قضايا

ثامر عباس: الكينونة الفردية والشخصية الاجتماعية

لا يمكن لأي مجتمع من المجتمعات الإنسانية المعاصرة أن يحرز النجاح في مضمار الإفلات من مرابض تخلفه الحضاري، ويضمن لكيانه الاجتماعي التخلص من رذائل عصبياته البدائية، دون أن يعتني بمتكأ نهوضه ومهماز تطوره، ويضع من ثم أساس بنيته التحتية (كينونة الفرد) موضع الاعتبار والاهتمام كأولوية قصوى لابد من ضمان تحقيقها على الوجه الأكمل . ولعل التجارب الواقعية والممارسات الإنسانية أثبتت إن المجتمع الذي يتجاهل هذه الحقيقة الفاقعة، ويمعن في تبخيس قيمتها الثمينة ؛ لن يبقى فقط يراوح ضمن إطار سياقاته التقليدية التي توارثها عبر أجياله السالفة فحسب، بل وكذلك سيضطر مرغما"على التراجع عن مواقعه التي سبق له تبوئها سابقا"، والنكوص عن مراكز تقدمه التي سبق له أحرزها سلفا".  

والحال يمكننا اعتبار المجتمعات البطريركية (الأبوية) بمثابة شاهد حي على هذه الحقيقة السوسيو- حضارية التي – ويا للمفاقة - صعب لحد الآن على هذه المجتمعات هضمها وتمثلها، رغم كل النكبات التي تعرضت لها والنكسات التي منيت بها على مدى عقود (استقلال) السياسي وتكوين دولها (الوطنية) . ولعلنا نسأل عن سبب دوام هذه الظاهرة وسرّ ثباتها في مثل هذه البيئات الحضارية المتخلفة؟!، ولماذا لا تزال أنماطها ومعطياتها وقيمها ورموزها مهيمنة على عقلية الأفراد والجماعات، فضلا"عن تأطير وعيهم التاريخي وتنميط سلوكهم الاجتماعي، دون التأثر بما يحيط بها ويجري حولها من مظاهر التمدن والتحضر والحداثة ؟! .

الواقع انه ليس في نية – ولا حتى في مقدور – مقال متواضع كهذا أن يغامر أو يتجرأ في الإجابة على أسئلة من هذا القبيل، إذ إن الأمر يحتاج إلى جهود طائفة واسعة من الخبراء والمتخصصين الأكفاء في العلوم الإنسانية والاجتماعية بمختلف أقسامها وميادينها العلمية، بحيث يتم إخضاع تلك الظاهرة للبحث العميق والدراسة المستفيضة من جميع جوانبها النظرية والعملية . ولكن، مع ذلك، نرى انه لا بأس من القول بأن تلك الظاهرة هي – كما نرى - من نتاج خلفيات تاريخية متقادمة ومرجعيات قيمية متوطنة، أفضت وساهمت – عبر جدليات وديناميات خاصة - برسوخ أنماط معينة من العادات الاجتماعية والتواضعات الأخلاقية والتقاليد السلوكية التي تمتاز بطابعها (البدوي / القبلي)، والتي هي من خصائص مجتمعات هذه البيئات الجغرافية والحضارية والاجتماعية والنفسية، حيث قيمة (الفرد) تقاس بميزان قيمة (الجماعة) التي ينتمي إليها وليس العكس .

وإذا ما كانت الظروف التاريخية السابقة والأوضاع الإنسانية القديمة قد حتمت سيادة مثل تلك النظرة، وجعلت منها، من ثمة، معيارا "ضروريا" يلتجئ إليه كلا الطرفين (الفرد والجماعة) لتأمين شروط العيش المشترك وضمان سلامة الجميع، إزاء الكثير من التحديات المصيرية التي كانت تواجه كيانهم الحضاري ووجودهم البشري، نظرا "لقساوة المعطيات الطبيعية وضراوة العلاقات الاجتماعية . فان ما استجد لاحقا" من ظروف مختلفة وأوضاع مغايرة نتيجة لأواليات التغير الاجتماعي وديناميات التطور الحضاري، بات من شبه المستحيل البقاء ضمن نطاق تلك السياقات التقليدية التي كانت في حينها مبررة ومشروعة . خصوصا"وان مؤثرات الحداثة الغربية وما توحي به من حريات فردية، وما تبشّر به من ضمانات اقتصادية، وما تروج له من علاقات اجتماعية، لم تكن – ولن تكون بعد الآن - بعيدة عن أنظار ومسامع غالبية شعوب تلك المجتمعات المستباحة، منذ أن صدمتها آلة التفوق التكنولوجي والحضاري الغربي إبان الحقبة الكولونيالية، وحتى هذه اللحظة التاريخية الموسومة بالإيقاع المتسارع في الانجازات الفكرية والابتكارات التقنية والثورات العلمية والقفزات الحضارية .

وعلى الرغم من كثرة الدلائل وحجم المؤشرات التي يمكن اعتمادها كمنطلق والاسترشاد بها كموجّه، للوقوف على الأسباب الكامنة خلف كل الإخفاقات والارتدادات التي منيت بها جميع الخطط والمشاريع التنموية، التي راهنت عليها حكومات بلدان العالم الثالث – ومن ضمنها طبعا"بلدان العالم العربي – (هذا على فرض توفر حسن النية وسلامة القصد من وراء تلك الخطط والمشاريع المزعومة) . نقول على الرغم من ذلك كله، فان تلك المجتمعات التقليدية ومن خلفها أنظمتها السياسية الاستبدادية، عجزت أمام معرفة العامل الأساسي الذي تسبب فقدانه وإهماله باستحالة خلق (شخصية اجتماعية) - أو معيارية بحسب البعض – تكون بمثابة رابط الاجتماعي ومرجع قيمي، يضمن للجماعة / المجتمع وحدة الأهداف والغايات من جهة، ويحول دون تشظيهم إلى فرق متخاصمة ومذاهب متباغضة وطوائف متصارعة من جهة أخرى .

ولعل ما يمنح للمجتمعات المعنية القدرة الفعلية على بناء مدماك (شخصيتها الاجتماعية) وإقامة معمار (هويتها الحضارية)، فضلا"عن استبعاد احتمالات تعرض هذه أو تلك للتصدع والتخلع، ومن ثمة منحها الحصانة الكافية التي تقيها من التذرر والتبعثر في حال وقوع المجتمع في أزمة أو تعرضه لمحنة . نقول إن ما يجعل المجتمعات قادرة على تخطي ممانعات الموروث التقليدي الذي لا زالت تعاني منه، هو نجاحها في التغلب على عوامل الكبح العديدة التي بحوزتها ضد نزوع (الكينونة الفردية)، للتحرر من (الشرانق البطريركية) التي لن تبرح تعيقها من إبراز شخصيتها النوعية وتوكيد ذاتها الفردية، بعيدا"عن قيود الجماعات الأولية وأصفاد ثقافاتها البدائية (القرابية والاثنية والمذهبية والطائفية والمناطقية)، التي طالما كانت عائقا"أمام (الفرد / الذات) في التعبير عن قدراتها الحبيسة وطاقاتها المقموعة وتطلعاتها الممنوعة .

 

  ثامر عباس

     

في المثقف اليوم