قضايا

توفيق الطويل.. رائد المثالية المعدلة في العالم العربي المعاصر

محمود محمد عليشهد القرن العشرون اهتماما ملحوظا بالدرس الأخلاقي، ما بين نشر تحقيق وترجمة، ودراسات مستقلة تنحو مناحي شتي خرج بها التفكير الأخلاقي من الجانب السلوكي العملي الذي طبع الكتابات الأخلاقية لقرون خلت، إلى المستوي النظري والفلسفي، ومن أهم الذين كتبوا كبتا مفردة عن الأخلاق بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) خصصوها لطلبة الجامعة هو أستاذنا الدكتور توفيق الطويل (1909-1991) وهو من الرعيل الأول حسب ما قاله عنه جمال المرزوقي في مقاله بعنوان الدكتور توفيق الطويل مفكراً عربياً ورائداً للفلسفة الخلقية) الذي قدم الفكر الفلسفي للشباب في أسلوب مقبول ولغة سهلة، كان يحسن العطاء، وهو صناعته في مصر وخارجها، أعطي في مصر وفي البلاد العربية، درس وحاضر وكتب وألف، وهو أديب ومحاضر ممتاز، قال عنه الشيخ مصطفي عبد الرازق: " الأستاذ توفيق الطويل أعرفه قد كان طالباً بجامعة فؤاد (القاهرة)، ممتازاً بوداعته وعقله وحياته، يُري ساكن الأوصال، خافت الصوت، عاكفاُ علي الدرس، فإذا كتب كان أديباً، وإذا تكلم كان خطيباً، وكان يعده للتأثير الخطابي صوت خلاب، وسمت جذاب، وذكاء وثاب"؛ وبعد أن أصبح مدرساً بالجامعة قال عنه:" لا يزال صاحبنا حيياً رزيناً ذكياً، لكنه .. ليس خطيباً همه أن يهز المشاعر، ويحرك أعواد المنابر، لكنه باحث مدقق يريد أن يصل بعقله إلي بواطن الأمور وظواهرها، وأوائلها وأواخرها، هو يعتمد علي العقل صرفاً، ويريد أن يؤثر في عقول الناس لا في قلوبهم.

ولد "محمد توفيق الطويل" (مع حفظ الألقاب) في حي بولاق الشعبي بالقاهرة وبدأ تعليمه في " الكتاب" قبل أن يتحول إلي المدارس الحكومية حتي تخرج من قسم الفلسفة بجامعة فؤاد (القاهرة) عام 1941؛ حيث كان أحد أقرب تلامذة الشيخ مصطفي عبد الرازق ونال الماجستير ثم الدكتوراه من الجامعة نفسها، وكتب- كرسالة لدرجة الماجستير – عمله الأول: " التصوف في مصر إبان العصر العثماني "فألقي الضوء الأول في تاريخنا الثقافي الحديث علي دور التصوف السني (كموقف فكري وعلمي اجتماعي) وتأثيره الأخلاقي علي المجتمع وأفراده وطوائفهم؛ وتمثل هذه الرسالة الطرف الأول من مشروع توفيق الطويل الفلسفي بعد ذلك؛ وفي رساله الدكتوراه كتب عن:" الأحلام في الفكر الإسلامي " مع ترجمة ودراسة مقارنة لكتاب شيشرون – اللاتيني -: " علم الغيب في العالم القديم"، وهو كتاب كان له تأثيره القوي علي جماعة من أوائل الفلاسفة المسلمين؛ فنجد توفيق الطويل بذلك الطرف الثاني من مشروعه الفلسفي (تفاعل الدين والفلسفة والعلم وتأثير هذا التفاعل اجتماعيا، وتفاعل الحضارتين العربية والإسلامية، والغربية) كما حدد بالرسالتين منهجه ومنظوره: دراسة الفلسفة من خلال تاريخها، في ضوء النقد العقلي لتطوير – أو بناء – موقف خاص معاصر.

وكانت أول أعماله الكبرى بعد ذلك – وكان قد عين مدرسا للفلسفة في جامعته ذاتها – هي ترجمة كتاب الفيلسوف البريطاني الأخلاقي – النفعي الكبير هنري سيدجويك عن: " المجمل في تاريخ علم الأخلاق " وترجمه عن طبعته السادسة الصادرة عام 1931 (وهو ما يزال أحد المصادر الرئيسية في الموضوع إلي الآن- قاموس أكسفورد الفلسفي – 1995) غير أن توفيق الطويل لم يكن يسعي إلي مجرد ترجمته، وإنما في مواجهة المنظور النفعي الوضعي عند سيدجويك؛ وباستكماله يستكمل توفيق الطويل تأريخه الخاص لفلسفات الأخلاق .

وتمضي أعمال "توفيق الطويل" علي المسار ذاته، لكي يشيد مشروعه الفلسفي الحديث – في جدله المتواصل مع جذروه – القومية – العربية، والفكرية والغربية: يكتب عن الإمام الشعراني المتصوف، وعن الشاعر الصوفي السني عمر ابن الفارض، وعن الفيلسوف العقلاني العربي ابن مسكوية ويكتب عن جون ستيورات مل وعن: قضة الصراع بين الدين والفلسفة " ليعود – ويحسم في بنائه الفلسفي الخاص – إلي أحد أهم مسارات الفكر الإنساني خطورة – في الحضارتين العربية الإسلامية والغربية المسيحية ويقدم حله الفكري الإيماني العقلاني الخالص لهذا الصراع؛ ويكتب عن: " العرب والعلم في عصرهم الذهبي " لكي يوضح المفهوم العربي الخاص- الأخلاقي والإنساني الإيماني للعلم في مواجهة وعلي نقيض المفهوم الغربي ولكنه – أي المفهوم العربي – الذي تأسس علي امتزاج التطور الديني الإسلامي للعلم مع التطور الأفلاطوني المثالي – لا الأرسطي المادي – الغربي الأصل.

ويكتب "توفيق الطويل" عن: " قصة الاضطهاد الديني في المسيحية والإسلام " لكي يوضح الاختلاف الجذري بين " القصتين" اختلافا ينشأ من الأصول العرقية والاجتماعية للاضطهاد العقائدي في الغرب حتي صار الإلحاد هو الحل والأصول العقائدية والسياسية الخالصة له في العالم الإسلامي، حتي صار صحيح الإيمان لا التطرف هو الحل في العالم الإسلامي؛ ويكتب عن: " بين الحضارة الإسلامية والحضارة الأوربية " لكي يتوج كشوفه الفكرية الأصلية في هذه العلاقة التفاعلية الخلافية في بوتقة تاريخية واحدة .

غير أن مساهمة "توفيق الطويل" الكبرى – لتأسيس وتتويج مشروعه الفلسفي تتمثل في كتابه الضخم: " فلسفة الأخلاق – نشأتها وتطورها " الذي يكاد يكون " الرد المتكامل علي آراء هنري سيدجويك – وعلي آراء زملائه النفعية والوضعية والعلمية والمادية .. إلخ، وفي هذا الكتاب يحدد موقفه الفكري بأنه " المثالية" المعدلة، ويقع هذا العمل الضخم في كتابين، يتناول الأول فلسفة الأخلاق في العصور القديمة: الإغريقية منذ ما قبل ثم عند سقراط وأفلاطون وارسطو؛ والسفسطائيين ثم في العصر الهيللنستي: الكلبيين الشكاك والرواقيين الزهاد والأبيقوريين أصحاب نزعة المنفعة واللذة إلي العصر الإسلامي وفلاسفته والمتصوفة فيه؛ وفي فصول الكتاب كتابه الأخير البالغ الأهمية: العدل في المجتمع (عام 1965)، وبعد وفاته أشرف زميله الكبير، رالف فلتشر علي إصدار كتاب تذكاري عنه، بعنوان: علم المجتمع ووحدة الإنسانية، صدر عام 1974، وأصبح واحدا من أهم المراجع في تطور علم الاجتماع وفلسفة التاريخ الحديثيين.

كذلك يحسب لتوفيق الطويل كونه قد سعي جاهدا في أغلب كتاباته إلى ربط الفلسفة والدين والبحث في شتى أشكال إمكان الجمع بينهما، وكيفما كان مدار الفكر وقريحته، فهو لا يعبر عن ذاته خارجا كلحظة من لحظات النضج العقلي خارج إطار تسود فيه الحرية الفكرية، من ثمة كانت دعوته تناهض بالاعتدال لا التطرف، سواء أكان من جهة العقلانيين أو رجال الدين، ومنه يمكن الجزم على أن مفهومي الاعتدال والوسطية هي المناهج التركيبية والتحليلية الأقرب في بناء وفهم مقولة الأخلاق عند توفيق الطويل كممثل للمذهب المثالي؛ حيث عُد كتابه في فلسفة الأخلاق والذي استعرض فيه مذاهب الأخلاق على اختلافها منذ اليونان الأقدمين حتى يومنا الراهن، لينتهي من هذا كله إلى اتجاه يختاره لنفسه هو أقرب ما يكون إلى الاتجاه العقلي المعتدل أطلق عليه اسم المثالية المعدلة.

وهذا الأخير كمفهوم نحته "توفيق الطويل" يقوم على ثقافة الاعتراف بالآخر؛ أي بالمبادئ الفطرية المشتركة بين جميع أجناس البشر "متمثلة بالاستعدادات والغرائز القابلة للتوجيه، بفعل العقل الذي يشكل مبعث القيم والمعايير المطلقة التي تنبني عليها فلسفة الأخلاق"، ومن الملاحظ أنَّ توفيق الطويل يحدد موقفه المعتدل انطلاقا من انتقاده اللاذع لمنتقدي المثالية الكانطية للتحرر من نزعتهم الصورية المتطرفة، ثم يعمد إلى تقديم وتحقيق مفهومه المبتدع بما يتناسب مع قيم المجتمع ومعاييره، من خلال تصور الإنسان هو مجموعٌ يشترك فيه العقل والحس، لا كما سلف، حيث طغت فكرة الصراع بين العقل والحس الذي كانت لا تنتهي إلا بقضاء أحدهما على الآخر، فيشغل الثاني حيز الوجود انطلاقا من هذه الوسيلة التي انتهى بها أحد الطرفين إلى العدم، وحتى نفهم المثالية الأخلاقية مع توفيق الطويل تستدعي الضرورة بالعودة إلى السياق التاريخي لها وخصوصا مع اللحظة الكانطية، حيث عمد إلى تبيان خصائص المثالية التقليدية التي تقتضي وضع مثل إنساني رفيع يسير بمقتضاه السلوك الإنساني.

وليس معنى انضمام "توفيق الطويل" إلى معسكر المثاليين أنّه هاجم المذاهب التجريبية والوضعية على طول الخط، فهو مع اعترافه بعجز المذهب المادي في إعطائنا تفسير معقول ومقبول للوجود والمعرفة والأخلاق، إلاّ أنّه مع ذلك يؤمن بأنّ هذا المذهب المادي يرشدنا إلى الكشف عن كثير من الحقائق وإليه يرجع الفضل في فهم العلاقة الوثيقة بين المخ والنفس، كما أنّه يبدو أقرب إلى الصواب من مذاهب المثاليين في تفسير المعرفة الإنسانية، ولا يمكن الاستغناء عن التجربة في كسب المعرفة عامة، والمعرفة الخلقية بوجه خاص، إذ أن المعرفة بغير التجربة الحسية مستحيلة ولا تكتمل ولا تستوفي شرطها العلمي أو النفسي إلاّ بوجود العقل، هذا بالإضافة إلى أن دراسات التجريبيين والوضعيين ومن إليهم من الواقعيين قد ساهمت في الكشف عن كنوز الحقائق المجهولة في ماضي حياتنا الخلقية وفي حاضرنا. والجدير بالذكر هنا أن الطويل كان لا يؤمن أيضاً بالمذاهب المثالية الخالصة روحيّة كانت أو عقليّة على طول الخط، ولكن يؤمن بمثالية معدلة عملت على عبور الهوة السحيقة بين التجريبيين والمثاليين. ونظرت إلى ضرورة تحقيق الذات بكل قواها الحيوية حسية كانت أو عقلية روحية، بعيداً عن شطط المعسكرين المتطرفين ومن شابههم.

ومن هنا كان التزام "توفيق الطويل" بموقف الوسط في الأخلاق والتماسه للسعادة في الفضيلة، والمتعة في الواجب، فكان للحواس دورها وللعقل دوره، تلك تشتهي وهذا ينظم لها طريقة الإشباع، فلا تطغى سعادة الفرد على سعادة المجموع، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يقنع بالواقع، ويتطلع إلى ما ينبغي أن يكون، يضيق بالسلوك الذي تسوقه إليه الشهوات والعواطف، ويكبر الذي يجري بمقتضى الواجب، وبذلك كان من الحق أن يقال أن الإنسان لا يكون إنساناً مميزاً من سائر الكائنات بغير مثل أعلى يدين له بالولاء وتتحقق السعادة في حياة راضية مطمئنة تتحقق فيها مطالب الروح وتجاب فيها مطالب الحياة المادية في غير تهور ولا إسراف، ويقوم فيها العقل بتوجيه الإنسان في تصرفاته والعمل على تحقيق مطامحه في الوقت نفسه الذي يحد فيه من شهواته ويضبط جموح أهوائه ونزواته، ويقترن هذا كله بتصفية النفس من عبودية الرغبات الجامحة وتخليصها من الأحقاد والضغائن وصنوف الجشع والطمع ونحوه، مما يثير القلق ويورث الهم والشقاء وبهذا تتحقق طمأنينة النفس دون جور على مطامع الإنسان في هذه الحياة الصاخبة.

هكذا نخلص إلى أن الأخلاق المثالية استرعت في أطروحاتها الجسد، وغطت جانبا كبيرا من النفس الإنسانية، حيث انتهت إلى ضرورة تقتضي في هذه المثالية بأهمية إشباع الرغبات الإنسانية من أجل تحقيق الذات، مادام ذلك ليس فيه إخلال بأساس ووحدة المجتمع وأيضا لا يتعارض مع المصلحة العامة وإلا ستكون التضحية أسمى الممارسات التي تحقق الذات والارتقاء لما في ذلك من خير للمجتمع. ورغم أن هذا المجال لا يزال موضع خلاف بين الباحثين حسب تصور "توفيق الطويل" نظرا لطبيعته وعلاقاته بغيره من العلوم لما يشوبها من إبهام أو يلحقها من تطور، كان من ثمرة هذا التطور أن تتغير النظرة إلى علم الأخلاق موضوعا وغاية ومنهجا.

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي أستاذنا "توفيق الطويل" حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، ولعل هذا يتوافق مع كلمته الشهيرة "لحم الضأن تأكله الضباع وتبيت الأسود جوعانة"، فكان كل هذا بمثابة عوامل أسهمت في تكوين صورتنا عنه والتي ستظل طوال العمر صورة الأستاذ الاكاديمي الذي رغم هذه المأثر المتعددة وغيرها لم ينل حقه الطبيعي من التقدير والشهرة وهما اللذان تركا لأنصاف الأساتذة فلم يعرفه الكثيرون من الأجيال الصاعدة؛ فتحية طيبة لأستاذنا "توفيق الطويل" الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء؛ وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

رحم الله الدكتور توفيق الطويل، الذي صدق فيه قول الشاعر: وليس موت إمرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان.. والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه.. إذا يعزوه فقدان في كل يوم .. ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.

***

أ.د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.........................

المراجع:

1- سامي خشبة: مفكرون من عصرنا ص 2910294.

2- سفيان البطل: من العقلانية إلى الرحمانية: بحث في القيم الأخلاقية، أغسطس 2019

3- توفيق الطويل: فلسفة الأخلاق، دار النهضة العربية، القاهرة، بدون تاريخ.

4- بارودي: المشكلة الأخلاقية والفكر المعاصر، ترجمة محمد غلاب، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثانية. د.ت. ص 344 – 345.

5- زينب عفيفي: المثالية المعدلة في فلسفة الدكتور توفيق الطويل الخلقية، مقالة في نقد الفكر الأخلاقي بالكتاب التذكاري “الدكتور توفيق الطويل مفكراً عربياً ورائداً للفلسفة الخلقية – بحوث عنه ودراسات مهداه “ المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1995، ص 87.

6- فيصل بدير عون: أخلاق البصيرة العقلية عند الطويل، ص 115.

7- غيضان السيد علي: الأخلاق الكانطيّة منقودة من الشرق .. مِثَاليّة توفيق الطويل المُعَدَّلة أنموذجاً

في المثقف اليوم