قضايا

إعاقة التحول الديمقراطي.. من المجتمع المدني إلى الطائفية السياسية

ثامر عباسالقسم الأول: شخصنة السلطة وتسييس الطائفة

مامن سلطة سياسية تستطيع، بعد اليوم، أن تصادر الحق الطبيعي لمكونات المجتمع المدني , حين تروم التعبير عن خصائصها القومية، والإفصاح عن تنوعها الثقافي، والمطالبة بتعيين حقوقها الاجتماعية، والسعي لتأمين دورها السياسي، إلا عن طريق توظيف عناصر القسر، واللجوء إلى أساليب القهر باستخدام العنف المادي والإرهاب الفكري والترويع النفسي ضد أشخاصها ومؤسساتها، بغية إقصائها سياسيا" وتهميشها اقتصاديا" وتغريبها اجتماعيا" واحتوائها ثقافيا"، مما يفضي بالسلطة المعنية الإعلان عن إفلاسها السياسي وافتقارها لطابع (الشرعية) التي تبيح لها تسويق خطابها وتبرير مواقفها وتسويغ تصرفاتها من جهة، والإفصاح من جهة أخرى عن تعارضها مع صيغة (المشروعية) التي تجيز لها ممارسة العملية السياسية وقيادة مؤسسات الدولة وأجهزتها على وفق قواعد القانون الأساسي (الدستور) والارتكاز من ثم على بقية القوانين السائدة والعراف المرعية. إذ إن (النظام الذي فيه يلتهم العنف السياسه – كما يكتب الباحث روبير ريدكر – بحيث تنعدم تماما" كل سلطة سياسية : فيمارس كل من عنف الطبيعة وعنف التأريخ في محل وبدل القوانين، والحق، والسلطة السياسية). وغالبا" ما تنجح تلك الأنظمة الاستبدادية، لافي قدرتها على لجم تطلعات عناصر المجتمع المدني وتقييد حريتها السياسية وقمع خطابها الفكري وتقويض بنيتها الاجتماعية فحسب، ولكن أيضا"باستعداء بعضها ضد البعض الآخر بهدف إبقائها رهينة الإحساس بالضعف في حلبة تنافس المصالح، والعجز في إطار توازن القوى. إلا إن تلك السلطات المتطرفة أو الأنظمة المتصلبة، لا تلبث أن تواجه أمامها، إن عاجلا" أم آجلا"، دوامة المشاكل التي تحاول عبثا" طمسها وإخفائها تارة، وإهمالها وتجاهلها تارة أخرى، قد تحولت فجأة إلى عاصفة سياسية مدمرة وتآكل أمني متعاظم، تكون من عواقبها نخر كيان المجتمع المأزوم، ونسف أسس استقراره الهش، وتعرية انسجامه الكاذب. الأمر الذي أثبتته على نحو بالغ الدلالة وفائق المغزى أحداث ما بعد التاسع من نيسان عقب سقوط النظام السابق. ذلك لأن (كل انسداد في النظام السياسي – كما أجاد الوصف المفكر السوري برهان غليون – يخلق انفجارا" في المجتمع المدني ويؤدي إلى نشوء عصبوية مغلقة).

وإذا كان من الطبيعي والمألوف، من وجهة نظر ديموغرافية/ أنثروبولوجية، إن غالبية المجتمعات الحديثة – المتقدمة منها والمتخلفة على حد سواء – تشتمل على طيف واسع من التكوينات الاجتماعية والعقائد الدينية التي تعكس تعدد أعراقها وتنوع طوائفها، بحيث يستدل منها على طبيعة المجتمع المعني، وتشكل بالنسبة له علامة فارقة يتميز بها قياسا" إلى غيره من المجتمعات الأخرى. إلا انه من غير الطبيعي والشاذ في نفس الآن، أن تتخلى تلك المكونات عن موقعها السيوسولوجي وتغادر طابعها الرمزي، حيث تمارس وظيفتها في رأب صدوع المجتمع ورتق تشققاته والحفاظ على مرونته، لاسيما عند حدوث الأزمات الحادة والمنعطفات الخطيرة، إلى التطلع نحو استثمار ورقة الطائفية وزجها في أتون تجاذبات نظام المحاصصة السياسي، في ظل غياب دولة القانون وانعدام مؤسسات المجتمع المدني، لاحتمالات أن يفضي هذا الفعل النكوصي إلى تعويض ما خسرته الطوائف من امتيازات سياسية، واسترداد ما فقدته من مكاسب اقتصادية، واستعادة ما أضاعته من فرص تأريخية، دون الأخذ بنظر الاعتبار أن لا علاقة منطقية تربط بين خصائص المجتمع المدني بكل تنوعاته، وبين النظام السياسي المنبثق عنه والسائد فيه، من حيث الواجب والوظيفة، كما إنها لا تراعي إن عملية استعادة الحقوق المهضومة، والحصول على المطاليب المصادرة لا يستلزم في مطلق الأحوال تسييس النوازع الطائفية، واستنفار الرموز الدينية، وشحذ التهويمات الكارزمية، ووضعها في مسار مواز لمسار مؤسسات المجتمع المدني، لكي نقاضي النظام التسلطي بالقصاص من المجتمع.

صحيح إن سائر الاختلافات الاقوامية / القبلية، والتباينات الدينية / الطائفية التي تزخر بها المجتمعات الإنسانية كافة، تتوق إلى تأكيد ذاتها وترغب بتمييز أناها بسائق الاعتزاز بخصائص هوياتها إزاء سواها من الهويات الأخرى، لاسيما حين ينحل الرابط الوطني وينفرط عقد الثوابت المعيارية، إبان فترات الحروب السياسية والصراعات الاجتماعية، مما يضطرها إلى التخندق خلف روابطها الأولية، والتشبث بأشكال رموزها الدينية، والدعوة لتوثيق عراها البينية، من منطلق إن : (الهويات المهددة في وجودها – كما يشير الأكاديمي والباحث اللبناني الدكتور غسان سلامة – أو الساعية لإثبات هذا الوجود، تبحث عن وسائل

التمأسس). أي إنها تنحو باتجاه تأكيد وجودها وإبراز فاعليتها، من خلال تأطير كيانها وتجسيد قدراتها في مؤسسات تمتلك قوة الفعل وتمارس هيمنة التأثير حيال بقية المؤسسات الناشطة في إطار المجتمع بشقيه المدني والسياسي.

والجدير بالملاحظة إن القيام بمثل هذا النشاط المؤسسي، لا يعد خروجا" على قواعد المشاركة السياسية وصيغ التآلف الاجتماعي، طالما انه لا يهدف إلى تعطيل آليات المجتمع المدني، ولا يسعى لإضعاف حقوق المواطنة. ذلك لان محاولة زج الشوؤن الخاصة بالطوائف الدينية في أمور الشأن السياسي العام للمجتمع، سيفضي بالنتيجة إلى شق وحدة الصف الوطني، ويقود إلى بعثرة قوى التيارات السياسية العاملة على ضمان سلامة التراب الوطني وصيانة مصالح الشعب. ولهذا ولأجل أن تتمكن الطوائف من فرض حضورها الثقافي وتأكيد حقوقها الاقتصادية وبلوغ أهدافها الاجتماعية، فانه لامناص لها من التخلي عن فكرة الخوض في غمار السياسة بواسطة الخطاب الطائفي، كما ينبغي لها التنحي عن ركوب موجة المشاعر الطائفية لغرض الوصول إلى السلطة. حيث إن ذلك سيرجح الاعتماد على معايير المفاضلة والتمايز فيما بين الطوائف الأخرى على أساس حجمها في بنية النظام الاجتماعي، وقوتها في الإمساك بخياراته السياسية ، مما سيوؤل لاحقا"، ليس الإقرار بوحدة مبدأ المواطنة بالنسبة للجميع بصرف النظر عن طبيعة انتماءاتهم المذهبية أو ولاءاتهم العنصرية، حيث تتاح فرص المشاركة في صنع القرارات المتعلقة بالمصلحة العامة والتمتع بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافي على قدم المساواة، وإنما إلى بروز نوازع الاستئثار وهوامات التسلط  ودوافع العدوان. وعليه فقد وجد الباحث العراقي حسن العلوي : (إن الطائفية كالقومية ليست خطرا" إذا لم تتحول إلى استحواذ وتسلط على الآخرين واستلاب هويتهم والتعالي عليهم. إن التمييز الطائفي وليس الانتماء هو الذي يجعل المرء طائفيا").

والحقيقة انه متى ما بدأ النظام السياسي بالانحراف نحو التسلط، ويشرع بامتهان القمع المنظم، ويمعن بانتهاك الحريات العامة، ويسرف بمصادرة الحقوق المشروعة لمكونات الطيف الاجتماعي، حينذاك تظهر عليه علائم التحول باتجاه شخصنة السلطة وأقنمة رموزها، الأمر الذي يستتبع محاربة الرأي الآخر وإقصائه من المعادلة السياسية. إضافة إلى تضييق الخناق على مكونات المجتمع المدني وكبت إرهاصاتها، بحيث لم يعد بوسعه سوى اللجوء إلى خيارين أحلاهما مرّ ؛ أما الانضواء تحت خيمة النظام والاندماج بآليات علاقاته الاستتباعية والاستزلامية، وأما معارضته والنأي عن ممارساته، وبالتالي قبول لعبة التخفي السياسي والتقية الفكرية في أحسن الأحوال، أو التعرض لبطش أجهزته وطغيان مؤسساته في أسوأها. هنا وفي مثل هذه الأجواء الفاسدة والعلاقات الموبؤة تظهر النوايا السياسية وقد تلبست لبوس الحساسيات الطائفية لتحيل كيان المجتمع المدني إلى ساحة صراع ضارية لاستثارة الأحقاد الكامنة وتصفية الحسابات المؤجلة على حساب ثوابت الوطن ووحدة المواطنة..

***

ثامرعباس

في المثقف اليوم