قضايا

احمد عواد الخزاعي: شبابنا العربي بين سندان الموروث ومطرقة قيم ما بعد الحداثة

احمد عواد الخزاعيالعرب من الامم التي وصلتها قيم مابعد الحداثة متأخرة، لأسباب عدة منها، سيطرة النظم الدكتاتورية على معظم بلدانها لعقود طويلة، وشيوع ثقافة السلطة التي تنزع الى الشمولية في طريقة التفكير، وتمجيد الافراد والقيم المطلقة التي رسختها الافكار القومية واليسارية والفكر الحداثي، الوافد برفقة هذه الأيدولوجيات، لذلك بقيت الشعوب العربية بمنأى عن التغيرات السياسية والفكرية والاجتماعية الحاصلة في عالمنا المعاصر، بغثها وسمينها، مما وفر حصانة قيمية شملت اهم الثوابت الموروثة لديها (الدين، الوطنية، الانتماء القومي، التراث، العادات والسلوك الاجتماعي) غير انها لم تمنحها القدرة على التغيير او الوقوف بوجه السلطة، واخضعتها هذه الثوابت لما يعرف بديماغوجية السلطة والسيطرة على العقل الجمعي، فكل شيء تديره السلطة واجهزتها الامنية والمخابراتية بدءاً بنشرة الاخبار ومناهج التعليم وانتهاء بخطبة الجمعة، فعاشت شعوبنا العربية منعمة مطمئنة لموروثها وثوابتها التاريخية تحت تأثير ما يطلق عليه اصطلاحاً (التنويم الاجتماعي) فأنتجت هذه المتوالية السلطوية طوابير من مثقفي السلطة ومنظريها، واخضع الانسان العربي قسرا لهذا التنويم لعقود، دون استثماره بصورة تتيح لهذا الموروث بأن يكون عاملا فاعلا في تسيير عجلة التقدم نحو الامام، كما فعلت البروتستانتية في العالم الغربي، في كتابه الشهير (الاخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) يذكر عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر بأن (المبادئ البروتستانتية المسيحية ساعدت اوروبا في التقدم نحو الامام ابان النهضة الصناعية وما تلاها، لان جزء من هذه المبادئ يكون فيها العمل اكثر قدسية من الايمان، فكان العمال يعملون في مصانعهم بجد كمظهر من مظاهر تدينهم، وان اخلاصهم بالعمل من اهم واقصر الطرق التي تقربهم من المسيح).. قد تكون السلطة والموروث سببان رئيسيان في التخلف العربي لكنهما ليسا الوحيدين، فالمشكلة هنا بنيوية تكمن في تركيبة الشخصية العربية ونمطية تفكيرها وتعاطيها مع الواقع المتغير، فهي ترفض اي عملية تصحيح في ثوابتها الدينية والاجتماعية، وتنظر الى كل ماهو جديد بريبة وتوجس، لذلك فشلت كل المحاولات التي سعت الى خلق حالة مغايرة لهذه الثوابت على الرغم من اكثرها كان ينطلق من هذه الثوابت (الدين والموروث) التي قادها مفكرين عرب حاولوا ايجاد ثغرة في هذا الجدار المعرفي الصلب، وخلق حالة موائمة بين الدين والموروث من جهة وبعض مفاهيم عالمنا المعاصر، امثال عبد الرحمن الكواكبي ومحمد اركون ومحمد باقر الصدر ونصر حامد ابو زيد وصادق جلال العظم وغيرهم الكثيرين.
الا ان التطور المضطرد في التي شهدته البشرية في العقود الثلاثة الماضية وتحول العالم الى قرية صغيرة وفق مفهوم العولمة، فرض على مجتمعاتنا العربية واقعا جديدا ساهم في ترسيخه ما يسمى بالربيع العربي وزال معظم الدكتاتوريات والنظم الشمولية، واستبدالها بتجارب ديمقراطية ضعيفة، وانفتاح هذه البلدان على العالم بصورة فوضوية، عبر التكنلوجيا الوافدة ومواقع التواصل الاجتماعي، كل هذا سمح لأفكار ما بعد الحداثة، بأن تغزو مجتمعاتنا بقوة مؤسسة لهذا الواقع الجديد، الذي مثل صدمة كبيرة هزت هذه المجتمعات المحافظة وتأثر بها سلبا الانسان العربي، وبالأخص فئة الشباب، المفتقدين لمقومات الحصانة الفكرية، فاصبحوا عرضة لغزو فكري ممنهج، ساهم في تفكيك جزء من الاواصر التي تربطهم بثوابت وقيم مجتمعاتهم، متأثرين بالتجربة الغربية التي قطعت عقود طويلة في التبلور ونتجت عن مخاض فكري طويل، وهذا ما تنبئ به واشار اليه المفكر علي سالم في مسرحيته (مدرسة المشاغبين) في سبعينات القرن الماضي، التي مازال يظن البعض بانها اسست لسلوك اجتماعي سيئ وانها أساءت للواقع التربوي العربي .. لكن الحقيقة ان مؤلفها كانت لديه نظرة استشرافية، ودق ناقوس الخطر مبكرا، ليعلمنا بأن هنالك جيل قادم سيتأثر بقيم ومفاهيم مابعد الحداثة القادمة من الغرب، والتي تعتمد التسطيح والتنكر لكل القيم والثوابت العقائدية والوطنية والاجتماعية، وان هذا الجيل سيواجهها بصدور عارية، وان هناك مسؤولية تاريخية تقع على الاسرة والمؤسسات التعليمية والثقافية والمجتمع بأسره بان يحتوي هذا الجيل ويتفهم حركة التاريخ ويتأقلم مع معطياته، في محاولة لتقنين تأثير هذه القيم الوافدة عليه، كما فعلت النظم والمؤسسات في الدول الغربية في ستينات القرن الماضي حين تفشت ظاهرة (الهيبز) التي انتشرت بين الشباب الامريكي ثم انتقلت الى بعض بلدان اوروبا الغربية، حيث مثلت اكثر مظاهر مابعد الحداثة تطرفا، ونشأت ردا على عالم مابعد الحرب العالمية الثانية، ومظاهر النظام الرأسمالي المادي الذي سعى الى تحويل الانسان الى الة للإنتاج، حتى تحولت هذه الظاهرة الى سرطان ينهش في جسد المجتمعات الغربية، فكانت ايذانا بانتهاء (السرديات الكبرى) عالم القيم المطلقة ونشوء عالم السرديات الصغرى (سرديات الضد) التي تهتم بالإنسان وتطلعاته ورغباته كقيمة عليا، وعَبر برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية رصينة وفعالة، استطاعت دول الغرب احتواء هذه الموجة وترويضها وحولت هؤلاء الشباب الى عنصر بناء في مجتمعاتهم.
الشباب العربي يمر اليوم بمنعطف خطير، وهم بحاجة الى مد يد العون اليهم، وتصحيح مسارهم الفكري وهذا ينتج عن عدة اجراءات منها، اعادة النظر بموروثنا الفكري بطريقة تتماهى مع التغير الحاصل مع عالمنا المعاصر، التشجيع على المطالعة، اعادة النظر بالمناهج التعليمية، توفير فرص العمل وفرص الزواج وحق السكن وحق التعبير عن الرأي، وصون كرامة الانسان العربي، وتشجيع المبادرة الشخصية، وهذا كله يتطلب ارادة حقيقية من قبل حكومات البلدان العربية ومؤسساتها.

احمد عواد الخزاعي

 

في المثقف اليوم