قضايا

أزمة المصطلحات عند المثقفين العرب

قاسم خضير عباسإنَّ الانحدار الفكري أثربصورة ملحوظة على مجالات الفن والأدب والشعر، التي أبدع فيها أجدادنا منذ القدم، فلم تعد لدينا قصائد عصماء، ولا أدب راق، ولا كُتّاب نوابغ!! لم يعد لدينا شعر ولا نثر يرتقي إلى مصاف الإبداع الشعري والنثري لأجدادنا، كالنابغة الذبياني، والمتنبي، وأبي فراس الحمداني، والجاحظ، وغيرهم.

ونتساءل.. لماذا لم نبدع في هذا المجال كما كنا نبدع  في الماضي؟!

تأمل معي ... في وضع القصيدة الشعرية زمن العصر العباسي، فعلى الرغم من تراجعها قليلاً وتفوق النثر عليها، إلا أنها لم تجمد وتنشل كلياً، لهذا رأينا قصائد إبداعية تمتلك صوراً فنية رائعة تظهر بين الحين والآخر، والسبب هو تماسك المجتمع في ذلك الوقت، وعدم تغرّبه الفكري والنفسي، لأنه امتلك شروطاً حضارية اكتسبها بفضل تفاعله مع المبادئ الإسلامية، على الرغم من استبداد السلطة العباسية الظالمة، ودمويتها، واستهتارها بأعراض الناس وحقوقهم.

وهكذا فإنّ تماسك المجتمع وحيويته وشعوره بالقوة والعزة وانتماءه إلى منهج حي أصيل وعدم تغربه الفكري والنفسي، كفيل بأن يجعلنا نبدع في حياتنا، ونؤثر إيجابياً في القضايا الإنسانية، ونستلهم تطور العلوم الغربية دون استلاب حضاري... وهذه حقيقة لابد أن نضعها في حساباتنا وتخطيطنا، لأن تيار التغريب عندنا لم يدركها جيداً، فهو إلى اليوم أمام قضية ساذجة وهمية، صاغها في عقله وتفكيره تدعو إلى الاتجاه نحو الغرب، وأخذ نظمه ومناهجه لتقدمنا!! إلى درجة أنَّ البعض نادى بفكرة (الفن العبثي)، الذي نشط في الغرب إثر النهضة الصناعية وآثارها السلبية على الإنسان.

فمادّية المجتمع الغربي، وتعقيداته الاجتماعية والنفسية، أدت إلى ظهور (فن عبثي) في الأدب والشعر والسينما والمسرح والفنون الأخرى، للتعبير عن رفض الحياة الغربية والهروب منها... ومثل هذه الحالة العبثية المتحكمة بالإنسان في الغرب بعد النهضة الصناعية لم نمر بها نحن، ومن االجهل أن نرتبط بها، ونقلد الغرب حتى بأتفه أمراضه الاجتماعية ونسقطها على أدبنا وشعرنا وفنوننا الأخرى!!

وأعتقد أن هذا التقليد الأعمى للغرب ولّد لدينا أزمة مصطلحات في كتاباتنا وبحوثنا وقصائدنا الشعرية، بسبب عملية استعارة المصطلحات الأجنبية، التي أثرت بنسب متفاوتة على الفكر وهددت المجتمع في الصميم. وقد اتسعت استعارة المصطلحات بشكل كبير بحيث أسرت صحافتنا وثقافتنا وأدبنا، فلا تكاد تقرأ مقالاً أو دراسة إلا وتجد مؤلفها يسعى لاقتباس (المصطلحات الدخيلة)، التي لا تمت لفكرنا بصلة، ولا تترجم خصوصيتنا، وسلوكنا الملتزم.

وهنا حقاً المشكلة... حيث يعد ذلك إحدى معالم غربتنا الثقافية، فلو نظرنا للموضوع بصورة جادة نرى أننا لا نعيش أزمة مصطلحات بالمعنى الحقيقي، لأن المصطلحات الإسلامية والعربية متناثرة بين طيات ثقافتنا، والتأكيد عليها ذو أهمية كبيرة لـتهذيب وتشذيب شخصية الفرد، وبناء المجتمع على أسس فكرية صحيحة تؤهله للنهوض الحضاري، الذي يجعل التثقيف مقترناً بذات الإنسان وبذات المجتمع، ومتشابكاً بتفاعل خلاّق مع تراث حي يمتّ لنا بـنسب ومصاهرة.

لهذا فإن الاهتمام بالمصطلحات العربية شيء إيجابي وبنّاء، بلحاظ أن المناهج غير الإسلامية عمدت إلى تأليف دوائر معارف عديدة، لبرمجة مصطلحاتها السياسية، والقانونية، والفكرية، والفلسفية لشعورها بأهمية هذا العمل وحيويته، وتأثيره على الفكر والعاطفة أو لنقل بتعبير أصح على العقل والقلب معاً.

ولا يعني هذا بأننا ندعو لأن نسجن أنفسنا في قفص من زجاج، ونغلق باب الاستفادة من إيجابيات وفكر الحضارات الأخرى، على العكس نحن نريد الانفتاح على الخارج ولكن بشروط ومواصفات معينة، لكي نضمن عدم ضياع هويتنا الفكرية. والدعوة مفتوحة ضمن هذا الإطار لكي تتسع المدارك العقلية لرؤية الأشياء من زواياها المتعددة، لا من زاوية واحدة حرجة وضيّقة.

من وحي ما أسلفنا نستطيع القول بأن استعمال مصطلحات لا تمتّ لواقعنا بصلة يؤدي إلى تناقضات فكرية عديدة، كما حدث سابقاً عند استعارة مصطلح المنطق الجدلي أو مادية التأريخ من مناهج إشتراكية. وقد ذهب بعض مفكرينا إلى استعارة مصطلحات وألفاظ دون إدراك واع لمضامينها، كما في مصطلح البولتيك، وهو كلمة أوروبية تعني السياسة، ومصطلح العلمانية المأخوذ من كلمة لاييك الفرنسية، التي تعني لا ديني، معبرة عن الاتجاه السياسي  الذي قضى على سلطة الكنيسة غير المتفهمة لمنطق العقل والعلم.

***

الدكتور قاسم خضير عباس

كاتب سياسي وخبير القانون  الجنائي الدولي والمحلي

في المثقف اليوم