قضايا

نداء القلم: جميلٌ في جلال وجليلٌ في جمال

حقيقة الدين في الإسلام محبّة رسول الله، ولا حقيقة سواها أقدر على التعبُّد لله والتواصل معه، وتحقيق العبودية له، ولم تكن من صلة ظاهرة أو خفية على قسطاس السّعة والحضور أعلى ولا أحق من هذه الحقيقة الناصعة الساطعة، وليس من خُلق أكمل ولا أتمّ من خُلقه الكامل التام عليه السلام.

وقد جاء في كتب السيرة أنه عليه السلام لم يكن يفتر من ترديد كلمات الله في كل حال، كان القرآن أنفاسه الطاهرة تخرج وتدخل بين شهيق وزفير وعليها خلعة الحضور الدائم مع الحق، يقرأه بوضوء وبغير وضوء، وفي كل حال، وعلى كل حال، ولا ينقطع عن تلاوته، ويحب أن يسمعه من غيره، وهو في كل حال في معيّة الله على الدوام بغير انقطاع.

فما من عجب أن يكون خلقه القرآن، وما من عجب أن يصفه الحق بأنه على خلق عظيم، وما من عجب مرة ثالثة في أن تكون حقيقة الدين الإسلامي هي محبته، فالمسلم الذي لا يحبّه لا يعرف من حقيقة الدين شيئاً. وليس يتم إيمان مؤمن قط حتى يكون أحبّ إليه من ماله وولده والناس أجمعين بل من نفسه التي بين جنبيه.

إذن؛ هو حقيقة الدين وليس من حقيقة ناصعة ساطعة سواه.

وإذا تقرّرت هذه الحقيقة تقرّرت معها محبته، ووجب هنالك تقديرها في الإسلام من عين الإتباع الذي لا يعلو عليه سهم في العبودية (قل إن كنتم تحبُّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله) فأوجب اتباعه شرطاً لمحبة الله، والمشروط هو ما يدلُّ عليه الإتباع لتحقيق فعل المحبّة. وما من محبّة قائمة في قلب محب بغير شرط الإتباع.

وما من شرط أقوى من شرط المحبّة في أدب العبودية، ولا تزال معيته عليه السلام أكمل درجات العبودية لله، ولا يزال كلامه (سنته) - قولاً وفعلاً وتقريراً - منبع الهداية ومصدر الاستقامة لمشروط الإتباع بغية تحقيق المحبّة.

يُقال إن أبلغ وصف بلغ الدقة لسيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه هو وصف أم معبد له، غير أنها لم تبلغ ممّا وصفت سوى ما شاهدت من حيث وقع نظرها هي على ما رأت، لا من حيث وصفت من حقائق، فجاء وصفها على قدرها لا على قدره، والفرق من بعدٌ كبير.

وصفت (أم معبد) تلك المرأة العجوز  التي كانت تسكن البادية لزوجها، وصفت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فقالت :

- رأيت رجلاَ ظاهر الوضاءة. أبلج الوجه (مشرق الوجه)، لم تعبه نحلة (نحول في الجسم)، ولم تعبه سجلة (ضخامة في البطن)، ولم تزرِ به صقلة (لا بناحل ولا سمين)، ولم تزر به صعلة (صغر في الرأس).

- وسيم قسيم (حسن وضيء)، في عينيه دعج (شدة سواد البؤبؤ وشدة بياض البياض). وفي أشفاره وطف (طول شعر العينين). وفي صوته صَحل (بحه وحُسن). وفي عنقه سطع (طول). وفي لحيته كثافة، أزج أقرن (حاجباه طويلان ومقوسان ومتصلان). إنْ صمت فعليه الوقار. وإن تكلم سما وعلاه البهاء. أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأجلاهم وأحسنهم من قريب، حلو المنطق لا نزر ولا هذر (كلامه وسط لا بالقليل ولا بالكثير)، كأن منطقه خرزات نظم ينحدر. ربعة (ليس بالطويل ولا بالقصير). لا يأس من طول ولا تقتحمه عين من قصر.

- غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراَ وأحسنهم قدراَ (الثلاثة الذين مروا بخيمتها طالبين شيئاً يسدّ رمق جوعهم فحلب صلوات الله عليه شاةَ يأست أم معبد من ضرعها).

- له رفقاء يحفون به، اذا قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره. محشود محفود (عنده أصحاب يطيعونه)، لا عابس ولا مفند (غير عابس الوجه، وخال من الخرافة).

هكذا كان وصف المرأة العجوز (أم معبد) التي ترّبت في البادية وصفاً دقيقاً لأشرف الخلق وأطهرهم وأجملهم سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه رغم دقته فهو وصف على قدرها لا على قدره، فليس يعرف قدر رسول الله سوى مولاه. حتى إذا ما وصفه الواصفون فبمقدار ما يرونه منه، وصف على قدرهم هم لا على قدره هو.

وممّا جاء في وصفه أيضاً صلوات الله وسلامه عليه أنه كان عليه السلام أكحل العينين، واسعهما، شديد سوادهما، وبياض عينيه ناصع البياض، مستقيم الأنف أمسح الخدين في وجهه تدوير كقرص القمر ليلة التمام، شديد الشعر ناعم مرسل طويل يصل إلى كتفيه من الخلف كان يفْرقه من وسطه.

صدره واسع ليس بالممتلئ، بل رشيق، قليل اللحم ليس بالسمين ولا بالرفيع. ليس بالطويل ولا بالقصير. طويل العنق أبيض أزهر، شديد البياض عظيم الهامة، واسع الجبهة اذا ضحك أو غضب ظهر عرق في جبينه. لحيته كثيفة سوداء، لين الكف، طيب الرائحة، إذا صافحه أحد أشتم في يده أثر رائحة طيبة. أبهى الناس وأجملهم من بعيد، وأحسنهم وأجلّهم وأوقرهم من قريب، كان له جمالٌ وجلال، غير أنهما متداخلان في الصفة الواحدة لا يفترقان، فجماله جليل وجلاله جميل، وجلال الجمال رحمة للعالمين. لا يلقاه الطرف إلا ويسكن إليه، إذا رأيته تحب ألا تنزل عينك من النظر إليه، وفِي ذات اللحظة تخاف من إطالة النظر الى وجهه الشريف لمهابته وجلاله.

محبوب في جلال، ومهيب في جمال، لكأنما الصنعة الإلهية شاءت أن تعجز فيه كل من يراه، حسّن الله خَلْقه كما حسّن خُلقه، وعظّم.

عظم ليعجز .. فما وصفه واصف إلا ودل وصفه على الإعجاز الظاهر والباطن سواء. الظاهر في السماحة والتقوى. والباطن في الأخلاق والمعاملة.

كان صلى الله عليه وسلم لا يعبس إلا إذا انتُهكت حرمات الله، ويغضب في الحق وللحق حتى تحمر وجنتاه. وإذا تلألأ وجهه كأنه القمر في ليلة البدر. وإذا تكلم يحدّد كلامه لا يطيله ولا يخرج عنه، كأنه يخرج منطقه خرزات نظم يتحدّرن. وفي منطق التعليم، وهو الذي أوتى جوامع الكلم، ولم يكن لينطق عن هوى، يكرر الكلمة تلاث مرات، ويشدّد عليها، لأنه معلم بالطبع والحكم والحكمة. هو بشر نعم، لكنه ليس كالبشر بل كالياقوت بين الحجر، وقد حاز آيات الكمال المعجزة في خَلْقِهِ وخُلِقِه.

صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله وسلم تسليماً كثيراً.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم