قضايا

الثقافة هي مؤسسة انتاج المعنى.. وانتاج القوة

العولمة هي نظام انتاج المعرفة والتبادل والمواصلات، او انها شكل الانتاج والتداول والاتصال والتواصل والانتقال عن طريق الحاسوب والذي يعمل بسرعة الضوء. فالثورة العلمية والتكنولوجيةهي ثورةعلميةلانها تحيل اي معطى الى معلومة رقمية، وكونها ثورة تقنية لانه يتم نقل المعلومة بسرعة الضوء.

العولمة تقوم على الانتاج الالكتروني والاقتصاد الناعم والعمالة المعرفية، او عمال الاعلام حيث يردمون الهوة بين العمل الفكري والعمل اليدوي. في ظل العولمة تحولت العلاقات بين البشر الى علاقات افقية بعد ان كانت قائمة على التراتبية الهرمية العامودية. وهكذا انهارت بفضل العولمةالمؤسسات الايديولوجية الشمولية القائمة على التراتبية الهرمية والانضباط الحزبي الصارم لصالح فردانية الانسان من خلال العلاقات الافقية المباشرة.

فالعولمة قضت على فكرة المثقف النخبوي والطليعي والرسولي، وفي ظل العولمة اصبحت المعرفةهي مصدر للثروة وللسلطة. ان سقوط تجربةالاتحادالسوفييتي والدول الاشتراكية ادى الى ظهور ازمة هوية. الهوية هي الذاكرة حيث تشظت الهوية في زمن العولمة، حيث تحولت الهوية الى هوية مركبة ومعقدة ومتغيرة. وادت الى موت الجغرافيا، فاصبح نشاط الانسان عابرا للقارات وللحدود السياسية والسيادية للدول ولنقاط الكمارك. بضغطة زر الحاسوب تنتقل الاموال من مصرف الى اخر عبر المحيطات. واصبحت بورصات السندات والاوراق المالية والعقارات وبورصات البترول والغاز تدار عن طريق الحاسوب.

الهوية في زمن العولمة لم تعد تقوم على رابطة الدم او القرابة او القبيلة، او القومية والعرق، او الارض. انها نوع من الهويات القائمة عن بعد حيث تجاوز نظام المعلومة والبريد الالكتروني والاقتصاد الناعم حدود الدول القومية. ان فتح الحدود بين الدول بفضل العولمة انتج هويات هجينة او مولدة.

فهنالك الملايين من الناس الذين يملكون اكثر من جنسية واحدة ويتكلمون باكثر من لغة واحدة ويسكنون في اكثر من بلد واحد ويديرون اعمالهم من اكثر من بلد واحد. وبذلك اصبح الاقتصاد اقوى من السياسة واصبحت الشركات الاقتصادية العملاقة تفرض توجيهاتها على السياسيين. واصبحت الشركة اقوى من الدولة.

في عصر العولمة تغلبت الصورة على الفكرة والرسالة وتغيرت العقائد والايديولوجيات القديمة.

والأسئلة التي تنبت على حواشي الواقع:

كيف يمكن مواجهة الإختراق الثقافي الكوني في ظل راهن يتعولم إقتصاديا وسياسيا..؟

هل ندير ظهرنا لهذا الغزو العولمي في حركة إستعراضية مشفوعة - بإنتحار حضاري- أم نواجه ما بات يهددنا بإعتماد ثنائية المحافظة على الذات والتفتّح على الآخر؟

كيف يمكن خلق توازنات تحمي أجيال المستقبل من مداهمات الثقافة المعولمة واختراقاتها في ظل هذه الثورة الإتصالية الوافدة من الغرب وما يتخللها من تنميط سياسي متعدّد الوسائل والأشكال..؟

ألسنا مدعويين هنا.. والآن إلى لحظة مكاشفة صادقة مع النفس لتجاوز مطباتنا وتفعيل واقعنا وعقلنة ملامح المستقبل..؟

إنّ الخوف من غزو ثقافي كوني لم يعد له مبرّر وهو ليس من قبيل الأوهام التي تعودنا عليها، بقدر ما هو حقيقة ثابتة ومؤكّدة أملتها ظروف وملابسات تاريخية لها عميق الأثر في واقعنا العربي خاصة والدولي عامة نورد منها ما يلي:

- انهيار القطب الإشتراكي وتفكّكه وما تلاه من انهيارات متلاحقة أصابت دول المنظومة الإشتراكية مما أفضى إلى تحكّم الرأسمالية المعولمة في إقتصاد الدول النامية واخضاع هذه الأخيرة لتبعية إقتصادية موغلة في التسلط والإستغلال..

- في عالم الثقافة الكونية هذا، برزت شركات متعددة الجنسيات تستغل في صالح المصالح الإقتصادية الكونية، وهذه الشركات أقوى من الدولة حيث تفوق ميزانياتها الدخل القومي لكثير من الدول النامية، وقد ملأت الحيز الثقافي في إعلامنا واستطاعت تلوين العالم بأفكارها وثقافتها..

- اتفاقية- الجات- التي تحوّلت إلى منظمة عام 1995 وأصبحت تبعا لذلك ضلعا أساسيا في مثلث الهيمنة الغربية (صندوق النقد- البنك الدولي- الجات) وهذه الإتفاقية تفسح المجال للغزو الثقافي الأمريكي والغربي عامة الذي أساسه إنكار وإقصاء الثقافات القومية للشعوب الأخرى، وبالتالي أمست تشكّل تهديدا خطيرا لثقافة وتطوّر العالم النامي في كافة المجالات الأخرى.

- في ظل العولمة ومع توقيع إتفاقية- الجات- أصبحت الشركات المتعددة الجنسيات ومنها- والت ديزني- أقوى من الدول بعد حدوث إنفصال بين المصالح الإقتصادية العملاقة والأنظمة السياسية المحلية، وأصبحت تبعا لذلك تمارس ضغوطا من أجل التأثير على القرارات السياسية الداخلية في الدول التي تمارس فيها أنشطتها..

- نجاح العولمة في خلق أجيال كونية منبهرة بالسلعة الثقافية الأمريكية الأكثر إبهارا، الشيء الذي يهدّد بتخلّف صناعة السينما لدينا وغيرها من الصناعات الثقافية..

إنّ لهذه المعطيات التي ذكرناها عميق الصلة بخلخلة الواقع العربي وجعله ينوس بين طرفي الإنغلاق والإنفتاح دون الإلتفاف حول هذا الواقع وعقلنته بما يؤسّس لإستحضار الذاكرة لدى الإنسان العربي، ولعل في قولة فلاديمير لينين خير دلالة لما نحن بصدد الإشارة إليه:”شعب بلا ذاكرة، هو شعب لا مناعة له”..

فكيف يمكن في ظل الراهن الثقافي الكوني تأكيد الذات وإثبات الهوية والمحافظة على الأصالة بما من شأنه أن يبلور الصورة الحقيقية لحضارتنا..؟

هل نحن مطالبون وأمام المد الكاسح للتكنولوجيا من جهة، والعولمة من جهة أخرى، بإعادة البناء الفكري للمجتمع عبر استحياء الماضي ومصالحة الراهن واستشراف المستقبل؟..

ألم نفرّط في مكاسب حضارية كانت ستضعنا في مرتبة الدول المتقدمة استهدفتها بواكير النهضة في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر:محمد عبده- جمال الدين الأفغاني والكواكبي.. فكيف نسينا التاريخ وقد ولجنا قرنا جديدا وصافنا ألفية ثالثة!؟..

إنّ إقصاء الأنا.. للآخر وانغلاقه على ذاته طمس للهوية الفاعلة والمؤسسة، كما أنّ الإنفتاح المحافظ على الأصالة والحضارة العربية تأسيس للذات، ولذا بات لزاما على المثقفين العرب خاصة وعلى الشعوب العربية عامة إعادة النبض إلى التاريخ والعكس صحيح، وذلك من خلال فعل المواطنة وتجذير قيم الهوية بإعتماد التنمية الثقافية للمجتمع كشرط أساسي لنجاح التنمية في كافة مجالات الحياة، ثم المساهمة بشكل فعّال في بناء بعد الذاكرة العربية والسعي لصياغة الواقع العربي الراهن وفقا لمقاييس التقدّم قصد الإنتقال من الوضع المتخلّف حضاريا، إلى الوضع المحقّق لإنسانية الإنسان..

على سبيل الخاتمة:

تحاول العولمة محاصرة الثقافة وقنص تراث الأمم، وإلغاء الفعل الثقافيّ والفكريّ، واغتيال العقل الحداثيّ الإبداعّيّ، ومن ثمّ فرض أحادية ثقافيّة تلغي الخصوصيّات الثقافيّة القوميّة. والظاهرة الأكثر خطورة هي السيطرة الثقافية، وفرض الهيمنة غير المرئية على العقل الإنساني. والمجتمعات لاتموت، و لا تتلاشى إلا بخسارة قدرات أبنائها الفكرية؛ لأن تفريغ الأمة من مقوّمات وجودها الثقافي، يفقدها مبرر وجودها و يؤدي إلى خسارة هويتها الذاتية؛ لتتحوّل إلى مجهول تابع في المعادلة الجديدة.

ضمن هذه المعادلة الصعبة تبقى الثقافة، وحدها، قادرة على الوقوف في وجه مخططات العولمة السلبية، فالتحصين الثقافي الذاتي لكلّ أمة ضرورة حتمية يضمن بقاءها بفضل قدراتها الإبداعية. و التحصين الثقافي مرتبط بقوة الفاعلية اللغوية للأمة، والفاعلية لا تنفصل عن الأصالة و القدرة على التطور والارتقاء، والأصالة تتجدّد بحداثة يدعو بعضهم إلى نفيها وهم يجهلون تاريخ ميلادها الفعليّ.

 إنّ الثقافة العربيّة تراثٌ وليست إرثًا، فالموروث معرض للضمور والتلاشي والزوال، أمّا التراث العربيّ فهو نبض الأصالة الماضية في حاضر يعد بالخروج على الانبطاح والتبعيّة، والخروج مشروط بنشاط مثقفين عرب يسعون إلى تجديد الفكر العربيّ من داخل التراث وإحياء عناصره الحيّة وتلقيحها بفكر وافد فيكون تفاعل ينتج تراثًا جديدًا بلغة عربيّة قادرة على تدوين العلوم والمعارف والتصوّرات والرؤى والتطلعات..

***

محمد المحسن -  كاتب صحفي تونسي

في المثقف اليوم