قضايا

حوار الحضارات بين قتامة الرّاهن.. وتجليات المدى المنظور

محمد المحسنتقديم: حتى عام 1996، كان صامويل هنتنجتون واحداً من الباحثين البارزين الذي اجتهد لصياغة رؤية تفسيرية،  بالاستناد إلى مجريات الواقع الحضاري الذي يعيشه العالم،  وبما أن كل رؤية تفسيرية تنطلق من ثابت منطقي ووجدي أحياناً،  فإن هنتنجتون يعتمد مقولة (الصدام The Calsh) كتعبير عن لحظة الصراع الذي يجري وسيستمر في أرض الواقع،  لكي تكون هذه المقولة ذات دلالات عامة وشمولية فإنه يحقنها بقوة دلالية مضافة لتصبح أكثر تعبيراً عن جوهرية هذا الصدام،  واتساع شموليته،  فمن الصدام الحضاري إلى الصدام الكوني،  ومن الصدام الجزئي،  بين طرفين أو ثلاثة إلى صدام كلي تشترك فيه مجمل القوى البشرية بمختلف تشكيلاتها.

لم تكد الحرب الباردة تضع أوزارها بين الشرق والغرب، حتى أخذ يظهر شكل جديد من أشكال الصراع أطلق عليه الأمريكي صموئيل هنتنجتون اليهودي الأصل (1993)”صدام الحضارات” (1) بدلا من كونه صداما بين الأيديولوجيات أو القوميات، في ظل الليبرالية العالمية التي تهدف إلى خلق حضارة عالمية أو ثقافة كونية culture globale وقد قصد-هنتنجتون-من وراء مقالته عن صراع الحضارات ثم كتابه (1996) في الموضوع نفسه إلى تصوير المشهد العالمي بعد انقضاء الحرب الباردة، ليقترح استراتيجية للولايات المتحدة لمواجهة تلك المتغيرات، ولأنّه ليس مؤرخا بل هو باحث استراتيجي فقد كانت خطوتاه متعجلتين، وتسببتا في اضفاء شيء من التسرّع على استنتاجاته في الخطوة الثالثة، مما دفع مفكرا كالراحل إدوارد سعيد إلى تسمية الأطروحة: صدام أو صراع الجهالات..!

طرح-هنتنجتون-فكرته الأولى القائلة أنّه بعد انقضاء الحرب الباردة فإنّ طبيعة الصّراعات على المستوى العالمي ستتغيّر، كانت تلك الصراعات في الماضي القريب ذات طبائع ايديولوجية وسياسية واقتصادية واسترايجية، والحرب الباردة هي النموذج الأوضح لتلك التجاذبات والصدامات.

أما في المرحلة الثانية في الحاضر والمدى المنظور، فإنّ الباحث انصرف لدراسة الصراعات البديلة أو الجديدة :إنها صراعات الثقافات والحضارات..

بمعنى أنها ستجري بين المجال الحضاري الغربي، والمجالات الحضارية الأخرى الباقية في العالم، والتي يقول انها ستة أو سبعة، أهمها المجال الكونفوشيوسي/ البوذي، و المجال الإسلامي.أما المعالم والعناصر التي رأى أنها تحدّد المجال الثقافي أو الحضاري فهي : الدّين والتجربة التاريخية العريقة، والإمتداد الجغرافي المترابط أو المتماسك والوعي الذاتي القوي، ومع أنه يخشى من امكان التحالف بين المجالين القويين والباقيين:الكونفوشيوسي/البوذي، والإسلامي، غير أنّه يلاحظ أنّ الإنبعاث الحضاري الأوّل يتجه لتسوية أموره مع الحضارة الغربية بعد تحقيق نجاحات اقتصادية وسياسية بالتحاور والتجاور والتنافس مع الغرب وقيمه وممارساته ونظمه، في حين تتجه الصحوة الإسلامية إلى الإنعكاف على الذات، وإلى مواجهة الحضارة الغربية المنتصرة وتحديها، وبسبب من نزعتي التأكيد على الهوية الذاتية، وعدم القبول بالإنضواء تحت لواء القيم الحضارية الغربية فإنّ-الباحث-يستنتج من وقائع وأحداث يسردها من التاريخين القديم والحديث أنّ للإسلام تخوما دموية !

ومع ذلك فإنه لا يرى أنّ الصدام بين الإسلام والغرب حتمي الحدوث، ويقترح أفكارا للقاء والتحاور لكنّه لا حظ في مناسبات عدة في السنوات الأخيرة تصديقا لإستنتاجيه الرئيسيين: الصراعات، صراعات بين المجالات الحضارية، وأبرز ساحات الصراع كائنة بين الإسلام والغرب !!.

ماذا يعني هذا؟

هذا يعني أنّ سياسات الهيمنة والغطرسة في النظام الدولي لا تزال مستمرة ومهيمنة على نمط العلاقات الدولية على رغم التطورات والتحوّلات الكثيرة التي شهدها العالم من حولنا، ولا يخفى أنّ العالم العربي والإسلامي أكثر المتأثرين والمنفعلين بذلك..

وهذا يعني أيضا أننا سنكون ضحية التاريخ والجغرافيا، ضحية التاريخ لأنّ الذاكرة الغربية مازال في داخلها مخزون من المخاوف والهواجس والشكوك نحونا، وهو مخزون صنعه نظام دولي قديم كانت الإنتماءات فيه تُنسج وفق العقائد الدينية، ولم تستطع كل علمانيات النظام الدولي المعاصر صرفها عن ذاكرة الغرب، ويقابلها في الشرق الإسلامي صيحات تحد متشنجة تؤكّد تلك المخاوف..غير أننا كذلك ضحية الجغرافيا لأنّ أسوارنا لصيقة بأسوار الغرب كلّه.إنّنا لسنا شركاء في البحر الأبيض المتوسط فحسب بل كذلك شركاء في النزاع على أحقية تمثيل التراث الإبراهيمي للأنبياء، ومن التلقائية أن يكون الخطر القريب هو الخطر الأوّل..

ولهذا كنّا في ذهن الإستراتيجي الغربي وسنكون العدو التالي بعد الشيوعية”وبخاصة إذا ظلّت المناهج التربوية والتعليمية والثقافية ونتاج الأدب والفن تستمدّ معرفتها بنا من ذلك المخزون التاريخي، والتي لم يسلم منها حتى الإنتاج السينمائي الذي ولد في أحضان الثقافة العلمانية”(2) وهذا يعني أوّلا وأخيرا أنّ هناك صيحات متطرفة تسعى لتحويل منطقتنا إلى ميدان حرب طويلة، تارة تحت عنوان حرب الإرهاب والتطرّف وتارة تحت عنوان صراع الحضارات وتارة تحت عنوان تدمير أسلحة الدمار الشامل.ويسعى منظرو هذه الحرب لجمع العالم كلّه جبهة واحدة ضد المسلمين.

يقول-هنتنجتون-“إنّ القوى الغربية المتمثلة في الولايات المتحدة وأوروبا ينبغي لها أن تحقّق درجة أعظم من التكامل السياسي والإقتصادي والعسكري، كما ينبغي لها تنسيق سياساتها حتى لا تتمكّن الدول والحضارات الأخرى من أن تستغل خلافاتها تحتاج إلى استيعاب الدول العربية من وسط أوروبا في صفوف الناتو والإتحاد الأوروبي، وأقصد بذلك التشيك والسلوفاك والمجر وبولندا ودول البلطيق وسلوفانيا وكرواتيا، وعلى الولايات المتحدة أن تشجّع تغريب أمريكا اللاتينية وأن توقف انسلاخ اليابان بعيدا عن الدول الغربية في اتجاه التطبيع والتقارب مع الصين، وأن تقبل روسيا بإعتبارها المركز الرئيسي للأرثوذكسية، وعلى الغرب أن يحافظ على تفوقه التقني والعسكري على الحضارات الأخرى وأن يفرض القيود والحدود على القوة العسكرية التقليدية للأقطار الإسلامية والصين”(3).

إلا أنّ-هذا الباحث الأمريكي-يتحاشى التوسع في حديث الإقتصاد وكأنّه يتلافى المقدمة الوحيدة الصحيحة إلى النتائج الصحيحة أيضا.إنّه يتجاهل جيوش العاطلين عن العمل في أوروبا، ومعدلات التضخم المتصاعدة كالورم السرطاني، والعجز المطرد في ميزان الدفوعات.

ويعالج القضايا “الفكرية”كأنها كارثة قدرية كالأحداث الطبيعية الخارقة، من زلازل وبراكين.

إنّه بالتالي يتناسى أنّه داخل اليابان شرقا وغربا وأنّه داخل فرنسا-مثلا-غرب فرنسي وغرب أمريكي، وأنّ الموقع الجغرافي وحده لا يصنع الشرق الحضاري ولا الغرب الحضاري، ولكن أمريكا في أقصى الشمال لها شرقها ولها غربها.أما شرق”آسيا”أو غرب”أوروبا”فإنّ  حوارا جديا بينهما لم يحدث، طالما يأتمران بالصوت القادم من واشنطن.

ومعنى ذلك، أننا يجب أن نحذر بوضوح من التقسيمات”الحضارية” الملفقة، والقائلة على سبيل المثال، بأنّ هناك حضارة”شرقية” تمتدّ ما بين طنجة في المغرب إلى آخر جزيرة يابانية.

ليس هذا صحيحا بأية حال. وليس صحيحا بالمقدار نفسه القول بأيديولوجية الحضارة أي أنّه-على سبيل المثال-هناك حضارة اشتراكية تربط بين المواطن الفيتنامي والمواطن الكوبي. كلا القولين ليس صحيحا.فما أبعد المفهوم الإسلامي للحضارة عن المفهوم البوذي أو الكونفشيوسي وكلها مفاهيم شرعية.

ذلك أنّ التراث النوعي الخاص لكل أمة هو الذي يمنح انتماءها الحضاري هذا البعد دون ذلك.وهو الإنتماء الذي تحدّده البيئة والتاريخ والتطوّر.ومن هنا لا يجوز تقسيم العالم تقسيما جغرافيا ستاتيكيا إلى شرق وغرب، ولا يجوز في الوقت نفسه توحيد العالم توحيدا سياسيا واقتصاديا يقول بإنتساب دولة “بنين” “افريقيا” إلى الحضارة الإشتراكية التي ضمّت-سابقا-بولاندا وتشيكوسلوفاكيا مثلا.

ونظرية-هنتنجتون-أكبر برهان على ذلك، فهي لا تؤسس لحوار شرقي غربي بل تشير إلى حصار غربي-غربي يقول بأفصح عبارة أنّ الشروق قادم من الغرب على حساب”العالم الثالث” وليله الأبدي بلا فجر.

فهذه هي القضية كما يطرحها كتاب-هنتنجتون-على نحو معكوس: إنّ نادي الأغنياء يضيء لياليه بزيت الفقراء، . ونادي الفقراء مظلم لأنّه يكتفي بفتات الموائد مقابل زيته.وكأنّ المعادلة”القدرية”هي هكذا، فالشروق الغربي يعتمد  على بقاء الليل العربي وغير العربي.

هذا لا يعني بالطبع أنه ليس هناك ليل غربي، فالبطالة تزداد والتضخم والعجز في ميزان الدفوعات، ولكن جنون الإستهلاك هو السبب، والحيلولة دون قيام نظام اقتصادي عالمي جديد يحقّق التوازن بين المتقدمين والمتخلفين هو سبب الأسباب.

وتبقى الحروب الصغيرة والكثيرة على أرض العالم الثالث هي الحل الأمثل لمعادلة الليل والشروق عند الغرب… وليس”السلام”على الإطلاق.

خطأ نظرية الصراع بين الإسلام والغرب:

تعاني أطروحة ” الصراع الثقافي والحضاري بين مجتمعات الإسلام والغرب ” من نقص حاد في إدراك الجدليات الثقافية الحاكمة لمجتمعات العالم المعاصر، وفي إدراك علاقات التمايز داخل كل مجال ثقافي-اجتماعي. وتنطوي هذه الفرضية على ثلاثة معطيات  فكرية تستدعي نقدا يكشف عقمها : إنها تنطوي على ادعاء لا تاريخي، وعلى وهم أيديولوجي، وعلى قراءة انتقائية لا موضوعية.ففي القول بوجود ماهية إسلامية مطلقة حاكمة للمجتمعات التي تدين شعوبها بعقيدة الإسلام، ماهية عصية على التبدل والتكيّف والتطور، وغير قابلة للتعين إلا بما هي جوهر مغلق واحد أحد لا يأتي عليه مكان أوزمان، ولا يتسع لأي نوع من التعدد فيه، حتى وإن كان من جنس التعدد في الوحدة.

إنّ هذا الادعاء لا أساس له في واقع جدلية التاريخ وتطوره.

وأما الوهم الأيديولوجي، ففي افتراض الغرب كيانا واحدا متجانسا لا تمايز فيه، ومطلقا مجردا لا تعدد أو نسبية فينسيجه. وهو غرب الديمقراطية وحقوق الإنسان التي حفظ لمواطنيه آدميتهم وكرامتهم  ومكّنهم من الحقوق والأدوات والمؤسسات التي توفر لهم إمكان التعبير عن آرائهم وإمكان تنظيم وجودهم وتقرير مصيرهم وإدارة شؤونهم بأنفسهم.

وأخيرا،  فإنّ القراءة الانتقائية غير الموضوعية تتجلى أكثر ما تتجلى  في الإصرار على النظر إلى العلاقة بين الإسلام والغرب بوصفها علاقة صدام وصراع فحسب، والتشديد على طبيعتها الانتباذية دون سوى ذلك من الصور والحالات التي سبق وشهدها تاريخ تلك العلاقة بين الطرفين في العصر الحديث على الأقل، وخاصة منها علاقة الحوار والتفاهم.

إنّ الغرب الحديث لا يمكن اختزاله في مشهد جيوش الاحتلال، بل هو كذلك مدونة الحقوق المدنية وحريات الإنسان على نحو ما بشرت به أدبيات الأنواريين، وجلجلت بها كل من الثورتين الفرنسية والأمريكية وتضمنها لاحقا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي قيم اكتسبت بعدا كونيا وتبنتها قطاعات واسعة من الشعوب والنخب الفكرية والسياسية في مختلف مناحي المعمورة الكونية، بما في ذلك في أرضنا العربية والإسلامية الواسعة .

ما العمل؟

إنّ العمل المطلوب من العرب لا سيما في ظل الإشراقات الثورية التي تشهدها العديد من البلدان العربية، النهوض اليوم للحفاظ على وجودهم في المحل الأول وضمان مستقبلهم، وحضورهم المشرّف في خريطة دولية متخمة بالتناقضات والتجاذبات السياسية، ثم الدفاع عن ثقافتهم وحضارتهم في وجه حملات التشويه المغرضة، احقاقا للحق ووفاء لتاريخ مشرق ورفعا لظلم غاشم..

هذا العمل يتحتّم أن يتجاوز القطري إلى القومي لا بمنطق التاريخ المشترك والثقافة الواحدة والحضارة الواحدة والمصلحة المشتركة فحسب، بل أيضا بالمنطق الذي يفرضه الغرب علينا اليوم من خلال طروحاته وأطروحاته ويفرضه التوجه الدولي السائد إلى تشكيل التكتلات الإقليمية الكبرى، فالعمل العربي المشترك هو السبيل الوحيد إلى المرحلة القادمة، وهو لا شك الإطار الموجّه للفعل العربي على الساحة الدولية.

***

محمد المحسن - كاتب صحفي تونسي

.................

الهوامش:

1) أنظر صموئيل هنتنجتون، صدام الحضارات.. إعادة تصنيع النظام العالمي، ترجمة طلعت الشابي، دار سطور للنشر. القاهرة 1977.ص10-11.

2) اسماعيل الشطي-عضو مجلس الأمة الكويتي سابقا- عن مجلة المستقبل العربي.العدد 283. 9/2002.

3) الشرق الأوسط:23-10-2001.

 

في المثقف اليوم