قضايا

معايير الأحتراف السياسي: بين الدوغمائية والبرغماتية

ثامر عباسلما كانت السياسة بالمفهوم الواقعي المعاش تعني؛ علم ضبط التوازنات الحزبية، وفن إدارة الصراعات الإيديولوجية، وفهم تحليل العلاقات الاجتماعية، وقدرة معالجة الأزمات السياسية. فهي، والحالة هذه، تحتاج إلى بحث علمي متواصل، ودراسة معرفية مستمرة، وسبر فكري متعمق، وحفر تاريخي دائم. تتيح لمن ينخرط في مسالكها وينغمر في أتونها ويتعفر في معتركها، ليس فقط إمكانية تخطي حدود الإدراك الشعبي المقرون بالثابت والجزئي، وتجاوز تخوم الوعي التقليدي الممهور بالآني والمباشر، اللذان لا يستوعب المرء من خلالهما فكرة السياسة إلاّ ما يختص بجوانبها المتعلقة؛ بحيازة مقاليد السلطة بوسيلة العنف، والهيمنة على مؤسسات الدولة بانتهاج التسلط، والإمساك بأعنة النظام بواسطة الخنوع، والاستحواذ على الشؤون العامة بأساليب الغش والخداع فحسب. بل، والأهم من ذلك، تمنحه المقدرة على استخلاص الملموس من المجرد، واستنباط المعلوم من المجهول، واستقراء الواقعي من الرمزي، واستشراف المستقبل من الحاضر، واستنتاج التوقعات من التفاعلات، واستشفاف الاحتمالات من المصادفات. بحيث يتحول مدلولها الإجرائي من كونها مجرد فوضى إرادية واختيارات عشوائية، لا تتطلب سوى جرأة المغامرة الجامحة وطيش القوة المنفلتة، إلى أنظمة مؤسسية ورهانات عقلانية، تستلزم مراعاة شروط الواقع الآيل إلى التحول والتبدل، وتستدعي الأخذ بنظر الاعتبار ظروف المجتمع الماثل إلى التغيير والتحوير.

والواقع إن الحدّ الفاصل ما بين مظاهر الذهنية الدوغمائية وخصائص السلوك البرغماتي – لاسيما في مضمار العمل السياسي – يكاد أن يكون حدا"فضفاضا"وفاصلا"هلاميا"، يصعب على من تعوزه المعرفة ويشح لديه الفهم، تبين الفروقات واستشفاف الاختلافات القائمة بين تصلب المواقف وتعنت الآراء في الحالة الأولى وتقلب الاتجاهات وتحول الاهتمامات في الحالة الثانية. بيد إن المتمرس عمليا"والمتحصن نظريا"لا يخفى عليه استخلاص ما بين هذه وتلك من تباين على مستوى التعامل مع معطيات الواقع وانعطافاته من جهة، وعلى صعيد الوعي بمنتجات الفكر وانزياحاته من جهة أخرى. فإذا ما توخينا التقيد بمعايير الاحتراف السياسي، وحرصنا على الالتزام بمقاييس التحليل الموضوعي؛ لمعرفة أنماط التجلي وترسيم حدود التمفصل بين العقليتين الدوغمائية والبرغماتية، أمكننا القول بأن الأولى غالبا"ما تفضي إلى تنميط الذهنيات ونمذجة السلوكيات، من منطلق الحرص على ثبات المجتمع واستقرار النظام، دون أن تحتكم إلى ما يمور في رحم الواقع من صراعات في البنى الاجتماعية وانقطاعات في الأنساق الثقافية. هذا في حين تقود الثانية إلى تبرير المواقف حتى وان كانت خاطئة وتسوّغ التصرفات حتى وان كانت مشينة، طالما تجد فيها ضالتها وتحقق من خلالها مقاصدها، متعللة بالمبدأ الميكافللي الشهير (الغاية تبرر الوسيلة)، دون أن تراعي حرمة لمبادئ إنسانية عامة أو اعتبارا"لقيم أخلاقية مشتركة.

ولكي لا يأخذ الموضوع طابعا"مناقبيا" / وعظيا"، حري بنا أن ننأى به عن أهواء الرأي الشخصي ونجنبه الوقوع تحت طائلة التصورات الذاتية، التي من شأنها حصر المعنى للوقائع في نطاق ضيق لا يتعدى حدود الرغبة، وتقييد الدلالة للمعطيات في إطار الفهم الأحادي والإدراك الجزئي. موجهين أدوات تحليلنا شطر المستويات العميقة للظواهر الاجتماعية، ومتتبعين مسار الحركات الصاخبة للقوى السياسية، حيث التفاعلات البينية قائمة، والصراعات الجانبية مستمرة، والطفرات النوعية متوقعة، والانقطاعات البنيوية محتملة. وعلى ذلك فليس من المستبعد أن يتحول صاحب الذهنية البرغماتية إلى دوغمائي من الطراز الأول، أو بالعكس أن ينقلب الدوغمائي إلى برغماتي من الصنف المميز، إذ إن المسألة برمتها مشروطة بطبيعة الموقف الذي يستدعي حصول ذلك التحول، وماهية المصلحة التي تستلزم حدوث ذلك الانقلاب.

وهنا لابد لنا أن نلفت الانتباه إلى حقيقة أن الموقف الذي نقصده والمصلحة التي نعنيها، لا تتعلق بما هو شخصي / فردي وما قد ينطوي عليه من نظرة مطلبية ونزعة مكسبية، سرعان ما تضمحل وتتلاشى في خضم المزايدات والمفاضلات، بقدر ما يتصل بما هو شأن سياسي أولا"وأخيرا"، وما يمثله من اعتبارات وطنية عليا وما يعكسه من اهتمامات استراتيجية قصوى. تتمثل بسيادة سطوة الدولة، وشرعية سلطة الحكومة، وتدعيم سلطان النظام، وتعزيز هيبة القانون من جهة، والحرص على ترابط مكونات المجتمع السوسيولوجية، وتماسك أصول جماعاته الانثروبولوجية، وتواصل علاقات أفراده السيكولوجية، وتفاعل أرومات رموزه الإيديولوجية من جهة أخرى

ولعل تجارب العالم الغربي، حيال هذه المسألة، تمنحنا البرهان القاطع وتضرب لنا المثل الأعلى، لاسيما لجهة الكيفيات والآليات التي استطاع الغرب من خلالها، اقتناص الفرص واهتبال الخيارات التي هيئتها له مرحلة السبات – الأحرى أن نقول النكوص – الحضاري، حين ولج العالم الشرقي أطوارها ولا يزال يتجرع مرارتها ويتمرغ في وحولها. بحيث تمكن ذلك الغرب وخلال فترة زمنية قياسية من تجاوز تبعات حروبه الدينية الدامية، وتخطى عقبات صراعاته السياسية الضارية، التي كانت قرونه الوسطى الموسومة بالظلامية – إنصافا"للحقيقة نقول إن تلك الحقبة لم تكن، كما تصفها دوما"كتب التاريخ العربي والإسلامي، جدباء من كل إنجاز وخاوية من كل قيمة –  شاهدا"عليها، ويشرع، من ثم، بفرض تفوقه العسكري، وبسط سلطانه السياسي، ونشر تقدمه العلمي، وتعميم إبداعه الفكري، وتسويق ابتكاره الصناعي، وغزو إنتاجه البضاعي. وذلك لمستلزمات احتواء شعوب الشرق الغارقة في تخلفها والمستكينة لأقدارها، وإحكام السيطرة على مواقعها الجيوبولتيكية، وتكثيف الاستنزاف لثرواتها ومواردها الطبيعية، وتأبيد الهيمنة على مصائرها التاريخية، وتبرير الاستحواذ على كنوزها الحضارية.

ففي الوقت الذي كانت فيه معاقل العقلية الدوغمائية تحكم قبضتها على سائر الشؤون الداخلية للمجتمع الغربي؛ تارة باسم المصالح القومية الضيقة، وتارة ثانية بحجة الدعاوى الدينية المتعصبة، وتارة ثالثة بزعم المهام الحضارية الكاذبة. فان مراكز توجيه العقلية البرغماتية كانت قد تكفلت بخرق الحدود الطبيعية والسياسية والاجتماعية للبلدان الخارجية، استجابة لنوازع المنافسات التجارية، ونزولا"لدوافع الصراعات الاستراتيجية، بعد أن تسللت إلى وعي شعوبها (الطفولي)، وروضت اراداتها (العنيفة)، ودجنت شخصياتها (العصابية)، وهذبت ثقافاتها (الهمجية). كل ذلك حصل دون أن يتجرأ أحدا" من أمراء الإقطاعيات، أو ملوك الامبراطوريات، أو حكام الجمهوريات على التضحية بجزء من المصالح القومية العليا للدول أو التفريط بالثوابت الوطنية المقدسة للشعوب، كائنة ما كانت أنماط الدول وأشكال الحكومات التي حكمت ربوع ذلك العالم.

وإذا ما انعطفنا باتجاه تجارب بلدان الشرق بشكل عام، وأوطان العالم العربي على نحو خاص، وتجربة العراق التي هي مدار بحثنا هنا بصورة أخص، فانه لا مناص من وقوعنا فريسة لنوبة عارمة من الضحك – لأن شرّ البلية ما يضحك كما يقال – ليس لأن المجتمعات المصنفة ضمن أدنى مقياس للتغيير، وأوطى مؤشر للتطور، وأسفل سلم الحضارة، أضحت عقيمة حضاريا"وعاجزة إنسانيا"عن توليد مثل هذا الطراز من العقليات، وبالتالي تجهل ما هو حق لها لتصونه وما هو واجب عليها لإنجازه – إن تجهل شيء ما فلا تثريب عليك إن أخطأت في فهمه، ولكن أن تعيه على وفق مزاجك الخاص، وأن تستغله بناء على رغبتك الذاتية فتلك هي المصيبة – بل ولأننا آثرنا أن نفسّر الدوغمائية بما ينسجم ومصالحنا في ثبات التوترات السياسية، حتى وان كانت ضاجة بالمآسي والويلات. واستقرار المنغصات الاجتماعية، حتى وان كانت صاخبة بالنزاعات والتناحرات. واستمرار المعاناة الاقتصادية، حتى وان كانت حبلى بالمظالم والحرمانات. وتأبيد الزعامات السلطانية، حتى وان كانت تنتج الدكتاتوريات والشموليات. وتبجيل الأساطير التاريخية، حتى وان كانت مصدرا"للانقسامات والاسنقطابات. وتقديس الخرافات الدينية، حتى وان كانت تحض على التطهيرات والابادات. والحفاظ على الترهات العرفية، حتى وان كانت تقمع العقليات والفكريات.

كما إننا فهمنا العقلية البرغماتية كما لو أنها قناع متعدد الأوجه، يخفي حقيقة ما نضمر ويستر طبيعة ما نشعر؛ بحيث تعلمنا أن نتاجر بالأقوال ونساوم بالأفعال، حتى وان كان ذلك على حساب المبادئ الوطنية والقيم الأخلاقية. وان نبرع بالحصول على كل شيء مقابل ألاّ نعطي أي شيء، حتى وان كان ذلك على حساب الحقوق والواجبات. وان نكون دائما"في المقدمة نحصد المكاسب ونتمتع بالامتيازات، حتى وان تطلب الأمر تهميش الآخرين وإقصاء الجميع. وان نزعم امتلاك العلم وحيازة المعرفة، خلاف ما نفهم مستلزمات الأول ومناقبيات الثانية، حتى وان كان ذلك يفضي إلى تزييف الوعي وتسطيح الشخصية.

وهكذا فقائمة المقارنات تطول، إن أردنا ذلك، وتفاصيل المتقابلات تتشعب، حيال المواقف الانتقائية / المصلحية التي يبديها فرسان التغيير السياسي في عراق اليوم، لجهة تعاطيهم الحرباوي / الثعلبي مع جيشان الوقائع وهيجان الأحداث، على وفق مقياس تصوراتهم المبهمة وتبريراتهم الملتوية، بحيث إن الأمور تبدو كما لو أنها مادة صلصالية، سهلة التكوين حسب المطالب وطيّعة التشكيل بموجب الرغبات. فحين يتعلق الأمر، وهم في موقع القوة والشعور بالاقتدار، (بكم) المكاسب الشخصية والفئوية و(نوع) الامتيازات العنصرية والجهوية – ولا نقول الحزبية لأن اللبيب بالإشارة يفهم – فانه لا أحد يضارعهم، كائنة ما كانت الظروف والأحوال، في إبداء التصلب الذهني والتعصب القومي والتمذهب السياسي، للحد الذي يسوقهم  إلى تجريم المعارض حتى وان كان مهادن على جبهة السياسة، وتحريم المخالف حتى وان كان مسالم على جبهة الدين، وتأثيم المغاير حتى وان كان على جبهة الطائفة. أما أن تدعوهم الحاجة، وهم في موقع الضعف والإحساس بالانكسار، لإيثار مبدأ المرونة في التعامل مع الخصوم وطرق سبل المساومة مع المعارضين، فإنهم على استعداد ودون تردد؛ لتضييع الوطن وتبضيع الدين وتسليع الإنسان.

هنا نكون قد أوضحنا – دائما"في حدود السياسة وإطار السلطة -  التباينات الدلالية والتعارضات الرمزية؛ بين أن يكون المرء (دوغمائيا") في مجال الثوابت الوطنية والمصالح القومية والأسس العقلانية والقواعد المؤسسية والمعايير الإنسانية، أو العكس التعهّر السياسي والتحجر الفكري والانغلاق الإيديولوجي والتخندق الديني والتمترس المذهبي التحصن العرقي. وبين أن يكون (برغماتيا") لا يألوا جهدا"في البحث عن كل ما من شأنه؛ ترصين سيادة الدولة وتعزيز سلطة الحكومة وتوقير هيبة القانون  وترسيخ أمن المجتمع وضمان حقوق الإنسان، أو العكس تقويض سيادة الأولى بالأجندات الإقليمية والدولية، إضعاف سلطة الثانية بالمحاصصات الطائفية والتكتلات القبلية، والاستغناء عن هيبة الثالث باعتماد العصابات والمليشيات، وتهديد أمن الرابع بتعميق الانقسامات واثارة النزاعات، وانتفاء حقوق الخامس بانتهاج الانتهاكات والخروقات.

***

ثامر عباس 

 

في المثقف اليوم