قضايا

باثولوجيا الثقافة.. الفاسد

"قد لا يعلم الفاسد أنه فاسد إلاَّ حينما يشير إليه المجتمعُ بأُصبُع الاتهام..."

"أنتَ مُشارك في الفساد بدرجةٍ أو أخرى ولو عن طريق الصمت..."

هل هناك فسادٌ قضاءً وقدراً؟ هل يولد الفاسدُ فاسداً أم له ولادة ثقافية أخرى؟ ولماذا يصبح الفاسد كذلك قوياً ومؤثراً؟ وهل قضايا الفساد أخلاقية أم إقتصادية أم سياسية أم معرفية؟ طبعاً الأسئلة محيرة لدرجة الفوضى. ليس وجهُ الحيرة نتيجة أن الأسئلة عصيةً على الإجابة الواضحة، بل تعود لسببين يتبادلان الأدوار في المواقف المختلفة من الفساد.

أولاً: سهولة الاجابة على الأسئلة الماضية، إذ يستطيع الإنسان الإدلاء بأية إجابةٍ في هذا الصدد، لدرجة أنَّ أي إنسان بإمكانه أنْ يجيب عليها، وأنْ يضع إجابة مكان إجابةٍ أخرى. بل ربما لا تُوجد كلمة تتقاذفها الألسن مثل كلمة( فساد، فاسد، فاسدون، مفسدون) ومشتقاتها ومواقعها المجاورة.

فهذه الكلمة هي الشغل الشاغل (سلباً وإيجاباً) لجميع الأنظمة السياسية والإدارية والإقتصادية على مساحة المعمورة. وبخاصة أنَّ هناك ظروفاً سياسية اجتماعية تهب على المجتمعات تقتضي إعادة تشغيل الكلمة ومشتقاتها من حين لآخر. كحال المجتمعات العربية التي تغرق مراراً في مستنقع الفساد، ولم تخلو حقبة من تتابع أعمال الفساد في مجال أو غيره، وقد يتناسل الفاسدون من جيل إلى آخر بمسميات ومبررات مختلفة.

ثانياً: أنَّ الإجابة مُركبة جداً، بل تكاد تكون مقلقة ومربكة. لأنَّ الفساد يصعب معرفة حدوده وتأكيد نقطة بدايته وكيف سينتهي مع قادم الأيام. وأنه يحمل طابع المجتمعات التي يظهر فيها ويتلون بوجودها مع إختلاف العصور. كما أن الفاسدين لا تعوزهم الحيل المبتكرة والخطابات المتلونة كسباً لأرضيات جديدة ومنافع متنوعة. وأصبح لهم معالم وطرائق وسمات تاريخية وواحدة على وجه التقريب. كما أنهم يجسدون البنية الذهنية نفسها من حيث طريقة التصرف واستعمال الألاعيب والحيل إزاء المواقف وتكتلهم البشري لو قابلتهم مشكلة أو تحديات. كل فاسد – من تلك الجهة-  يعد عينة sample تلخص معالم عصر بأكمله من الثقافة والرؤى والأجواء السياسية والإجتماعية.

القضاء والقدر ليس يُجدي في حالة الفساد، فالقرآن قطع الطريق على هذه المسألة بوضوح:" ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"( الروم 41)، ولنلحظ أنَّ الكلمات بنص القرآن هنا مهمة في تحديد مساحة الفساد كمفهوم:

1- ظهر.. أي أنه لم يكن هنالك ثم كان، أو كان الفساد موجوداً بطريقة غير ظاهرة ثم بدأ في البروز والانتشار. والظهور عملية ثقافية وليست بيولوجية ولا طبيعية صرف، لأن هناك كلمة الناس الآتية من الإنسان، و الظهور هو الرداء الثقافي لكياننا البيولوجي نتيجة التفاعل والحياة المشتركة بين الناس.

2- في البر والبحر، وهما كلمتان مجردتان من أية غطاء معرفي أو ثقافي. فالبر والبحر كلمتان موجودتان ضمن كل المجتمعات تقريباً، وتشتملان على كل مساحة من الكرة الأرضية. فليس هناك غير المياه واليابسة على كوكب الأرض، فكيف الحال إذا كان المعنى يقصدهما تحديداً؟

3- فعل كسبت، أي ترجمت أيدي الناس الأفعال إلى فساد و إلى عمل فاسد. أي اختارت هذا الإتجاه دون سواه، فهل كانت الأشياء الموجودة بين أيدي الناس صالحة ثم غدت فاسدة؟ هل الفساد موجود (مخلوق) بطريقة الأشاعرة، ثم كسبه الناس فخرج من حالة الخيرية إلى الفساد؟.

4- فعل كسبت يهمس بدلالة إقتصادية من وراء الإشتقاق الثقافي الاجتماعي. أي تم تحصيله من واقع القوة الإنسانية الكامنة في رمزية اليد. وهو ما يشي بوجود تجارة في عملية الفساد، والتجارة تشمل جوانب سلطوية  واجتماعية وسياسية.

5- كلمة أيدي، يعني أنَّ الفساد جزء لا يتجزأ من العمل والممارسة البشرية، وأنه لم يأتِ مصادفةً، لأن الكسب طريقة في جوهر التحصيل البشري عن قصد وروية.

6- الأيدي تنم عن تداول الفساد والمرابحة في دوائره، وأنه نوع من المقايضة التي تحافظ عليه كما هو. فالإغراء كامن فيه من جهة وجوده على هذا المستوي من الفعل العام.

7- كلمة الناس تنقل دلالة الجمع، فالفساد لا يأتي مفرداً حتى وإن بدا كذلك. إن هناك مستوى نسقي ثقافي من واقع المجتمعات كأبنية إنسانية خلال التاريخ.

8- ترتبط دلالة الفساد بسلطة ما تغطي على الممارسات الفاسدة وتضمن استمراريته الجزئية هنا أو هناك. أي أن الفاسدين ليسوا كذلك ما لم يكونوا قد احتموا بسلطة أو قوة معينة.

اللافت للنظر أنَّ جوانب معنى الفساد في القرآن تلتقي بمسار الفساد في الثقافة وتكوينه عبر سياقها العام. فهو يتبلور كنموذج على هيئة ممارسات وتصورات وعلاقات بين أفراد المجتمع تؤدي إلى الاخلال بالأسس والمعايير والتلاعب بالقيم والقوانين، لأجل الاستحواذ على المكانة وجني المنافع والتربح بآثاره المختلفة.  والفاسد ليس فرداً ولن يكون هكذا، نظراً لأنَّ الفساد ليس فرداً ولم يكن من الأساس. الفاسد ينغمر في حياته العملية كأنه يعمل صالحاً لابد منه.

بعض الأفراد يبدون محلَّ أعجابٍ وتقدير من الناس، ولكن تلاعبهم بالسلطة  يجعل الفساد موقفاً عمومياً ذا أثر على الآخرين.  يقول القرآن: " وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (البقرة205). فهذا الفرد قد يكون مقبولاً على نطاق كبير، وقد يكون له سيرة حميدة، بيد أن فساده مرهون بالمكانة التي يأخذها، حينئذ يعصف بالقيم ويبطش بكل القوانين واللوائح والمبادئ العامة.

إن أخطر ظاهرة في عالمنا المعاصر هي" ظاهرة الفساد "، لأنها حصيلة عوامل متعددة في صلب الثقافة، وهي التعبير (غير المباشر) عن تداخل جوانب الحياة الراهنة. وترتبط  بقدرة المجتمعات على ممارسة عمقها التاريخي الموروث. كما أن المظاهر التي يأتي بها الفساد تبدو فردية أو أحادية، غير أنها جمعية وقابلة للتشكل وانتاج ظواهر أخرى على الأقل في محيطها القريب.

لا يشير الفاسد إلى نفسه إطلاقاً، لا يقول عن نفسه ما يقوله سواه، ويظل يُردد أنه مصلح لا فاسد، أنه صالح لا طالح، أنه يرجو الخير لا الشر، وأنه أكثر من يفهم في القوانين واللوائح لا غير. وهنا الكارثة، حيث لم يدرك أنه مجرد وسيلة منحطة في أيدي ظاهرة أكبر منه تدور كعجلة عملاقة في إطار ثقافة طاغية.

" وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ" (البقرة 11 -12).

والفاسد يندفع بفهمه المحدود للانهماك فيما يفعل، ويصر على كونه ينجز مهاماً لا قبل لأحدهم بها. ولكن من واقع غبائه، لا يدري مدى الفساد الذي ينخرط به. على سبيل المثال: هناك فاسد يظن أنه عندما يمرر شيئاً دون تدقيق ودون تجويد ودون مراعاة المعايير بخلاف المواصفات التي وضعها القانون، فإنه يفعل فعلاً عادياً ولا مساءلة عليه لكونه الجهة التي تخرج هذا الشيء للعلن. وهو متيقن تماماً أنه يفعل ما يمليه عليه فحوى القانون وأنه لن يخضع للمساءلة وأنه إنسان ذكي استطاع التلاعب في الخفاء والاحتماء وراء جدران الصمت من المحيطين به.

هنا توجد عدة ملاحظات على درجة كبيرة من الخطورة:

- الفاسد مجرد مسؤول صغير، لكن الفساد الذي يسببده ليس صغيراً على الإطلاق. لأن كل فاسد هو نقطة رياضية على خطوط الطول وخطوط العرض لنسق الثقافة الذي هو المحيط الواسع للإحساس بالفساد.

- يقاس الفساد بالآثار والتقاليد والآليات والمعاني التي يتركها. فقد يكون فعلاً محدوداً داخل إحدى المؤسسات، لكنه من منظور عام يمثل الفساد المحدود آلية مترامية الأطراف لهيكل الثقافة ولنظام الفساد داخل المجتمعات.

- يجسد الفاسد الصغير نموذجاً عاماً، أنه مجرد فسيلة تافهة لهذه الشجرة  الخبيثة الكبيرة. لذلك يا لها من سخرية حين يظن الفاسد الصغير أنه ألعبان وأنه يمارس نوعاً من الفَتَاكة( أي ركوب ما تدعو إليه نفسه وأهواؤه دون مبرر وبلا مبالاة) وخفة اليد في تمرير المسؤوليات والقرارات، لأنه عندئذ يعد عبداً وترساً صدئاً في ماكينة الفساد التي لا يعلم عنها شيئاً. أنه يظن نفسه متمرداً وقادراً على عمل ما لا يأتيه الآخرون فإذا به عنوان للعجز المزي وأنه كائن مستعمل.

- الفاسد الصغير يُسهم في هدم المجتمع نفسه. وليست هذه مبالغة فكرية، لأنَّ الثقافة هي التي تقارب النقاط البعيدة لما يفعل، وتسدد الخطى نحو الغايات الأبعد. كل فاسد تافه ضمن موقعه يساوي قدرة المجتمعات على أنْ تحقق أهدافها وأنه يخلخل الأرض تحت أقدامها كأي كارثة كبرى تُنذر بخلخلة المبادئ والأسس. الفاسد حقير الشأن، لكن الفساد الذي يتركه سيظل طويل الأمد.

إن قضايا الفساد لا تقل تأثيراً عن قضايا الحروب وتخريب المجتمعات، وأن الفاسد كنموذج ثقافي يبدأ كبذرة غضة يمكن أن تموت، لكنها تنمو وتضرب جذورها في التربة. إذ تلتقي مع جوانب الثقافة الأخرى من الاستسهال والسطحية وشيوع التفاهة.

الفساد هو الفعل الفاضح الجديد في حياتنا المعاصرة أو هكذا ينبغي النظر إليه، ليس يكفي اعتباره انحرافاً عن القوانين أو استغلال المناصب والمسؤوليات الرسمية لأغراض شخصية، إنما هو عمل عمومي مشين يعتدي على كل الناس جميعاً في وقت واحد وبدم بارد. ولن يذهب عن ساحة المجتمعات والأنظمة السياسية العربية إلاَّ مع ترسيخ قيم الحرية والعمل الجاد وتطبيق القوانين وانفاذ الدساتير ونبذ أساليب الفهلوة والفتاكة والوصولية. فهذه القيم تجعل من الحياة سُوقاً للتلاعب والمتاجرة بكل غالٍ ورخيص.

***

سامي عبد العال 

في المثقف اليوم