قضايا

محمد محفوظ: العلاقة بين المسلمين من التقريب إلى التآخي

مفتتح: على المستوى التاريخي لم يكن التعدد الفقهي والمذهبي في التجربة التاريخية الإسلامية مظهرا من مظاهر الانقسام والتشظي في الدائرة الإسلامية، بل دليل حيوية عقلية وفكرية ومناخ اجتماعي حر ومنفتح أدى إلى تطوير عملية الاجتهاد ونشوء الاتجاهات الفقهية والفكرية والسياسية في الدائرة الإسلامية.

" وعلماء المسلمين يدركون بعمق وهم يسعون للتقريب بين المذاهب، أن المذهب في الإسلام لم يكن في نشأته الأولى مظهرا لانقسام المسلمين وتوزعهم، وإنما كان تعبيرا عن حيوية عقلية وعملية، أدت إلى تشعب الآراء ونشوء التيارات المنهجية في استنباط الأحكام الشرعية ودلالات النصوص، على النحو الذي أغنى الإسلام عقيدة وشريعة، وأتاح للمسلمين أن يمارسوا أعمق أشكال الحوار المستند إلى المنطق والعلم. فسجلوا في تاريخ الفكر الإنساني وتطوره مأثرة الاستماع للرأي الآخر واحترامه " (1).

ولكن وبفعل عوامل سياسية وثقافية وتاريخية عديدة، تحول هذا التعدد المذهبي إلى فضاء للصراع والتناحر وإضعاف جسم الأمة. وبدون الدخول في بحث تاريخي يوضح طبيعة الإشكاليات والعوامل والأسباب، التي حولت من التعدد المذهبي من مؤشر على حيوية الأمة في فكرها وعلمها واجتهادها. إلى بيئة للاحتراب الداخلي، فإننا بحاجة أن نبحث في التجارب الإسلامية التي عملت على ردم الهوة والفجوة بين المسلمين، وسعت لصياغة وعي المسلمين بعيدا عن السجالات المذهبية ومماحكاتها التي تزيد الأحن وتوغر الصدور.

ولا شك أن ظاهرة التعدد المذهبي في الدائرة الإسلامية، أثارت ولا زالت الكثير من الأسئلة والتحديات، ولا بد من العمل لبلورة إجابات حقيقية وعميقة لهذه الأسئلة والتحديات.

فليس صحيحا أن نهرب من أسئلة التنوع وتحديات التعدد برفضها، والركون إلى الفكر الآحادي والواقع الذي يقمع كل تنوع ويستأصل كل تعدد. لذلك من الضروري أن نتعاطى مع ظاهرة التعدد في المذاهب الإسلامية، على أساس أنها من الظواهر التي تثير الكثير من الأسئلة، وتطلق جملة من التحديات. وواجبنا الفكري والأخلاقي، يقتضي احترام هذا التنوع والتعدد، والبحث عن إجابات للأسئلة والتحديات التي تطلقها هذه الظاهرة التاريخية والإنسانية.

نقد مفهوم التقريب:

في لحظة زمنية حساسة، حيث تكالب الأعداء على الأمة من كل حدب وصوب. انبرى جمع من مفكري ومصلحي الأمة للرد على هذه التحديات والمشاكل بتأسيس (جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية) بشعار [إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون] واتخذت لها في القاهرة دارا صارت مركزا لتلاقي الأفكار ومصدرا للتحول الإصلاحي الإسلامي في تاريخ المذاهب الإسلامية.

ولقد أصدرت الجماعة مجلة باسم [رسالة الإسلام] وواصلت الصدور سنين عديدة، واشترك في تحريرها والكتابة فيها العديد من العلماء والمفكرين والمصلحين من مختلف البلدان والمذاهب الإسلامية.

وعلى كل حال وبدون الدخول في تفاصيل قراءة تجربة جماعة التقريب في القاهرة. فإننا نعتقد أن هذه التجربة ثرية، وقدمت خدمات جليلة للعالمين العربي والإسلامي، وأسهمت بشكل مباشر في إنهاء بعض التوترات المذهبية، وأرست معالم مدرسة إسلامية وحدوية لا زالت آثارها قائمة إلى اليوم في العديد من المؤسسات والمعاهد والمجتمعات الإسلامية.

فهي تجربة رائدة على أكثر من صعيد ومستوى. ولكننا نعتقد أن طبيعة الظروف والتحديات التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم، تتطلب من جميع العلماء والمصلحين والمعاهد العلمية التفكير بخطوة مؤسسية نوعية، تساهم في معالجة ظواهر التوتر المذهبي، التي اشتركت عوامل عديدة ومتشعبة في تسعيرها وتظهيرها في المشهد العام.

وإن المطلوب اليوم ليس إعادة تجربة جماعة التقريب في القاهرة، وإنما البناء عليها، والانطلاق من النقطة الأخيرة التي وصلت إليها تلك التجربة.

وفي تقديرنا إننا بحاجة اليوم، للانتقال في خطابنا وعملنا على هذا الصعيد من خطاب التقريب إلى خطاب التآخي. ومن الجهد الذي يستهدف التقريب بين المسلمين، إلى الجهد الذي يتطلع إلى تثبيت ركائز وأسس التآخي بين المسلمين في العصر الراهن.

والنقد الذي نطالب بممارسته تجاه خطاب وتجربة التقريب، لا يعني القطيعة التامة معه، بل يعني استيعاب تلك التجربة والبناء عليها، وليس التوقف والتجمد عندها.

ونسوق في هذا الإطار جملة من الاعتبارات التي تدفعنا إلى ضرورة الانتقال من خطاب التقريب إلى خطاب التآخي وهي كالتالي:

1-  إن التوجيهات الإسلامية، التي توضح طبيعة العلاقة الداخلية بين المسلمين، تؤكد على قيمة الأخوة والتآخي. والتعامل مع هذه القيمة بوصفها هي عنوان وطبيعة العلاقة التي ينبغي أن تسود بين المسلمين. فقد جاء في الآية القرآنية الكريمة [إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون] (2).

وجاء في الأحاديث الشريفة: أن [الناس أخوان، فمن كانت أخوته في غير ذات الله فهي عداوة، وذلك لقوله عز وجل (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)].

[من أكرم أخاه المسلم بكلمة يلطفه بها، ومجلس يكرمه به، لم يزل في ظل الله عز وجل ممدودا عليه بالرحمة، ما كان في ذلك].

فالتقريب بين المسلمين على الصعد كافة، هو خطوة في مشروع تركيز مبدأ التآخي بين المسلمين. لذلك فإن المطلوب اليوم ليس فقط أن نعذر بعضنا بعضا فيما نختلف فيه، وإنما أن نختلف وتتعدد قناعاتنا ومواقفنا وأفكارنا على قاعدة الأخوة الإسلامية. فالاختلاف مهما كان شكله أو حجمه، ليس مدعاة لتفكيك ناظم العلاقة بين المسلمين وهو مبدأ التآخي. وعلى ذلك فلا ضير على المسلمين، من أن يختلفوا، ما دام خلافهم في دائرته العقلية المعقولة والاجتهادية المقبولة، وإنما الضرر أن يفضي بهم الخلاف إلى القطيعة وإلى الخروج على ما تقضي به الأخوة في الدين.

2- هناك الكثير من القضايا والملفات التي تتطلب من المسلمين بمختلف مدارسهم ومذاهبهم التعاون فيما بينهم حولها، وتجاوز بعض الوقائع السياسية والثقافية والاجتماعية المضادة لعملية التعاون بين المسلمين. وكل هذا أي تجاوز العقبات التي تحول دون تعاون المسلمين مع بعضهم، والقيام بخطوات عملية في مشروع التعاون، كل هذا يتطلب بناء العلاقة الداخلية بين المسلمين على قاعدة إيمانية صلبة، وهي قاعدة الأخوة والتآخي.

ولا بد أن ندرك ومن مختلف مواقعنا أن وجود حالات توتر مذهبي بين المسلمين في أي بقعة من بقاع تواجدهم، هو الذي يجب أن يحفزنا للمزيد من العمل لتجاوز الأحن والأحقاد الطائفية، وليس الخضوع إلى منطقها ومتطلباتها. فالواقع الإسلامي اليوم مليء بصور التوتر والتناحر، وليس المطلوب أمام هذا الواقع، هو الخضوع لمتواليات التوتر والتناحر، وإنما الخروج من هذا المنطق، والعمل على تأسيس وبناء حقائق الوئام والأخوة بين المسلمين بمختلف مدارسهم ومذاهبهم.

فوجود اقتتال طائفي أو عداوة مذهبية في العراق اليوم، ينبغي أن لا يدفعنا إلى الانحباس المذهبي والتمترس والاصطفاف الطائفي. وإنما على العكس من ذلك تماما إذ تحملنا هذه الأحداث الدامية، مسؤولية العمل المتواصل لإخراج واقعنا وأمتنا من أتون التوترات والعداوات المذهبية، التي لا تخدم في المحصلة النهائية إلا أعداء الأمة.

3- إن تطوير العلاقة بين أتباع المذاهب الإسلامية على نحو إيجابي، يتطلب العلم والمعرفة المتبادلة. وذلك لأن الكثير من سوء الفهم والذي توظفه بعض السلطات لمصالحها السياسية الضيقة، هو من جراء الجهل المتبادل. ففي بيئة الجهل تنمو الشائعات، وتتضخم المقولات الشاذة، وتزداد الهوة والفجوة بين جميع الأطراف. ولا خيار أمامنا لتجاوز كل هذه المخاطر إلا إطلاق مشروع علمي وثقافي وإعلامي، يستهدف أن يتعرف المسلمون على مذاهب بعضهم بشكل علمي ووفق الأدلة المعتبرة لدى جميع الأطراف.

والتآخي بين المسلمين في كل الأحوال والظروف، لا يبنى إلا بالعلم والمعرفة الدقيقة. وإن الكثير من مظاهر التوتر المذهبي في العديد من الدول، هي تعود في حقيقتها إلى غياب العلم والمعرفة المتبادلة. من هنا فإننا مع كل مبادرة وخطوة، تستهدف أن يتعرف المسلمون على بعضهم البعض، ومع كل مشروع للتواصل المباشر الذي يزيل اللبس والهواجس لدى جميع الأطراف.

وهذا كله لا يعني أن طريق التقريب والتآخي بين المسلمين معبدة ويسيرة، وإنما هذا الطريق مليء بالعقبات والأشواك والمحن، ولا سبيل أمامنا إلا الإصرار على طريق التآخي وتجاوز كل ما يعكر صفو العلاقة الداخلية بين المسلمين.

وهنا من الضروري تشجيع وإشاعة الدراسات والأبحاث الفقهية والعلمية المقارنة بين مختلف المذاهب الإسلامية. ولعلنا لا نأتي بجديد حين القول: إن الكثير من أتباع كل مذهب إسلامي، يجهلوا أحكام وآراء بقية المذاهب الإسلامية في العبادات والمعاملات.

ولا ريب أن الجهل المتبادل على هذا الصعيد، يساهم في الجفاء والتباعد، ويساعد على تبني مواقف وقناعات ليست علمية ودقيقة على المذاهب الإسلامية الأخرى. لذلك ومن منطلق تأكيد خيار التآخي بين المسلمين، نؤكد على ضرورة أن نقرأ بعضنا البعض، ونتعرف على نحو علمي على قناعات وآراء المذاهب الإسلامية في مختلف المسائل والموضوعات.

و " إن دراسة الفقه المقارن تعني دراسة أسباب الخلاف بين أئمة الشريعة الإسلامية. ولا ريب أنها إن أوليت العناية التامة، ودرست دراسة علمية معمقة، تشمل أكثر أبواب الفقه، تحقق فوائد وآثار إيجابية شتى، من أهمها أنها تكشف عن قوة المدرك العلمي، الذي استند إليه كل من الأئمة الذين اختلفوا في بعض المسائل والأحكام الفقهية. ومن ثم فإن المستعرض لدليل كل منهم يدرك أنهم جميعا على حق أي إن كلا منهم اعتمدوا في ما انتهى إليه، على حجة قوية دامغة من وجهة نظره على أقل تقدير، وبذلك يكون أعذر من أمام الله عز وجل. وإنها لأفضل طريقة علمية للقضاء على أسباب العصبية للمذهب " (3).

ولقد أجاد المرحوم السيد محمد تقي الحكيم في بيان أهمية تأسيس دراسات الفقه المقارن بين المذاهب الإسلامية، لما له من دور أساسي في التعارف العلمي ومعرفة أسس الاستنباط والمدارك العلمية للأحكام الشرعية في كتابه الموسوم بـ (الأصول العامة للفقه المقارن – مدخل إلى دراسة الفقه المقارن) والذي جاء فيه [ومن هذه المقارنة بينهما تتضح فوائد الفقه المقارن وأهمها:

أ‌- محاولة البلوغ إلى واقع الفقه الإسلامي من أيسر طرقه وأسلمها وهي لا تتضح عادة إلا بعد عرض مختلف وجهات النظر فيها وتقييمها على أساس موضوعي.

ب‌- العمل على تطوير الدراسات الفقهية والأصولية والاستفادة من نتائج التلاقح الفكري في أوسع نطاق لتحقيق هذا الهدف.

ج‌- ثماره في إشاعة الروح الرياضية بين الباحثين ومحاولة القضاء على مختلف النزعات العاطفية وإبعادها عن مجالات البحث   العلمي.

د‌- تقريب شقة الخلاف بين المسلمين والحد من تأثير العوامل المفرقة التي كان من أهمها وأقواها جهل علماء بعض المذاهب بأسس وركائز البعض الآخر مما ترك المجال مفتوحا أمام تسرب الدعوات المغرضة في تشويه مفاهيم بعضهم والتقول عليهم بما لا يؤمنون به.] (4).

الإصلاح الوطني والمسألة المذهبية:

من البديهي القول: أننا لا يمكننا على الصعيد العام، من تطوير العلاقة الداخلية بين المسلمين، وتجاوز الكثير من مظاهر وعناصر التوتر والتمييز المذهبي، بدون العمل على إصلاح أوضاعنا في كل قطر عربي وإسلامي. فإصلاح الجزء هو مقدمة ضرورية لإصلاح الكل. والكثير من مظاهر التوتر، هي نابعة في بعض جوانبها من طبيعة الخيارات السياسية والثقافية المستخدمة تجاه ظاهرة وحقيقة التعدد المذهبي في بعض البلدان والدول.

فخيارات التمييز والتهميش والتغييب، تنتج أزمة في طبيعة العلاقة بين المذاهب في الدائرة الوطنية الواحدة. لذلك فإن إصلاح أوضاعنا الوطنية على هذا الصعيد، يساهم بشكل كبير في تجاوز الكثير من المحن وعناصر التوتر المذهبي على صعيد الأمة بأسرها.

من هنا فإننا نقول: أن التعدد المذهبي لا يشرع بأي حال من الأحوال إلى ممارسة الطائفية ضد بعضنا البعض، بحيث يكون الانتماء المذهبي، هو الذي يحدد مستقبل المواطن.

فإذا كان منتميا إلى المذهب الرسمي فإن أبواب الوظائف والمناصب في كل الحقول والميادين تكون مفتوحة أمامه. إما إذا كان المواطن ينتمي إلى مذهب آخر، فإن العديد من دوائر الحياة تغلق في وجهه ولا يسمح له بأن يقوم بخدمة الوطن في بعض المواقع والحقول. لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع إعادة صوغ العلاقة بين أهل المذاهب الإسلامية في الفضاء الوطني، هي رفض الطائفية بكل مسوغاتها وتبريراتها، التي تساهم في المحصلة النهائية في تمزيق المجتمع وتفتيت الوطن.

إننا ينبغي أن نقف ضد كل ممارسات التمييز والتهميش الطائفي والمذهبي، سواء صدرت من جهة سنية أو شيعية. ونرتكب جريمة كبرى بحق أنفسنا وبحق أمتنا، حينما نسوغ بعض الممارسات أو نبرر بعض السلوكيات الطائفية.

فالكراهية لا تفضي إلى الاستقرار، بل إلى التفتت والتشظي. والتمييز الطائفي بكل صوره وأشكاله لا يؤدي إلى الوحدة، بل على العكس من ذلك تماما، حيث أن يهيئ المناخ لبروز كل العوامل المضادة لها.

والتعايش لا ينجز بدحر التعدد المذهبي، بل بإعداد الفضاء السياسي والحضاري المناسب، لكي يمارس هذا التعدد دوره في بناء الوطن وتعزيز جبهته الداخلية.

وإن إصلاح أوضاعنا الوطنية على صعيد العلاقة بين أهل المذاهب الإسلامية في الدائرة الوطنية يقتضي الالتزام بالآتي:

1- الاعتراف القانوني والسياسي بكل المذاهب الإسلامية الموجودة في كل وطن، وإعطاؤها المجال والفرصة لكي تمارس بحرية كل أعمالها وأنشطتها الثقافية والدينية والاجتماعية.

2- سن القوانين التي تجرم وتعاقب كل مواطن، يمارس التمييز الطائفي. فلا يمكننا أن ننهي التمييز الطائفي من فضائنا الاجتماعي والوطني، إلا بوجود منظومة قانونية متكاملة، تتعامل مع كل أشكال التمييز الطائفي بوصفها جرما يعاقب عليه القانون.

3- تنقية المناهج التعليمية والتربوية والمنابر الإعلامية، من كل العناصر والقضايا التي تبث الكراهية الدينية والمذهبية. فلا يمكننا أن ننهي المشكلة الطائفية من واقع العديد من الدول العربية والإسلامية، إلا بإنهاء المصادر الثقافية والإعلامية التي تغذي هذه المشكلة وتمدها بالأسباب والمبررات. فالوفاق الوطني يتطلب دائما العمل على إنهاء كل العناصر والمفردات الثقافية والدينية والإعلامية، التي تؤسس للكراهية، وتشجع على التمييز والتهميش على قاعدة طائفية ومذهبية.

4- بناء ثقافية وطنية جديدة، قوامها الوحدة واحترام التعدد والتنوع بكل مستوياته وصيانة حقوق الإنسان.

فنقد الطائفية يقتضي العمل على تطوير ثقافة الوحدة والحوار والتعدد في الفضاء الاجتماعي. فلا يمكننا أن ننهي الواقع الطائفي بالشعارات المجردة والمقولات الجاهزة، بل بالبناء الثقافي الجديد، الذي يرفض العقلية الآحادية، والثقافة الإقصائية، والمناهج الاستبدادية. وذلك لأن المشكل الطائفي يستمد حيويته وفعاليته، من تلك العقلية الإقصائية والمناهج التي لا ترى إلا ذاتها وتلغي ما عداها.

لذلك فإن مواجهة المسألة الطائفية في أوطاننا العربية والإسلامية، تقتضي العمل على تفتيت جذور الثقافة الإقصائية والعقلية الآحادية المتخشبة التي لا تقبل التعدد وتحارب مقتضيات الحوار الحر والموضوعي.

من هنا فإننا مع الاعتراف التام القانوني والسياسي بالتعدديات المذهبية والفكرية والسياسية، ولكننا في الوقت نفسه ضد كل السياسات الطائفية التي تحوّل حقيقة التعدد من نعمة إلى نقمة، ومن عامل إثراء للسياسة والثقافة والاجتماع، إلى مدخل للصراعات الطاحنة التي تدمر كل المكاسب والمنجزات. والآخر المذهبي أو الفكري أو السياسي، ليس مشروعا للنفي والإقصاء المتبادل، وإنما هو مجال مفتوح وحيوي للتعارف والتفاعل والاغتناء.

إننا بحاجة إلى مواطنة مبنية على انتماء متكافئ بين متطلبات الخصوصيات وضرورات العيش والانتماء الوطني المشترك.

وإن التطلع إلى الوحدة والتآخي بين المسلمين، سيبقى هو الهدف الأسمى الذي ينبغي أن تسعى إليه القوى الحية في المجتمعات العربية والإسلامية. وإن وجود حالات التوتر والتناحر المذهبي في بعض المواقع والبلدان، ينبغي أن لا يدفع النخب الواعية في الأمة إلى الاصطفافات الطائفية والمذهبية، وإنما يحملهم مسؤولية إضافية تجاه العمل لإخراج الأمة من خطر وتداعيات الفتن الطائفية التي بدأت تلوح مخاطرها في بلاد الرافدين.

وإن بناء الوحدة بين المسلمين اليوم، بحاجة إلى إرادة جديدة، لتفكيك خطاب التمترس الطائفي وبلورة وإنضاج مبادرات وخطوات نوعية للوحدة والتآخي بين المسلمين، ولا بد أن ندرك وبعمق " أن البحث المجرد الموضوعي من قبل علماء وفكري وباحثي كل مذهب وطائفة لعقائد الطوائف الأخرى ومناهجها الفقهية، سيكشف للجميع على أن المساحات المشتركة واسعة جدا. أما الخلافات فيمكن الوصول في كثير منها إلى نقاط وفاق، وأما ما لا يمكن الوصول فيه إلى نقاط وفاق فيترك لكل مذهب، بحيث يكون من خصوصياته ومميزاته، ولا يجعل ذريعة لاعتبارها أساسا للخلاف والنزاع وإفساد العلاقات الإسلامية – الإسلامية " (5).

وعبر التاريخ الإسلامي المديد نجد أن كل محاولات فرض رؤية وقسر الناس على نهج أو مذهب محدد، باءت بالفشل. فكل الجهود التي بذلها المعتزلة لفرض رؤيتهم الكلامية على الأمة، باءت بالفشل. وذات الكلام ينطبق على أهل الحديث والدولة الفاطمية والدولة الأيوبية. فكل محاولات التعميم القسري للقناعات والعقائد باءت بالفشل.

وهنا من الضروري أن نذكر بالموقف الرائد الذي وقفه الإمام مالك بن أنس الذي رفض عرض المنصور العباسي عليه بأن يحمل الناس على الموطأ في القضاء والفتيا ويجعله للناس إماما، ولكن الإمام مالكا رفض هذا العرض وقال: إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار فحدثوا عند أهل كل مصر حيث حلوه، وكل مصيب.

فالاعتراف المتبادل بين أهل المذاهب الإسلامية، واحترام الرموز الدينية والتاريخية لكل الأطراف، وصيانة حقوق الجميع، هو السبيل الذي يجنبنا الكثير من التوترات والتناحرات، ويزيد من فرص الالتحام الداخلي بين المسلمين على مختلف الصعد والمستويات.

من هنا فإننا ندعو اليوم وعلى ضوء تطورات الحدث العراقي، إلى تأسيس هيئة وطنية لقضايا الوحدة والتقريب والتآخي بين المسلمين في كل بلد عربي وإسلامي. تأخذ على عاتقها التعريف بقيم الوحدة والتعددية والتسامح، والتواصل والحوار بين مختلف المكونات والتعبيرات، وإجهاض كل المحاولات التي تستهدف إذكاء النزعات الطائفية.

ومن الضروري الإدراك أن " التمذهب ظاهرة طبيعية في كل عالم ثقافي حضاري، وهو مما يتفق مع الفطرة. إننا لا نعتبر التمذهب، بالمعنى الفقهي، تمزقا في الإسلام، بل هو منسجم مع طبيعة اختلاف الأفهام والمدارك والرؤى في ضمن الإطار الواحد الجامع. إن الاختلافات المذهبية أمر طبيعي، وهي ناشئة من الاختلاف الاجتهادي في فهم ظواهر الكتاب وفي تقييم السنة، إن من حيث الصدور أو من حيث الظهور. جوهر الخلاف كما آل إليه وكما يجب أن يكون فهمه في عصرنا هو هذا: أي أن الخلاف ناشئ من اعتبارات عقلية ثقافية ترجع إلى الفهم الفقهي ولا يجوز أن تكون لهذه الاختلافات تعبيرات سياسية وتنظيمية على مستوى علاقات المواطنة وعلى مستوى علاقات المواطنين بالدولة والحكومة وموقعهم في النظام السياسي. ربما كان يوجد اعتبار سياسي في خلفيات بعض الخلافات القديمة، ولكن هذا زمن انقضى وانقطعت مقتضيات الخلاف فيه، أما الآن فيجب أن يحصر الاختلاف في المسالك والمناهج الفقهية في اختلاف فهم ظواهر الكتاب والاختلاف في السنة من حيث الصدور ومن حيث الظهور.

هذه المذاهب تتمتع بالشرعية الكاملة من كل مذهب تجاه المذاهب الأخرى، فأتباع كل مذهب يجب أن يكونوا معترفا بهم باعتبارهم مسلمين كاملي حقوق الانتماء إلى الإسلام على مستوى الأمة وعلى مستوى مجتمعهم الوطني الخاص، ويتمتعون بكل ما تتمتع به المذاهب الأخرى من دون اعتبار لكونهم أكثرية أو أقلية، بل لا يجوز اعتبار التنوع المذهبي أساسا للتصنيف إلى أقلية وأكثرية، ويجب أن تحترم عقائدهم وأفهامهم الخاصة وأن لا ينعكس تنوعهم المذهبي إذا كانوا أقلية على إمكانات اندماجهم في المجتمع وعلى تمتعهم بحقوق عضوية المجتمع وعضوية الأمة في المجال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

لا يجوز أن تؤدي الاختلافات المذهبية داخل المجتمع الإسلامي الوطني في أية دولة إسلامية أو على مساحة العالم الإسلامي كله، إلى اعتبار أي فريق من المسلمين أقلية لا تتمتع بحقوق الأكثرية المذهبية في ذلك المجتمع أو على مستوى العالم الإسلامي. بل يجب أن يعتبر الجميع سواء في حقوق المواطنية وواجباتها." (6).

وجماع القول: إننا في المجالين العربي والإسلامي، بحاجة إلى رؤية جديدة للتعامل مع التعددية المذهبية. رؤية لا تغيب الخصوصيات الثقافية لظاهرة التعدد، ولا تؤسس لكانتونات منفصلة ومتحاجزة عن بعضها بدعوى الانتماءات المذهبية. إننا بحاجة إلى رؤية ومنهجية جديدة، تزيد من وتيرة المعرفة و التواصل بين مختلف التعبيرات والأطياف المذهبية والفكرية والسياسية، ورفع مستوى التفاهم والتلاقي والتعاون.

وبهذه الطريقة ننزع عن كل الخصوصيات كل العقد، التي تفضي إلى الانكفاء أو التعصب الأعمى للذات.

فالتعدد المذهبي في إطار سياق ثقافي وسياسي يحترم التعدد ويضمن حق الاختلاف وحقوق الإنسان الأساسية، هو من الروافد الأساسية لبناء مواطنة متساوية وغنية في ثقافتها وخياراتها المجتمعية.

***

محمد محفوظ

.......................

الهوامش

1- السيد محمد حسن الأمين، الاجتماع العربي الإسلامي – مراجعات في التعددية والنهضة والتنوير، ص 85، دار الهادي، بيروت 2003م.

2- القرآن الكريم، سورة الحجرات، الآية 10.

3- الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، نقاط أربع لعلها تشكل نسيج الأمة الإسلامية الواحدة، ص 8، مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية وأثره في تحقيق وحدة الأمة، مملكة البحرين.

4- السيد محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن – مدخل إلى دراسة الفقه المقارن، ص 14، الطبعة الثالثة، دار الأندلس، بيروت 1983م.

5- الشيخ محمد مهدي شمس الدين، مادة أولية لصياغة ميثاق تأسيسي لهيئة قضايا الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب، ص 6، مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية وأثره في تحقيق وحدة الأمة، مملكة البحرين.

6- المصدر السابق، ص 14.

في المثقف اليوم