قضايا

باثولوجيا الثقافة: "التَيْس بوك"

سامي عبد العال"ما أتعسها من تيوسٍ، فقد حررت الوسائط الإفتراضية الفضاءَ المفتوح بلا حدود ..."

"التَيْس بوك".. هل هذا النحت اللغوي (خطأ أم صَحيح) حين يتعلق بالأفكار؟ إنَّ بعض الأخطاء- على افتراض تداولها-  أكثر إفادةً من المسلمات والحقائق المعروفة. ورُبّ خطأ بإمكانه أنْ يُوصِّف الحالة الفكرية السائدة دون كلامٍ. وبخاصة أنه لا توجد في هذا العصر حدودٌ فاصلة بين الأخطاء والمسلمات الشائعة. وهي تندرج في حدود (فلتات الثقافة) التي تُخرج باطن وأمعاء الحياة المعاصرة أمام النقد الفاحص والرؤية الواضحة. وبخاصة أنَّ تعبيراً كهذا ناتج عن تحولات الأفكار مع الممارسات التكنولوجية والتواصلية. فـ" التيس بوك" goat book إعادة نسخ لعنوان " الفيس بوك" face book الشهير من خلال حالة تعامل المستخدمين والمتفاعلين معه.

فكرة " التيس بوك" هي ظاهرة الفضاء الرقمي الذي غدا (حظيرة افتراضية) لطرح الكلمات والشعارات القمعية وصور العنف الرمزي والسُباب تحت غطاء القبول الصامت من المتابعين. وفي غياب الوعي بالنقد والفهم الحر ثقافياً، تضخمت المسألة في أدمغة أصحاب مثل هذه الصفحات حتى باتت المُناطّحة كالأفيون، تجلب لهم متعةً زائفةً وممارسات طفوليةً تنتظر علامات الإعجاب والابتسام (الإيموجي) من أمثالهم.

والظاهرة السابقة ظاهرة غثة على صفحات إلكترونية بامكانها أن تنهش وعي المتابع مثل عضة الكلب العقور. إنها أخر اختراع غريب انخرطت فيه طغمة المشتغلين بالثقافة (مرتزقة الأوهام والأفكار). هذا إذا أجيز اضافة مصطلحي (الثقافة والفكر) إلى جوارهم اللئيم. ولم يعد ممكناً النظر إلى (الآخر) الاَّ بوصفه خروفاً يتم نطحه أو سلب رأيه أو إدراجه كتابع ذليل.

هكذا بين عشيةٍ وضحاها، قد تصبح بوستات وعبارات "الفيس بوك" قُروناً لتيس حرُون ينطح القراء والمتابعين والجوالين الإفتراضيين. ولأول وهلةٍ يتنفس منْ يدخل (هذه الصفحةَ أو تلك) كماً لا بأس به من التلوث النفسي والروحي مجاناً. مع أنَّ القارئ قد لا يعرف صاحب الصفحة وربما لم يسمع به من قبل. لأنَّ "التيس بوك" غالباً ما يكُّون شخصاً منفياً في أحراش الثقافة، نظراً لضآلته وعجزه عن الإسهام الأصيل. وبالوقت نفسه هو يتسقّط متجولي الواقع الإفتراضي بحثاً عن أتباع وممارسة مركبات النقص عليهم دون جريرةٍ!!

"التيس" بخلاف "الفيس" هو ذكر القطيع من الخراف أو الماعز أو الوعول أو الظباء، إذْ يشعر دوماً بأهمية التمايز عن الإناث والانشغال باطلاق علامات جسدية معبرةٍ عن هيمنته. ويطلب من وقت لآخر أنْ تبادله الإناث والذكور خُضوعاً في مقابل سطوته. وإنْ لم يمتثل إحداها له، سيدخل في صراع وركض لتحقيق غرضه. والتيس يتحصن عادةً بالقطيع إذا شعر بأنَّ هناك تيساً غيره ينازعه السلطة. وقد ينفرد بالطرف الثاني في معركة قاتلة حفاظاً على ممتلكاته من القوة والغلبة.

ومن النادر أنْ تطلق أيةُ لغةٍ (المعاني الثقافية) الصامتة داخل كلمة (تيس) مثلماً تفعل اللغة العربية في هذا الوقت المتأخر من الاستعمال. وهي ما يُوضح لنا استعمال التيوس الجدد لصفحات الفيس بوك بطريقةٍ متخلفةٍ قميئة. فالتيس في العربية يُشتق من: تَيَّسَ، يُتَيِّس، تتييساً، فهو متَيّس. والإيماءة الخطيرة حين يقال: تيّست العنزُ.. أي صار كالتيس.. وهو مثل يضرب للذليل يتعزز. وبوضوح، فإن التتييس هو إدعاء العزة واسقاط حالة القوة على ذاته بعدما كان أحدهم نكرة ومرمياً كالرأس الخربة بين الناس.

وذلك سيفسر مركب النقص الذي ينضح خلال إدعاء (التيس بوك) للمعرفة والفكر والتعالم على الآخرين. تيَّس فلانٌ .. صار كالتيس لا يُحسن التصرف في الأمور. وهناك مثل آخر يضرب لمن يمارس الغباء فيما لا مجال له. تيس في سفينة.. هو الغبي الجاهل الذي يتعامل مع الأشياء بخلاف ما تقتضي. تماماً كالتيس وهو الحيوان محمولاً في البحر على ظهر سفينةٍ. كأن اللغة تتعجب استفهاماً: ما الذي أتي بهذا التيس إلى الماء أصلاً؟!، فليست صفحات المياه مجاله ولا بيئته. وكأن ممارسة(التتييس) في صفحات الواقع الإفتراضي كوجود التيس يتقافز غريباً على ظهر سفينة، حيث لا مكان ولا مبرر من صلب ما يوجد من سمات وعوالم وبيئات إفتراضية.

إنَّ قلب الفاء (الفيس) المُعربة  إلى تاء (التيس) هو قلب ثقافي بالدرجة الأولى. وذلك حين ينصب أحدهم نفسه كرأس مليئة بالشحم الفاسد والخرف ليُملي ويعبأ لاوعي الآخرين بالقمع والخزعبلات. إنها عملية تحويل التنوع الثقافي إلى (سلطة حيوانية) لا تفهم شيئاً فيما يخصها وتستعيد صورة من (بيولوجيا القطيع) في إطار افتراضي ليس لها من قريبٍ أو بعيدٍ. بكلمات أخرى يصبح الإنسان (حيواناً افتراضياً virtual animal) لا يختلف عن (التيس) في شيء بكل محمولاته الثقافية العميقة عبر بيئات رعويةٍ بالأساس. لتعبر اللغة بذلك الهاجس عن كونها حاملة لجوهر ما يتصرف به البعض التافه في الواقع الإفتراضي. لقد أحالت التاء إلى ممارسة العنف والإقصاء عبر (الوسائط التواصلية) فيما لا موضوع له ولا يمكن إخضاعه لقوانين الفعل ورد الفعل. أي ينقلب (اللقاء الإنساني الحر) إلى نطح الوجوه، وينقلب الوجه إلى قفا وأشواك، فيكون (الفيس بوك) مجرد صفحة بلا معالم، طلسم من فراغ مرعب دون أية معان إنسانية.

يتشكل هذا السلوك الافتراضي على أنحاء شتى يمارسها " التيس بوك":

1- مثل الحرص على مظهر العنف البصري والإكراه الإشاري وبث النرجسيات إزاء المتابعين من خلال المنشورات والمقولات.

2- الاستعمال الماكر للغة والعلامات ونسج شباك الخداع لاستدراج القارئ نحو ما يقول ويشير، منعاً لأن يفطن أحدهم لما يطرح.

3- تنصيب (التيس بوك) نفسه مرجعاً لما يقال ولما يطرح من أفكار وآراء وأشكال ثقافية أخرى.

4- إدعاء العلم والمعرفة في أي مجالٍّ، رغم أنَّ (التيس بوك) يتعثر في خطواته ولا يدرك سذاجة ما يقدم ويصُوغ.

5- المشاركة في تكوين القطيع الثقافي، فلا يكف (التيس بوك) عن أن يطلب من المتابعين والمتفاعلين التأمين على ما يتقيأ ليلاً أو نهاراً.

6- انتقاء العبارات التي تنال من وعي المتابعين وفهمهم كأنها شتائم متواصلة تحقيراً لهم.

7- تصدير مركب" الجبن والاستقواء"، لتعويض النقص الحاصل في شخصيته وحياته.

8- صناعة معارك وهمية مع (أيٍّ كان)، بحيث يكون الـ(أي كان) مجهولاً من جهة إشارته الحقيقية، حتى لا يعرف أحدٌ ما المقصود وراء ما يحدث؟!

9- إدعاء النجاح الساذج والانتصارات المزيفة دون أن يلتمس القارئ شيئاً من ذلك. فالمثل الشعبي يقول: " إن الغراب يعجن قشدةً، قيل كان ظهر ذلك على رجليه". فالغراب رجلاه سوداويتان، ولو أنه كان يعجن القشدة بالفعل، لكان لون الرجلين قد تغير إلى اللون الأبيض!!

10- إطلاق الشتائم والعداوة المتواصلة تجاه الآخر. أحياناً يتم ذلك من زاوية قريبة أمام أشياء وانحرافات معروفة، وأحياناً يتحول القبول الأول للمتابعين (أمام تلك الأوضاع  المعروفة) إلى حالات أخرى مستهدفة. أي يجر قبول المتابعين على شيء متفق عليه إلى أشياء هو يقصدها فقط (جر الحاضر على الغائب). وهذه متاجرة رخيصة وتلاعب وقح بحرية المتابعين وقدرتهم على استخدام العقل.

11- إثارة النعرات والفتن الجانبية دون طائل، ولا يمل كل (تيس بوك) من اللعب على هذا الوتر الحساس بين الأفراد والجماعات. وبخاصة أن المجتمعات العربية تعاني مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي من ظاهرة الغمز والمز والضرب على المناطق الرخوة لإحياء الكراهيات والعداوات بين الشعوب والأفراد.

12- بث التعصب والتشدد في المواقف مثل إثارة قضايا هل منمة الممكن الترحم على غير المسلمين أم لا؟ وهل بعض الرموز العلمية والإنسانية سيكون لها نصيب في الآخرة أم لا؟!

13- التنمر والتلصص الإفتراضي عن طريق ملاحقة الآخرين على أنهم محل مراقبة وملاحقة متواصلة.

في كل صفحة بالمواصفات المذكورة يتربص " تيس " بملء الكلمة، لا يدعك حراً ولا ينتظرك إلاَّ بمزيد من النطح المتواصل. ويحول ذاته المتضخم إلى " شيخ التيوس" الأكبر ولا يرضى بديلاً عن ذلك، إذ ينصِّب من وجوده مرشداً وقائماً على القطيع. وبطبيعة الحال يبدو مكتنز الشحم واللحم وحاد القرون وماكر النظرات ومتلقط الهمسات والحركات ويفتش وراء القراء والمتجولين أينما ذهبوا أو علَّقوا هنا أو هناك.

والسؤال الحيوي: هل هذه الظاهرة تعبر فلسفياً عن شيء آخر بجانب الممارسات المرضية؟ بالفعل هذا السلوك الإفتراضي امتداد لسلوك ينم عن العدوانية واقصاء الآخرين والتحقير من شأنهم. وقد وصل صاحبُها إلى عدم فهم الغاية من الوسائط التواصلية ولا إلى فلسفتها الإنسانية. ويفسر أيضاً لماذا يتكون العقل بصور قمعية مسوخة كنوع مع التكيف مع تقنيات العصر. والحالة برمتها تطرح، كيفية إفراز الثقافة العربية لمحدداتها العميقة وسط التطورات المتلاحقة في  مجالات التواصل بين البشر. ورغم أنها تمثل بعض المحددات السلبية، إلاّ أنها مهمة جداً لفهم وتطور التكنولوجيا في المستقبل، وتحثنا على ابداع صور تواصل جديدة تتوافق مع مضامين المعرفة والفلسفة الإنسانية بالدرجة الأولى.

الواقع الافتراضي أخطر تطور ممكن أنْ يشهده الخيال والفهم الإنساني في عالم يموج بالتنوع إلى أقصى مدى. إذ ليس يبلغ هذه التطور من يقف بعقله على أعتاب الماضي أو من يمارس إحتكاراً للحقيقية. فالواقع الإفتراضي يكسر فكرة الهيمنة بالأساس. ويبدو من يعيد تشغيلها مرةً أخرى كأنه كائن فقدَ ظله ولا يعيش الحاضر إلاَّ مجازاً. فالتكنولوجيا لم تخلق لهذا الغرض القميئ، بل هي تحرر الإنسان من ذاته حتى، إنها تجعله مادة ووسيطاً للتفكير المختلف. تدعوه لاحترام وتقدير الآخريم مهما يكن شأنهم.

الانفتاح على (الوُجود معاً) للإنسانية هو لون من الضرورة لا الإختيار العشوائي. ربما يقع الاختيار إزاء الآليات والإجراءات الافتراضية بحسب التفضيل والميول، لكن المفارقة أن هذا الإختيار يصبح إلزاماً مع تلقي معارف وأفكارٍ دون القدرة على إحتوائها، بل يستحيل الوقوف أمام تيار الاختلافات الجارف بين المتفاعلين. هذا الوضع المشهور بعبارة (الإنفجار المعلوماتي والتواصلي) المذهل والمعجز في الآن نفسه. إنَّ كل محاولات تدجينه واعادة انتاج نسخ مشوهة من أساليب القمع إنما هي محاولات بائسة لا تقتضي أكثر من الشفقة عليها.

ليس الفيس بوك facebook وسيلةَ قهرٍ ولا مكب نفاياتٍ ولا فناءً خلفياً للإختباء وراء الشعارات، لكنه (فضاء حُر)، يُعطي (حياةً ثريةً) للآخر طالما يجتذب انتباهه وعنايته بأريحية. إنه فضاء رحب للإلتقاء بوجُوه الآخرين المدهشة، وجه السعادة، وجه الأمل، وجه الحرية، وجه الرجاء، وجه السعادة، وجه الفكر، وجه الود، وجه التخيل، وجه المعرفة. كلُّ الوجوه لها الأشخاصُ القادرون على تجسيدها، فهؤلاء وأولئك وغيرهم .. يلتقون عبر أجورا agora الحوار والاختلاف. يطرح ويتلقى الواحدُ أشكال التنوع والتلاقح والتعدد، في الوقت الذي يقابله أناسٌ مُختلفون لا حصر لهم.

***

د. سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم