قضايا

علم اجتماع الاستبداد

إذا كانت أسباب انهيار الأمم، هي داخلية بالأساس، إذ أن" الأمم لا تموت قتلاً وإنما انتحاراً"، على حد قول الفيلسوف والمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، فنحن نعتقد أن الكامن وراء كل هذا الانهيار الداخلي الذي ضرب كثيراً من الأمم هو الاستبداد، فهو أصل كل الشرور ومبعث كل الخطايا.

وإن شئنا وصفاً أكثر دقة: هو إله الانحطاط الحضاري وخالقه ومبدعه، فقد شكَّله بكلتا يديه من طين القهر والاستعباد ونفخ فيه من روح التسليم والانقياد.

وعليه يتحتم أن تترسخ لدينا حقيقة مفادها، أنه لن ننتصر في معركتنا ضد الشرور التي تجتاح العالم من دون تفكيك بنية الاستبداد ومن ثم بتر يده، بل اليد والرأس معًا، فاليد رمز لفعل الاستبداد في حين أن الرأس تعبير عن القناعة المتجذرة في عقل كثير منا حول حتمية الاستبداد كوضعية أزلية لهذه البشرية وأنه لا بديل عنه ولا مهرب منه.

فوراء كل كارثة، وراء كل انكسار لعين حاق بالحضارة الإنسانية، يتحتم أن نفتش عن الاستبداد، فهو الذي أعطى لآفة الانحطاط جواز المرور لأن تنشب بمخالبها في لحم الحضارة الإنسانية.

إن ما نقصده هنا هو الاستبداد بمفهومه العميق: سواء في بنية النظام العالمي ذاته، أو داخل الأوطان، أو في نطاق المؤسسة،أي مؤسسة، أو حتى داخل الأسرة، كما أنه ليس السياسي وحده بل الديني منه أو الاجتماعي، إنها الحرية إن غابت غاب معها كل شيء جميل، إن انطفأ نورها أظلمت الدنيا.

هذا الاستبداد الذي أدخلنا في تلك الحالة من الانحطاط الحضاري ولياليه العتماء بعد فتن وصراعات وحروب مميتة، ونحن نعتقد أنه يكاد يكون قانونًا صارمًا من شأنه أن يسري على جميع الأمم التي ترضى بفعل الاستبداد وتنقاد له.

والخطورة أن الاستبداد يكتسب طابعًا وبائيًا فينتشر انتشار النار في الهشيم ليضرب كافة تضاعيف الحياة السياسية والاجتماعية في المجتمع، فلا يقتصر على استبداد الأنظمة وحدها بل ينتقل لاستبداد كل فرد على ما هو دونه وصولًا لأدنى طبقات المجتمع، حتى داخل الأسرة ذاتها، ومن ثم تغيب الحرية وينعدم الرأي والرأي الآخر بشكل مطلق، فتتشكل ثنائية ضخمة (مُستبِدّ, ومُستبَدّ به)، تلك الثنائية التي لن ينجو منها أي فرد داخل مجتمع الاستبداد.

كما أن المستبد يسعى دومًا إلى قتل الخيال لدى الجماهير في محاولة منه لتثبيت الوضع القائم وتحنيطه، فيجف نبع إبداعها، ومن ثم تضمحل وتموت روحها، ويتكلس خيالها، بل وعبر وسائل إعلامه يعمد إلى صنع خيال ووعي زائف يتمركز حول أطروحة تأسيسية كاذبة مفادها أن نبض قلب الأمة مرتبط ارتباطًا شرطيًا بتواصل نبض قلب المستبد، وتصبح المحافظة عليه قابعًا في السلطة هي مسألة أمن قومي فائقة الخطورة.

فهنا قد جرى تزييف الخيال الجماهيري، وهو ما يؤكده جوستاف لوبون بقوله:"إن معرفة فن صياغة مخيلة الجماهير تعني معرفة فن حكمها"، فهي إستراتيجية يجيدها كل طغاة الأرض.

ولا نريد أن نغادر تلك الفكرة من دون الإشارة إلى بعض الأطروحات الرجعية التي ذهبت إلى أن هناك شعوبًا بطبيعتها تفضل الانقياد للمستبد ولا يصلح معها النظام الديمقراطي التشاركي، وهي في اعتقادنا ادعاءات عنصرية كذَّبتها الدراسات الحديثة التي غاصت في أكثر مستويات التحليل عمقًا، والتي أكدت أن الحرية هي قيمة جوهرية نائمة في أعماق كل البشر، هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولكن الشعوب تمر بمراحل تطور وفق ناموس حتمي حتى تتفهم قيمة الحرية ومركزيتها في حياتها.

من هنا يمكننا وبلا مبالغة تصنيف الشعوب حضاريًا بحسب موقفها من الحرية، فكلما تحضرت الشعوب كلما عظمت لديها قيمة الحرية وأصبحت بحق أم القيم متمركزة في بؤرة نسقها القيمي، تأسيسًا على ذلك يمكن أن نضع (بارومتر الحرية) لقياس مدى تحضر الشعوب ورقيها في سلم الحضارة.

ومن ثم فعلى الشعوب أن تدرك أن الحرية قيمة غير قابلة للمقايضة بأي شيء آخر، وكما يقول بنيامين فرانكلين:"من يضحى بالحرية من أجل الأمن لا يستحق أي منهما"، ونحن نقول لن يحقق أي منهما، فالدكتاتورية والاستبداد وغياب الحرية والعدالة هو تهديد مباشر للأمن القومي للشعوب، هو قلق واضطرابات ومجاعات، هو مصارع الأمم ونهايتها.

وها هو جمال الدين الأفغاني، بعد أن جال في ربوع العالم الإسلامي، يكتشف ذات الحقيقة المروعة بأن الاستبداد كامن وراء كل لحظة انحطاط مرت بها هذه الأمة، فيقول:"ملعون في دين الرحمن.. من يسجن شعبًا.. من يخنق فكرًا.. من يرفع سوطًا.. من يُسكت رأيًا.. من يبنى سجنًا.. من يرفع رايات الطغيان.. ملعون فى كل الأديان.. من يُهدر حق الإنسان.. حتى لو صلّى أو زكّى وعاش العُمرَ مع القرآن".

غير أن أطروحات العلاّمة عبد الرحمن الكواكبي حول الاستبداد تبقى هي الأروع على الإطلاق، إذ غاصت في أكثر مستويات التحليل عمقًا لسبر أغوار تلك المعضلة، وإن جاز لنا أن نفترض أن دراسة الاستبداد تُعد علمًا قائمًا بذاته فسيكون الكواكبي مؤسسه الأول وسيده على الإطلاق.

فلقد وضع الكواكبي يده على مكمن الداء، ومن ثم خلص إلى أن هذه الإشكالية هي أم المشاكل، ففي عبارة جرى نحتها بعناية شديدة، من شأنها أن تُلخِّص كل شيء، يقول الكواكبي:"لقد تمحَّص عندي أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي، ودواؤه هو الشورى الدستورية".

ومن ثم، وفي جملة لا تخلو من عبقرية، يقول:"وعندي أن البلية فقدُنا الحرية، إنّ الحرية هي روح الدين"، ويضيف:"القرآن الكريم مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل، فالرؤية الإسلامية مؤسسة على أصول الحرية".

وفي عبارة تمت صياغتها بحرفية عالية يقول:"الحرية هي شجرة الخلد وسقياها قطرات من الدم المسفوح.... والاستبداد لو كان رجلًا وأراد أن ينتسب لقال أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمى الضر، وخالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، وأما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال".

وكان أريك فروم يرى أن:" داخل بينية اللاشعور عند الشعوب يكمن دين وثني هو عبادة الزعيم، رغم اعتقادهم غير ذلك، فهم يقدموا له شعائر الخوف والانبهار والعظمة، فهي تضحي بحريتها وكرامتها على مذبح تقديسه"، إنها متعة العبودية ولذة الطاعة العمياء والانقياد المطلق، يخلعون عليه كل صفات الإله، كما كان هيجل يرى أن تأليه الحكام الديكتاتوريين يزداد لدى الشعوب كلما تمادى في بطشه وجبروته وانتحل صفات الله في العظمة والفردانية، عندها تشعر الشعوب بلذة التعبد إليه ويرتمون تحت عتباته.

وقد رأينا في التجربة الإسلامية القديمة كيف وأن مخافة الفتن في ظل الاستبداد هو ما قاد لتبني قيم السمع والطاعة بشكل مطلق والرضوخ لكل ما يمليه علينا الأمر الواقع، فوفقًا لجدلية القاعدة والاستثناء أصبح الاستبداد هو القاعدة التي ألقت بظلالها على غالبية فترات التاريخ الإسلامي، في حين أضحت الحرية هي الاستثناء الذي لم يتكرر منذ الخلافة الراشدة اللهمّ إلا ومضات خاطفة سرعان ما تخفت وتتلاشى ليعود الاستبداد مُؤسِّسًا صرحه من جديد.

ومن ثم لا عجب أن تكون الشورى من الركائز المركزية في الدين الإسلامي وفقًا للنص القرآني باعتباره النص المؤسس لهذه الأمة، ففي ظلها يمكن لأفراد الأمة أن تعطي أقصى ما لديها وتطلق مُكناتها، في حين أنه في ظل الاستبداد يموت الأمل وينعدم الإبداع، هكذا علمتنا حكمة التاريخ بكل ثقل تجاربه الاستبدادية على الواقع الإنساني.

بل ويذهب كثيرون، ومنهم الباحث عبد الإله بلقزيز، إلى أبعد من ذلك بتأكيدهم على العلاقة الوثيقة بين قيمة الشورى ومبدأ التوحيد لله عز وجل، فطالما أن الأصل في الإسلام هو العبودية لله وحده دون شريك، من هنا فالاستبداد هو في حقيقة الأمر عبودية لغير الله بالخضوع التام للمستبد، فالاستبداد وفقًا لهذا الطرح يتعارض بشكل جذري مع مبدأ التوحيد.

حقيقة أن الإذعان التام للأمر الواقع بكل ما يحمله من استبداد وطغيان بحجة تجنب الفتن ومحاولة تسويغ هذا الواقع هو ليس حلًا، بل كارثة كبرى يجب على الأمة رفضها مهما كانت التبعات.

لقد قضى الاستبداد السياسي على روح الإبداع الفكري لدى الأمة وجعل علماءها يتجنبون الحديث في الشؤون السياسية لأمتهم خوفًا من بطش المستبد، يقول الدكتور حسين مؤنس في هذا الشأن:" لم تتردد يد الحكم الاستبدادي في استعمال العنف مع الفقهاء وأهل الفكر، فأصيب الفكر الإسلامي بالرعب، وهو آفة الفكر الكبرى في كل زمان ومكان، ومن ثم ابتعد رجال الفكر عن الكلام في سياسة الأمة ومتاعب هذا الكلام، وعليه أصبح المسلم يعيش دون إطار سياسي سليم، فخرجت الأمة من ميدان السياسة وحُرمت من شرف العمل علي بناء أوطانها".

ومن ناحية أخرى فقد تبلورت لديَّ قناعة راسخة منذ فترة ليست بالقصيرة، وهي أنه وعلى مدار التاريخ الإنساني وطوال رحلة الأديان وصولًا للحظة الراهنة قد أسهمت قوى الاستبداد بنصيب الأسد في إفساد تلك الأديان وأخذها بعيدًا عن مقاصدها الحقيقية، فالاستبداد السياسي أصل كل داء على ما يقول العلامة الكواكبي.

فهو معضلة الأمة التي لا تزال بحاجة لتنظير أكثر عمقًا من شأنه تحديد ملامح ووضع أطر عامة لكيفية الإفلات من تلك الحلقة المفرغة والملعونة في آن، والتي تدور بها الأمة بشكل عبثي منذ قرون.

ففي ظل الاستبداد تغيب الرؤية الوسط للدين لتنمو رؤيتان متنافرتان: إحداهما انهزامية قابلة بالأمر الواقع ومُبرِّرة له، والأخرى راديكالية تدعو للتغيير بالقوة سخطًا على هذه السلطة المستبدة، في المقابل تخفت الرؤية الوسط وتتلاشى.

وفي ظل الاستبداد ينمو الدين النفعي ويضمحل دين المقاصد، ينمو دين الطقوس ويغيب دين المعاملات، تضمحل قيم الحرية والكرامة الإنسانية وينمو دين الضرورة والظروف الاستثنائية، كما تتصاعد معدلات العنف عند جماعات المعارضة في محاولة لإسقاط المستبد.

وفي ظل الاستبداد يتفشى الجهل بفعل المستبد فهو غذاؤه الروحي، وهي تربة خصبة لتغييب المقاصد الحقيقية للأديان وإنتاج نسخ رديئة منها.

وفي ظل الاستبداد يتظاهر الناس بالتدين في حين يكون داخلهم شيء آخر، فكل شيء في ظل الاستبداد له وجهان: أحدهما خارجي لمواجهة الواقع (النفاق)، والآخر داخلي يحمل قناعات الإنسان الدفينة (الحقيقة) ومن ثم تتبدى على النفس أمراضها وعللها نتيجة لهذه الازدواجية.

ومن ثم فلا عجب أن تهتم الأديان السماوية في إصدارها الأول بتجذير مفهوم الحرية والإلحاح عليها كقيمة جوهرية، ففي الإسلام تكتسب الحرية مكانة مركزية داخل نسق ومنظومة القيم الحاكمة للتصور الإسلامي، إذ في فضاء الاستبداد تتشكل كل مآسي البشرية من تطرف وعنف وفقر ومرض وحروب واضطرابات سياسية وأمراض اجتماعية وأزمات اقتصادية وتوظيف خاطئ للدين عبر تأويله بشكل يجعله يؤدى دورًا مناقضًا تمامًا للدور المفترض أن الله في عليائه قد أنزله من أجله.

هكذا وباستخدام معول الاستبداد جرت تسوية طموحات الأمم وآمالها بالأمر الواقع.

لقد تسربل الاستبداد بالدين، ووظفه لأغراضه، فاكتسب قوة خارقة احتكر من خلالها الحديث باسم السماء، يقول توماس بين:"من بين كل أشكال الطغيان التي كابدتها البشرية كان الطغيان الديني هو الأسوأ، وذلك أن كل طغيان يظل محدودًا بحدود هذه الدنيا، أما الطغيان الديني فإنه يسعى لمطاردتنا في قبورنا بعد الموت كما في الحياة الأخرى".

تلك هي بعض من مفاسد الاستبداد ونتائجه الكارثية على مقاصد الأديان، إذ تحولت الأديان بفعله من دعوة للمحبة والسلام، وقوة دفع إيجابية لصالح البشرية لأيديولوجية قتل ودمار، أو لأيديولوجية إذعان وتسليم تام بالأمر الواقع.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن النظام العالمي الحالي هو في حقيقة الأمر- وبافتراض أن العالم دولة واحدة - نظام عسكري استبدادي، ووجود بعض الكنتونات الديمقراطية داخله لا تُغيّر من الواقع في شيء.

وأن هذا الواقع الاستبدادي الذي يحياه العالم وتحكمه معادلة البقاء للأقوى هو ما أجج أطروحات العنف في أرجائه، فلولا انحياز هذا النظام المطلق لإسرائيل دون رادع حقيقي لهم لما بالغ الصهاينة في تشددهم وإرهابهم.

ففي ظل نظام عالمي تشاركي إنساني قيمي، نأمل أن تتأسس دعائمه مستقبلًا، في ظل هكذا نظام ستتحقق العدالة للجميع وتنتفي الصراعات الدولية بشكل كبير، وستتراجع أطروحات العنف والتشدد إلى حدها الأدنى لتحل محلها أطروحات التسامح وقبول الآخر.

قطعًا هو حلم أشبه باليوتوبيا المثالية العصيّة على التحقق في عالم الواقع بكل تعقيداته وارتهاناته، لكن الأمل يظل قائمًا في عدالة قادمة لا محالة، وهو أمل يعززه الإيمان بوجود إله عادل لهذا الكون.

والآن سنحاول الإجابة على هذا السؤال في فقرة واحدة: ماذا تفعل يد الاستبداد في الأمم؟

يمكننا القول في عبارات مقتضبة، ما تفعله يد الاستبداد هو: استدعاء لحظة الاستثناء بذريعة تجنب الفتن ومن ثم شرعنة كل ممارسات المستبد رغم عظم بشاعتها، انتعاش النفاق المجتمعي، تفاقم الظلم والتفاوت طبقي، القضاء على الرأي الآخر، فدولة الاستبداد لا تتحمل التعددية بل هي دولة الفرد الواحد والصوت الواحد من ثم تصبح الدولة عرضة للتفتت، بل وقد يلجأ النظام لإشعال الحروب هربًا من تأزم الداخل أو الرغبة في أحلام توسعية إمبراطورية لصناعة مجد فردي للمستبد الذي تطارده أحلام العظمة، ودمار اقتصادي فالاقتصاد لا يمكنه أن ينمو إلا في مناخ من الحرية، حتى الدين فتطاله هو الآخر يد الاستبداد، إذ تنمو الأحلام الخلاصية هروبًا من الواقع وانتظار مُخلِّص، أي الشعور بالعجز عن الفعل والتغيير ومن ثم تبني الموقف السلبي فيأخذ الدين شكل الطقوس وهو ما يأتي على حساب شق المعاملات هربًا من الحديث في الشأن السياسي، في المقابل تتبنى المعارضة أطروحات العنف فالتغيير لديها يصبح بالقوة وبالقوة فقط، الإتيان بقضايا هامشية وتنحية القضايا المركزية، إبعاد أهل الخبرة وتقريب أهل الثقة،هروب الاستثمار العالمي فهو وضع قلق ورأس المال هو أكثر الأشياء جبناً، تكاثر المنافقون وتجار الأديان، فتلك هي التجارة الرائجة في عصور الاستبداد، إفساد عقل الأمة بتضخيم نظرية المؤامرة، وفقدان الثقة بالمستقبل.

وفي التحليل الأخير، فتلك هي بعض من مفاسد الاستبداد، إذ يعمل بالمجمل على تدمير مناعة المجتمع، فهو إيدز الحضارات، هو الثقب الأسود الذي يلتهم الكرامة الإنسانية ويُعظِّم من حالة الانحطاط الإنساني، والحقيقة أن الديكتاتورية تغتال الإنسان روحيًا قبل أن تعمد إلى تصفيته ماديًا.

وفي عبارة شديدة الإيجاز، إذا ما أردنا عنوانًا واحدًا لتاريخ البشرية كله، فليكن: صراع الحرية والاستبداد.

من هنا، ولأننا حضارة إنسانية مُتخمة بالاستبداد حد الانفجار، أدعو إلى تأسيس (علم اجتماع الاستبداد)، لتكون وظيفته الأساسية دراسة بنية مجتمع الاستبداد، وتفكيك هذه الظاهرة وتمظهراتها وآثارها على البشرية جمعاء: سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وإنسانيًا ونفسيًا ودينيًا، فلقد أفسد الاستبداد كل شيء، إذ في فلكه تدور كافة الخطايا مسبحة بحمده ومعترفة بفضله عليها وأنها من رحمه خرجت، كذلك دراسة صفات الأمم والأفراد التي تقبل بأن يقع عليها فعل الاستبداد، ومن ثم سبل الخلاص من تلك القناعات النائمة كفيروس قاتل في أعماق الشعوب، ولنا في هذا الطرح دراسة أكثر عمقًا ستصدر قريبًا بإذن الله.

***

دكتور محمد عمارة تقي الدين 

في المثقف اليوم