قضايا

تجديد الوعي الديني وعلاقته بمشكلات الثقافة

مراد غريبيمفتتح: لا تزال المجتمعات في مجالنا العربي والاسلامي تئن من ظواهر الأسطرة والخرافة وتقديس غير المقدس بشتى أشكالها، التي تلبس لباس الدين الإسلامي لباس الفرو مقلوبا، كما لا يزال الفكر الخرافي يسيطر على مراكز الخطاب والحركة والتأثير في المجتمع بصور شتى، ترفع شعار المعرفة والتجديد والتسامح لكنها واقعا كل ذلك منها براء، ومع أبسط محاولة لمساءلة هذه الفوضى والتمويه بإسم الدين، يزداد مطلب تفكيك خيوط التراجع والرجعية والتكبيل لطاقات العقل والنقد والتجديد والتنوير حيث سؤال الحال: لماذا الخوف من رهانات التجديد والتنوير الحقيقيين؟ وكيف يمكن تحرير العقل القرآني- كما بجله القرآن في استيعاب الحقائق ونظم الأمور واستلهام العقائد- من مشاريع التعطيل الفكري والتنويم المعنوي؟

نحو تجديد الرؤية الثقافية للدين

إنها إشكاليات التجديد الثقافي بالأساس وليس الديني، لأن الدين  بمبادئه وتشريعاته وحقائقه التنويرية في ظل التخلف والنفاق والاستدمار الأخلاقي وتقديس غير المقدس كان ولايزال ضحية سياسات التشويه والتسقيط والإقصاء بحجج التمثلات والقراءات والخطابات التي اتخذت الدين مطية لمصالحها وليس لتنوير الواقع الانساني بالحق والحرية والعدل والنهضة والمدنية والتحضر والكرامة الإنسانية وما هنالك من معادلات النور الحضاري في الدين الإسلامي، إنها الثقافة في صورها وخطاباتها، لا يمكن استيعاب النباهة الحضارية لدى اي مجتمع دون تجاوز مأزق مشكلات الثقافة، هذه المشكلات التي تتوزع على جل حقول الحركة الاجتماعية، وأخطر حقل وأهمه هو حقل الدين عندما يستثمر في تحقيق مآرب ضيقة لا تتسع لمصلحة الإنسان العامة والخلاقة للكرامة والعدالة والرقي والأخلاق الراقية في التعامل مع مفردات الوجود وآفاقه، الدين منظومة كلية وشاملة بمبادئه ومقاصده يحتاج لثقافة تراعي ذلك كله عند بعث خطابات بإسمه وتأسيس مشاريع تحت عناوينه، الدين الذي ثقافته تسجن الحريات القرآنية وتطرد حقائق الشورى وأخلاق التسامح وتسفه الحوار وتكفر التعايش وتضيق التعارف وتهدم الكرامة وتضيق الرحمة، هذا ليس الإسلام، فتجديد الرؤية الثقافية للدين أصبح ضرورة ومعركة وعي طويلة ومعقدة ولكنها ليست مستحيلة أيضاً لأن الوعي الديني لا يتحقق خارج منطق منظومة هذا الدين، والذي يتطور بتقدم الإجتهاد العلمي عبر تكامل السؤال وتفاعل الأخلاق مع مبادئ الدين الخالدة.

الإسلام وحركة التجديد الثقافي

عبر التاريخ الاسلامي ومنذ العصر الأول لم يفتقر المجتمع العربي  والاسلامي من حركة التجديد الثقافي، بل لا نبالغ بالقول أن الإسلام جدد الثقافة السائدة بما يتلاءم ومبادئه الحضارية وقيمه المدنية، حيث نستوعب ذلك من خلال ماهية إتمام الأخلاق في الحديث النبوي، وعبر الزمن الإسلامي كله لم يسكت علماء وفقهاء ومفكري الدين عن نقد الجمود والتزييف والتحريف والتخلف ومصادرة الحق الإسلامي لمصالح الجاهليات المقدسة وضرب حركة الوعي الديني من داخل الدين نفسه وتصويره على أنه ضد العقل والمدنية والحضارة والتنمية وما هنالك من مقتضيات الكرامة التي بالأساس جاء لأجل إحيائها الإسلام، ولايزال إلى يومنا يسعى سعيه الفكر الشيطاني بوجهيه الجاهلي المتوحش والتقدمي الخبيث  لإزاحة الدين من المشهد الإنساني عموما، بشتى الاساليب القديمة والحديثة وعبر برمجيات أكثر حداثة وتأثير، عبر الاختراق الثقافي وهذا تاريخي ومتطور، أو عبر الاستقطاب الأيديولوجي والترويض ثم التشويه أو عبر الصراعات الوهمية مع عناوين فكرية دينية معدلة جينيا، مما أدخل المواطن المؤمن أولا في قمقم الجهل المقدس باسم الدين ثم العبور نحو الشذوذ واخيرا الإلحاد الجديد...

لقد قدم الإسلام  شهداءه الحقيقيين منذ المبعث النبوي للدفاع عن الحرية  والكرامة والعدل وحقوق الإنسان الإيمانية على أسس الحوار العلمي واللقاء والإخاء والتعارف، داعيا عبر الخطاب القرآني والسيرة النبوية  إلى إعمال العقل في قراءة قضايا  الوجود والكون والمجتمع والفرد إنطلاقا من معرفة سليمة بالله خالق الوجود كله.

لكن الجاهلية كشر ممتد عبر التاريخ، اتجهت بكل حقد وحسد وكراهية وسوداوية نحو الهجوم على كل الأحرار المسلمين من مهديين وصحابة وتابعين وتابعي التابعين  وفقهاء ومثقفين معروفين بمواقفهم وتضحياتهم من أجل تخليص الإسلام من الفكر الماضوي أو الفكر المصلحي وتحرير المجتمع من جائحة النفاق الكهنوتي التي عرفتها الديانات السابقة..

في ظل هذا التراكم التاريخي للنفاق الثقافي داخل المجال الديني خطابا وحركة واجتهادا فقهيا عبر حيل سميت بهتانا وزورا على انها شرعية واخرى مصالح  تحت غطاء الفراغ التشريعي وماهنالك..

بين الثقافة وماهية التجديد

إننا نحتاج إلى موجة ثقافية تجديدية تستمد قوتها من كل التراث التجديدي والعقل الإجتهادي الحي والأخلاقي المباشر مع بصائر القرآن لوقف هذا الإنحدار المرعب للقيم والتشويه الممنهج للمبادئ والمسخ المبرمج للإنسان، وأعتقد أن معالم الموجة ومنطلقاتها ثقافية بإمتياز تستكشف من القرآن والسنة الشريفة الصحيحة وفق آليات التفكير العلمي والذكاء المنهجي والحكمة النقدية والحوار البناء والموضوعية النبوية التي لا يزال  المجتمع والفرد عربيا وإسلاميا بحاجة إليها..

إن الحال الإسلامية المعاصرة، تستدعي جدا في مقاربة التجديد الأمثل، لأن التجديد الذي يدعو إليه البعض ويختزلونه في "الواجهات" هو تجديد "التخلف"، إن تجديدا لا تنظم فيه أمور التراث الثقافي غير المادي أساسا، ولا يفتح الصناديق الإجتهادية على الهواء الطلق لا يمكنه أن يكون تجديدا للوعي الثقافي الديني لدى إنساننا المتعطش لكل مصاديق إسلامه الحقيقية كما خلدها القرآن والسيرة النبوية.

مجتمعاتنا مبرمجة ثقافيا وليست واعية، تحتاج إلى صاعقة مدنية تنهض بالتربية والتعليم حتى تكون إنسانية الفرد والمجتمع في مركز ثقافات الوطن والعالم بدلا عن المجالات الذاتية الخاصة والضيقة.

فمشكلة الثقافة مأزق خطير بالنظر للدين، حيث تشابكت خيوط التراث وتشوهت المقاييس وانقلبت الموازين، حتى أصبح المجتهد فوق المعصوم، وأصبحت "كتب أهل الفقه وأهل الحديث " أسبق من القرآن الكريم، فصار التكفير مثل رشفة قهوة وفتاوى القتل والتسقيط والتضليل كلعبة النرد. هنا التجديد ليس في إعادة صياغة عناوين الكتب الصفراء وتجهيز مراكز الدراسات الإسلامية بتجهيزات حداثية والكترونية وإضافة الدال مع نقطة قبل الأسماء بينما سكين الجهل قد وصل مخ العظام، في هكذا وضع ثقافي عقائدي وفقهي وأخلاقي لا يمكن تحقيق أي تجديد للالتحاق بركب الإسلام دين الإنسانية والتقدم والتحضر، ما دام المجتمع مبرمج  دينيا بدلا عن وعي الدين الذي هو ثقافة خير شاملة من العقل إلى العمل ونحو الذات والآخر وفق حكم الجار قبل الدار، والناس صنفان أخ لك في الدين ونظير لك في الخلق.  

فثقافة الكراهية والانتحار بإسم الدين هي ثقافة برمجة عصبية حرفت عناوين دينية بقصد أو دونه، لمصلحة ضرب الدين في العمق، أعتقد بأنه علينا أن نراهن على  عوامل أساسية للتخلص من مشكلة الثقافة في وعي الدين وتجاوز الخوف المفروض على الإنسان العربي والمسلم من قبل الاتجاه الماضوي التكفيري أو الاتجاه الحداثي الإلحادي، العوامل هي:

1. صياغة جديدة للمدرسة الإسلامية عبر تنمية تطوير مناهج البحث والتدريس والتقييم والتمحيص التراثي

2. تحرير الخطاب الديني من الاحتكار المصلحي للتيارات في المجتمع عبر وأد الفتن واجتثات جذورها الطائفية خصوصا إعلاميا وتربويا..

3. ابتكار مؤسسات ثقافية مهنية معاصرة (التعليم والإعلام والفن والبحث العلمي والمجتمع  المدني) لتنمية الوعي الديني عبر التعريف بنسق القيم الإنسانية الكبرى في الإسلام التي تحرر وتحمي وتنهض بالإنسان والعالم..

4. تفكيك التراث الفقهي النسوي لتمكين المرأة من إعادة بلورة وعي لدورها التجديدي في المجتمع تربويا وعلميا وفنيا وحضاريا..

وخلاصة الأمر أن واقعنا الثقافي في هذه المرحلة تراجع موقفه من التجديد، ولم يتقدم باتجاه تطوير المعرفة بالإسلام، وانقطع عما أنجزه المجددون عبر الزمن الإسلامي, ولم يستثمر أو يهتم بتراكمات ومنجزات رواد التجديد الثقافي لوعي الدين، وظل موقفنا الغالب الأعم، مضطربا ًومتوجسا من مواجهة سؤال التجديد وادعاءات التجديد التي أربكت عقائد الناس وافسدت أخلاقهم ومكنت سماسرة الدجل والنفاق والجهل من تشويه صورة الإسلام وتجريء أعدائه عليه، لكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المنافقون والكافرون..

بصورة مجملة يمكن القول أن مشكلة ثقافة وعي الإسلام في هذه المرحلة أنها محكوماً بذهنية الصراعات الوهمية، لذلك أصبح فقيه الصراعات مشغولا  برسائل التكفير والتفسيق ومثقف الجهل والطائفية مهموما بمنهج الجدال ومقايسات الملل والنحل، التي تهدف إلى رسم خطوط الفصل العنصري والطائفي وطباعة صكوك الغفران بين الإخوة في الدين والوطن والإنسانية..

و تبقى القضية: هل هناك في الآفاق الإسلامية الراهنة جد بخصوص الإجتهاد التجديدي لبعث وعي ديني معاصر وخلاق للنهضة الحضارية الإسلامية الثانية؟ وماذا عن الاستفادة من المناهج والعلوم الحديثة والمعاصرة وأدواتها وطرائقها التحليلية والتفكيكية والنقدية؟ 

***

 أ. مراد غريبي

كاتب وباحث في الفكر

 

في المثقف اليوم