قضايا

التعليم العالي في العراق.. المشكلات المحبطة والمفاسد المثبطة

مقدمة: التعليم العالي أداة قوية وضرورية لبناء مجتمع عراقي حضاري ومثقّف ومسالم. وبطريقه  تنتج وتنشر المعرفة المتعمقة المتعلقة بمختلف مجالات الحياة، ومن خلال إعطاء منظور أوسع للعالم. لم يعد التعليم العالي رفاهية للمجتمعات وللافراد، بل أصبح ضروريا للبقاء على قيد الحياة.

مشكلات التعليم العالي

تتمثل المهمة الأساسية للتعليم العالي الحالية في التثقيف والتدريب وإجراء البحوث وتقديم الخدمة للمجتمع العراقي. لكن بتزايد نطاق التعليم العالي والطلب عليه يوما بعد يوم لم يعد بالامكان تلبية هذا الطلب إلا من خلال تحسين الجودة. تحسين جودة التعليم العالي هو حاجة الساعة. اليوم تعاني جودة التعليم العالي من تخلف في كل مكوناتها كالبيئة المواتية للتعليم والتعلم، والبنية التحتية، والمناهج الدراسية، والبحث، والنزاهة والانتماء.

يبدو لي ايضا بشكل ملموس تعدد ابعاد المشكلات التي يعاني منها نظام التعليم العالي في العراق، فهي تشمل عدم امكانية تلبية الطلب الهائل عليه، ونقص الموارد، وضعف تدريب القوى العاملة المؤهلة، وعدم الاتساق في سياسات الأنظمة المتتالية، وعدم الاستقرار السياسي، ونظام إدارة التعليم غير الفعال، والمحاصصة، وعدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وكثرة الفساد المالي والاكاديمي، وهدر الموارد، وسوء نوعية الاستيعاب، وعدم الكفاءة الإدارية، واكتظاظ الصفوف الدراسية، وظهور الجامعات والكليات الربحية، وعدم كفاية الخدمات الطلابية، وعدم كفاية الموارد المادية، وضعف المساءلة، وعدم الكفاءة في التدريس، وضعف البحث وعدم نزاهته، ونقص فرص البحث، وضعف او الغاء تنفيذ السياسات والبرامج.

زيادة اعداد الطلبة وتدهور الجودة

لم تتضاعف الجامعات فحسب، بل سجل الطلاب المنخرطين في الكليات والجامعات معدل نمو مرتفع بشكل استثنائي. وهكذا زادت مطالب التعليم العالي على قدم وساق. من المهم أن نتذكر أن زيادة استيعاب الطلاب في الجامعات بما يتجاوز قدراتها ادى إلى تدهور كبير في الجودة. لا ينبغي للوزارة أن تغض الطرف عن حقيقة أن زيادة الالتحاق، ولكل الطلبة من دون استثناء، وبغض النظر عن مستوياتهم التعليمية، ومن دون زيادة متكافئة في أعضاء هيئة التدريس المؤهلين يتسبب في تدهور جودة التدريس والتعلم. إن زيادة معدلات الالتحاق والتدريس تثير تساؤلات جدية حول الهدف الأساسي من التعليم العالي والجودة التعليمية - حيث إن غالبية أعضاء هيئة التدريس المؤهلين يعملون بشكل كبير في المهام الإدارية. كما أن نسبة التدريسيين الحاصلين على درجة الدكتوراه خصوصا من جامعات الدول المتطورة منخفضة جدا مقارنة بعدد التدريسيين من حملة الماجستير والدكتوراه المحلية. باختصار، فإن كل الإجراءات التي اعتمدتها الجامعات لتلبية احتياجاتها المالية مثل القبول الموازي والدراسة المسائية تزيد من الضغط على أعضاء هيئة التدريس والطلاب. تضع الزيادة في الالتحاق والتدريس عبئا ثقيلًا على التدريسيين حول كيفية إدارة الجودة في التدريس والوفاء بمهامهم البحثية.

إنني مدرك لحقيقة أنك عندما تدير جامعة حكومية تابعة للقطاع العام، فإنك دائما ما تكافح من أجل فعل المزيد بموارد أقل. لكن يجب أن نفهم أنه في مرحلة معينة، لا يمكنك فعل المزيد بالقليل. عليك أن تفعل القليل بالقليل. أعتقد أننا يجب أن نحافظ على الالتحاق بما يتماشى مع قدرات جامعاتنا والمستويات المدرسية لطلبتنا. فعل المزيد بموارد أقل سيؤدي في الواقع إلى زيادة تدهور المعايير المتدهورة اصلا للتعليم العالي. أعتقد أن الدولة لا تعالج المشكلة الأساسية لكنها تحاول ذر الرماد في أعين الناس. لابد من قبول حقيقة أنه توجد ازمة وتدهور في التعليم العالي في العراق.

دور رؤساء الجامعات في تحسين الجودة

أناشد رؤساء الجامعات للدفاع عن الهدف الحقيقي للتعليم العالي وإيصال رسالة قوية إلى القيادات السياسية في البلاد للوفاء بالتزاماتها فيما يتعلق بالتعليم الجامعي في العراق. وبالمثل، يجب على الجامعات، بدلا من قبول التوسعة وفرض الرسوم الدراسية واهمال تدريب التدريسين، إجراء مراجعة مكثفة للغاية لعملياتها التشغيلية الحالية والموارد في جامعاتها المعنية كالتي تم اجرائها من قبلنا لبعض الجامعات العراقية في عام 2017. يجب أن ينظروا إلى أشياء مثل اهمية تكنولوجيا المعلومات، وضمان الجودة وتحسينها، وتغيير طرق صرف اموال الرسوم الدراسية، وايلاء اهتمام اقل للمحاولات غير المجدية للدخول الى التصنيفات الدولية.

الكليات الاهلية

دخلت الكليات الاهلية لسد الفجوة التي ظهرت لتوفير مقاعد جديدة للطلبة، لكن انتهى بهم الأمر فقط إلى إلحاق المزيد من الضرر بالتعليم العالي، بعد الانغماس المنحط في سباق جنوني لكسب المال، وتغليب الربح على الجودة. من المحتمل أن يسيطر في المستقبل قطاع اهلي مكلف بشكل متزايد على قطاع التعليم العراقي، بدءا من مستوى التعليم الابتدائي إلى المستوى العالي. نتيجة لذلك، سيزداد ارهاق الغالبية العظمى من الناس بتحمل نفقات التعليم التي يتكبدونها في المدارس والجامعات الاهلية.

التعليم حق أساسي لكل مواطن يعيش في أي بلد، ويتم توفير هذا الحق من قبل جميع البلدان المتقدمة على أساس الأولوية. لكن في العراق، ترك  اولياء الأمور والطلاب بدون خيارات عندما تعلق الأمر بالسعي للحصول على تعليم جيد باجور او بدون اجور.

ضمان الجودة

استمرت مراقبة الجودة منذ بدايتها في السنين التي سنح لنا بادخال انظمتها للجامعات العراقية وبوضع قواعدها بالاستناد على اسسها العالمية، لكن لم يتم تطبيقها بالصورة المرجوة ولم تنمو او تتطور بل اهمل الكثير من اهدافها واساليبها بالاضافة الى زيادة المشكلات المتعلقة بها نتيجة ضعف التدريب وازدياد البيروقراطية والاهتمام بالمصالح السياسية الضيقة. ستستمر هذه المشكلات في التكاثر لفترة طويلة قادمة.

احدى اهم الاسباب الرئيسية لعدم كفاءة مؤسسات التعليم العالي هي مركزية الهيكل التنظيمي. يجب تعزيز الاستقلالية المؤسساتية في سياق يسعى إلى مزيد من المساءلة وطرق أكثر منهجية لهيكل الجامعات. يبدو أن الوزارة بهيكلها البيروقراطي ومجالس  الجامعات غير مدركين لاهمية هذه القضايا الهيكلية للجامعات. هذا النوع من الادارة المركزية يؤدي إلى عدم قدرة الجامعات على مواجهة التحديات. تشمل هذه التحديات الاستجابة لاحتياجات سوق العمل وخلق مهن جديدة.

وتعتبر قضايا الحوكمة على المستوى الهيكلي والاكاديمي والتنظيمي عوائق مهمة امام التعليم العالي الجيد، وهي مشوهة في النظام المركزي العراقي بحيث ان الجامعات تدار وكأنها فروع لجامعة واحدة اسمها وزارة التعليم العالي.

نظام التعليم العالي في العراق كما يبدو لي بعيد كل البعد عن التطور. فكما ذكرنا اعلاه تعتبر مسألة الحوكمة وتطوير دور مجلس الجامعة او الكلية في كل من الجامعات الحكومية والاهلية أمرا بالغ الأهمية بالاضافة الى وجود حاجة ملحة إلى إدارة أفضل لضمان الجودة.

البحث العلمي

لا يتساوى التعليم العالي في العراق مع المعايير الدولية، مما يترك قلة من الخريجين المؤهلين الذين يمكنهم العمل في التنمية وفي ردف متطلبات سوق العمل. على المستوى الأكاديمي، يجب أن يكون هناك توازن صحيح بين البحث والتدريس، لأن البحث ضروري لتطوير أعضاء هيئة التدريس وتحسين التدريس. لسوء الحظ، في غالبية الجامعات في العراق، يتم التركيز على طلبة الدراسات العليا في اجراء البحوث والتي معضمها بحوث سطحية ولا تعالج مشاكل البلد الصناعية والزراعية والطبية والاجتماعية وترتكز على قاعدة مختبرية ضعيفة ويشوبها الغش والنشر الزائف كما تفتقر الى ميزانيات مخصصة من قبل الدولة.

إذا أخذنا في الاعتبار البحث العلمي في الجامعات الحكومية والاهلية، فقد أصبح المسعى مجرد انتاج بحوث للنشر في المجلات الزائفة او الضعيفة. البحث الجاري في العديد من الموضوعات بعيد كل البعد عن المنفعة العملية ومنفعة المجتمع، ويفشل في معالجة أو محاولة معالجة التحديات الحقيقية التي يواجهها البلد. ضاعت الروح الحقيقية للعمل العلمي من أجل تحقيق اهداف العلم الحقيقي وحل المشاكل.

بدلاً من ذلك، أصبح البحث معيارا للترقية السريعة إلى مراتب أعلى في الجامعات وللحصول على الشهادات العليا، بغض النظر عن كيفية ومكان نشر أعضاء هيئة التدريس وطلابهم البحثيين لاعمالهم. لا يوجد دليل أخلاقي ولا قواعد للنشر في المجلات الرصينة. لقد جعل السباق للنشر كلا من الطلاب والأساتذة يتجاهلون قيمة ومصداقية الناشرين والمجلات وما إذا كانت ذات سمعة مقبولة. تعمل دور النشر هذه على أساس سياسة "الوصول المفتوح" للقراء، لذلك يطلبون المال من المؤلفين لنشر أعمالهم. ويتم دفع ذلك بسعادة من جيوب الباحثين والطلاب.

النوعية والتأهيل وفرص العمل

اخيرا، لا يمكن للعراق أن يتقدم ليصبح نظام التعليم العالي فيه قويا نوعياً بما يكفي لأن النوعية الرديئة التي تسود اليوم تؤدي إلى انخفاض فرص العمل، وانخفاض أداء الأفراد المتخصصين، والافتقار إلى الأفكار المبتكرة والإبداعية. هذه هي العناصر الأساسية للنجاح والتقدم في الوقت الحاضر. بشكل عام، هناك حاجة الى اختيار العناصر القيادية الكفوءة لتوسيع قدرة التكيف والتغيير، وتحسين جودة نظام التعليم العالي بحيث يكون أكثر استجابة للعالم المتغير ويلبي الاحتياجات المتنوعة للاقتصاد - على الصعيدين المحلي والعالمي. لهذا الغرض، مطلوب مبادرات خاصة لتعزيز قابلية التوظيف. يجب تجديد المناهج والمحتوى باستمرار من خلال الجامعات وليس من خلال سلطة وزارية مركزية، وبإنشاء شبكة تأهيل وتنمية المهارات.

اهمية التأهيل للوظائف اصبحت اليوم كاهمية التعليم بذاته فهو يهدف الى اكساب طلاب الجامعات والخريجين المهارات التي تتطلبها الوظيفة المناسبة، واكتساب مقومات النجاح في العمل. هنا يكمن الفرق بين التعليم الجامعي والتأهيل. تخرج الجامعات في يومنا هذا متعلمين ولكنها تفشل في تأهيلهم للوظائف ومتطلبات سوق العمل. المهارات التي يكتسبها طالب الجامعة العراقي وحتى درجة الدكتوراه ضعيفة وقليلة جدا بحيث يمكن القول انه غير مؤهل تأهيلا مناسبا لاي من وظائف اليوم سواء كانت طبية او هندسية او غيرها.  قد يكون الخريج متعلما حفاظا لكنه ليس بالمؤهل، وهو لربما اسوء من قرينه المصري والذي يبدو انه فشل فشلا مريعا في امتحان المهارات كما اضهره فيدو حديث انتشر للرئيس المصري وهو يعلن عن نجاح 111 فرد فقط من اصل 300 الف خريج في امتحان التأهيل والمهارات الضرورية. الخريج العراقي قد ينجح في امتحان الدراسة ولكنه سيفشل في امتحان التأهيل للوظائف لعدم امتلاكه للمهارات اللازمة والمطلوبة في القرن الواحد والعشرين.

ملاحظة اخيرة

الخلاصة ان التعليم العالي بحاجة الى اصلاح جذري، وانه لا يمكن تحقيق هذا الاصلاح والتطوير إلا بانهاء المحاصصة وبالاعتماد على الكفاءات المغيبة حاليا وتطبيق معايير ضمان الجودة في التدريس والبحث، وبالإرادة القوية والتصميم على احداث التغيير.

***

ا. د. محمد الربيعي 

في المثقف اليوم