة العالم الضنين»، وباللغة الإنجليزية «Mean World Syndrome» في سبعينيات القرن العشرين، قبل أن يتمكن علماء فيزيولوجيا الدماغ من التعرف على المبدأ العصبي السالف الذكر، والذي أدت اكتشافاتهم إلى إثبات تلك النظرية، والتي مفادها أن تخليق نموذج من الوعي لدى الفرد عبر ما يرده من محيطه الاجتماعي وخاصة عبر وسائل الإعلام وخاصة تلك المرئية منها، يقود بالمتلقي لاستدماج تصور عن عالم ضنين شحيح على الإنسان إلا بما تجود به قوانين المجتمع منظوراً إليه كغابة وحشية لا بقاء فيها للضعفاء أو المستضعفين، وهو ما يعني باستدلال منطقي بسيط لا يحتاج لجهد عقلي كبير مفاده بأن السبيل الأكثر كفاءة للبقاء على قيد الحياة في ذاك العالم الضنين هو اتباع نهج قوانين الغابة والتحول فاتكاً جسوراً عنيفاً، وهو ما يعني في المآل الأخير تصدر العنف قائمة وسائل التفاعل الاجتماعي بين البشر سواء على الصعد الصغيرة بين الأفراد أو الكبيرة بين الدول والمجتمعات، وهو الواقع المأساوي الذي دفع البشر ثمنه غالياً وقد يفضي واحسرتاه إلى انقراضهم من وجه البسيطة في قابل الأيام في ظل هول بعبع الموات النووي الشامل لكوكب الأرض برمته في سياق أي حرب شاملة قد يقرر الأقوياء الأثرياء خوضها بدماء المفقرين المستضعفين في استعادة لرؤاهم العنفية المصفاة كما تجلت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما استتبعهما حتى اللحظة الراهنة من حروب موضعة  تحتمل في تلافيفها على احتمال تصعدها المباغت للسري الحثيث في نهج سالفاتها الخبيث المهول.

 

دكتور مصعب قاسم عزاوي

 

في المثقف اليوم