قضايا

الموت ووعي الحياة

محمد محفوظيبدو لي إننا جميعا أبناء هذا العصر، بحاجة دائما لأن نعي الحياة من خلال تطوير نظرتنا إلى الموت.لأن الإنسان الاستهلاكي الذي تريد الحضارة الحديثة أن تفرضه على الآخرين كنموذج يريد أن يعيش يومه ويمارس اللذة المادية لا الروحية، وأن يبحث باستمرار عن كل ما يعطيه هذه اللذة دون مراعاة للمحظورات والمحرمات.إنه أسير تحققه الدائم المادي اليومي والمطلق ولا يبحث عن تعويضات أخرى في أماكن أخرى أو عوالم أخرى. الحياة في هذا المنظور الحديث هي البحث عن المتعة وبأي ثمن.

والمجتمع الاستهلاكي كله مقاد بهذا البحث الدائب عن المتعة الجديدة واللذة الجديدة والمصلحة المادية الفردية الضيقة، هي مبدأ سير وعمل وتطور المجتمع، ويضطر الأفراد الذين أنهكتهم وتيرة البحث الدائم والسعي الذي لا يرحم للوصول واللحاق بأقصى نماذج الاستهلاك والمتعة والركض وراء المادة، والذين قرروا لذلك أن يعودوا إلى مفاهيم قناعية إلى هجرة المجتمع وتكوين ملل شبه دينية وتجمعات تبدو وكأنها يوتوبيات لا تلبث أن تزول وتنحل من تلقاء نفسها مع الزمن. ويشير الكاتب المعروف برهان غليون إلى مثل هذه التجمعات في كتابه "مجتمع النخبة" بقوله: نشأت في العالم الغربي حركات كثيرة حاولت أن تعود إلى حياة البساطة وصورة البدائي الجميل والسعيد راسخة في الذهن الغربي، ومرتبطة بالمشاعر التي تبعثها رؤية الطبيعة في النفس وتأمل انسجامها. لكن جميع هذه الحركات تظل جزئية وتعكس ردة ضد منظومة القيم المادية السائدة، أنهم يضطرون بسبب أفكارهم إلى الانعزال عن المجتمع والذهاب إلى الريف لبدء حياة رعوية وزراعية كما في القرون الوسطى، وهم في نظر المجتمع صورة مسلية لجنون جميل ولخلاص خيالي طوباوي.

فبدون الموت وعودة الروح إلى خالقها وبداية حياة الخلود في الجنة تصبح الحياة الدنيا لا معنى لها بقدر ما هي حياة فانية، حياة صراع وعمل وجهد ونزاع ومرض وقلق ومادة. كما أن الروح هي المفهوم المفتاح للعالم القديم، والمادة هي المفهوم المفتاح للعالم الحديث، فإن الموت هو سبيل تحرير الروح وخلاصها، وقدسيته من قدسية الروح.

وتذكر الموت وهضمه واستيعابه كحقيقة قائمة يؤثر في سلوك الإنسان، على موقفه من المجتمع

 ومن الطبيعة، ومن المادة، وبقدر تركز هذا الشعور والمعنى في العقل مع وجود الغرائز التي تدفع دائما بالإنسان إلى البحث عن إشباعها تصبح التربية ذاتها محاولة لإخضاع الذات وتقوية الإرادة والبحث عن التقشف والسيطرة على النفس.

فالنفس هي الغرائز والروح هي من أمر الله، أي شيء منه، والفشل في إخضاع النفس أي ارتكاب المعاصي، وهذا يؤدي في المحصلة النهائية إلى الشعور بالذنب تجاه الخالق، والشعور بالضعف ويدفع إلى طلب الغفران واللجوء من جديد إلى الله والتكفير لذنوبه بالعمل الصالح. بمعنى آخر، حتى المعصية والخطأ يجيران من جديد ويعاد استخدامها لصالح إعادة التكوين والتربية وعمل الخير من جديد. ولا يظهر الموت هنا كعدو للإنسان أنه بالعكس حسنة إذا كان في سبيل الله، وخلاص إذا جاء طبيعيا.

وما دام كل إنسان فانيا فكل شيء مادي دنيوي يفقد قيمته المطلقة، يصبح ذا قيمة نسبية فقط. والرؤية الإسلامية لحل التناقض بين الموت والحياة، وإدخال الموت في حياة الدنيا هي: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لأخرتك كأنك تموت غدا.

والذي يعيش أبدا يعمل ويسعى ويكافح كما لو لم يكن هناك موت، أي يعيش حياته بدون قلق ومخاوف ويعمل وينتج كما يجب، والذي يعرف أنه سيموت غدا يحاول في عمله ألا يسيء لأحد أو يقوم بذنب لن يستطيع التكفير عنه ربما في اليوم التالي.

يصبح الموت وفق هذه الرؤية عامل تنظيم للأخلاق الاجتماعية وكي يصبح كذلك لا بد من فهمهوتذكره واستيعابه بدون غضاضة. ولا بد من القول: إن المظاهر الباذخة والعظمة الدنيوية وعبادة القوة والتقديس المطلق والأعمى للمصلحة الشخصية، كل ذلك حين التأمل العميق محاولة بشرية للتعويض عن الخوف من الموت، بينما نظر الدين الاسلامي إلى الموت نظرة طبيعية، وجعله ضرورة للتعاون والحب والمساواة والصدقة والرحمة والأخلاق والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى. فالموت بوعيه والاستعداد الأمثل لاستقباله، هو المدخل الحقيقي والجوهري لوعي الحياة، لأن الموت هو الذي يغرس في نفوسنا مبدأ التضحية من أجل الآخرين. هو الذي يخلق الخلود.. أما المظاهر الأخرى فهي زائلة، ويبقى عمل المرء الذي يؤدي إلى خلوده في إحدى الدارين.

والموت ليس عدما، كما تدعي النظريات والمذاهب المادية التي تسعى للمساواة بين الموت والعدم، وإنما هو القنطرة الضرورية للعبور إلى الدار الآخرة.

وكثيرة هي الأمراض والأزمات، التي تعانيها المجتمعات التي تساوي بين الموت والعدم، لذلك كله نستطيع القول: إن الموت هو طريق وعي الحياة ورحيل أعزائنا وأصدقائنا ومعارفنا إلى دار الخلود، ينبغي أن نقرأه بعمق، حتى يتسنى لنا تصحيح مسارنا في هذه الحياة، وحتى نرصد نقاط النور في حياة الراحلين لكي نكشفها في حياتنا، ونكون نحن بالتزامنا بها سببا في بقاء نقاط الضوء والنور في حياة الإنسان والمجتمع.

وإننا نستطيع القول: إن وعي الحياة وفق المنظور الأنف الذكر، يساهم بشكل كبير على المستوى الثقافي والمعرفي في تكثيف اللحظة التاريخية، وتراكم الجهد المعرفي، والاستفادة القصوى من الوقت، والشهود الحضاري على الراهن. وذلك لأن الإنسان الذي يشعر أن وجوده في هذه الحياة الدنيا مؤقتا، وأن هناك حياة أخرى أبدية فإنه سيسعى بكل جهده وإمكاناته إلى استثمار كل لحظة في حياته في سبيل البناء والعمران الحضاري. لذلك فإن وعي الحياة، هو الذي وفر الاستعداد النفسي والعقلي للانطلاق في رحاب العالم تنمية وبناء وعمرانا وشهودا على جميع المستويات والحقول.

وبهذا تتأسس كل مكونات تحمل المسئولية بكل مستوياتها وأشكالها. والمثقف المبدع هو ذلك الإنسان الذي يتمكن من تحويل صعوباته، إلى مادة ثرية للإبداع الثقافي والأدبي. فلا إبداع بدون قدرة نفسية ورحابة عقلية ووعي ناضج بالحياة ومتطلباتها.

والمبدع دائما يعلمنا درسا عميقا في ضرورة عدم الخضوع إلى الضغوطات مهما كان شكلها، وتجاوز المحن النفسية والاجتماعية والجسدية بالهروب إلى الأمام. وذلك لأن التراجع إلى الوراء الضغوطات، ويكرس المحن، ولا حل لذلك إلا بالخطوات النوعية إلى الأمام، التي تحيل الواقع الصعب إلى مصدر إلى الإبداع والإنتاج. كما أن المثقف المبدع هو ذلك الإنسان الذي يدفع ثمن تعلقه وعشقه للعلم والمعرفة من وقته وجهده، ويتخلى عن الكثير من سفاسف الأمور من أجل قضيته الكبرى وهي قضية العلم والإبداع.

وإننا نرى أن بداية القلق المعرفي، الذي هو أحد شروط الإبداع هو وعي الحياة بشكل عميق والتعامل معها على أساس أنها فرصة ينبغي استثمارها وملئها بالأعمال الجادة والأنشطة النوعية.

والعظماء في كل المجالات هم الذين لم يخضعوا سلبا لظروفهم الصعبة، وإنما تعاملوا معها تعاملا إيجابيا، حفزهم على مضاعفة جهودهم وتكثيف إنتاجهم ومسابقة أ الزمن الذي يعيشونه . كان بإمكانهم أن يتذرعوا بالمرض أو شظف العيش أو صعوبات الحياة، وأنها السبب الذي يحول دون الكتابة الثقافية والإبداعية، وستصبح هذه الذريعة بنظر الجميع مقبولة. ولكن أبوا ذلك، وعملوا بجد واجتهاد لمقاومة كل الصعوبات والتحديات وواصلوا الكتابة والإبداع. وأضحوا أنموذجا يقتدى به في طريق مقاومة الصعاب ومجابهة مشاكل الحياة التي تحول دون التواصل الثقافي والإبداع المعرفي والأدبي.

فالمثقف الجاد ليس هو فقط الذي يكتب نصا جادا، وإنما هو ذلك الإنسان الذي يتمكن بإصراره وعزيمته وإرادته أن يتجاوز كل الصعاب من أجل العلم والمعرفة. والتجاوز يعني في أحد صوره وأشكاله التكيف الإيجابي مع الصعاب. بمعنى أن يواصل المثقف العطاء والإنتاج وهو يعيش في ظروف صعبة .وكثير من المثقفين استطاعوا بإرادتهم وعزيمتهم وتصميمهم أن يحولوا أمراضهم إلى فرصة مواتيةونموذجية للبحث والقراءة الجادة والإنتاج الثقافي والإبداع الأدبي. فلم يخضعوا للظروف الصعبة، ويبرروا تقاعسهم وكسلهم بها، وإنما حاولوا أن يتغلبوا على ظروفهم الصعبة، ويبرروا تقاعسهم وكسلهم بها، وإنما حاولوا أن يتغلبوا على ظروفهم الصعبة بالمزيد من الإنتاج والإبداع. وحري بنا نحن كمثقفين وأدباء، أن نتعلم كيف نحارب التبرير، ونقاوم الإحباطات، بالمزيد من الإنتاج والإبداع.

فالعمل مع الأفكار والقناعات والوقائع، هو طريقنا لإنهاء حالة التبرير التي هي أرضية الفساد في كل شيء.

فالمثقف اليوم بحاجة أن يعيد النظر في طريقة تعامله مع أفكاره وقناعاته والوقائع المحيطة به، حتى يطرد من نفسه وفكره كل عناصر التبرير التي تحيله إلى كائن سلبي، لا يقدر على فعل شيء، ولا يمتلك القدرة على المبادرة.

ولا بد أن ندرك في هذا الإطار: أن القلق المعرفي، والاستعداد التام لدفع ثمنه من الوقت والجهد والفعل، هو الذي يوفر للمثقف القدرة على العطاء المتميز والعمل المبدع. فالمبدع يحيا بالكتابة، ويقاوم آلامه بالإبداع، ويقهر الظروف ويقفز على التحديات بالمزيد من الكتابة والمعرفة والإبداع.

فليسع كل مثقف وأديب إلى تجاوز محنه وصعابه، بالمزيد من الإبداع والإنتاج المعرفي والأدبي.

ولنتذكر جميعا أن قيمة كل امرئ ما يحسنه، وأن الشرف بالهمم العالية لا الرسم البالية..

وفي السياق الاجتماعي نستطيع القول: حين تفقد الأمة (أية أمة) شخصيتها فليس بينها وبين نهايتها إلا خطوة واحدة، وإن شخصية الأمة هي روحها الجماعية التي يستوحي منها كل فرد من أبنائها العزيمة والأمل حين يعشق الفلاح أرضه التي يحرثها ويداعبها حتى تخضر وتنتج، فهو لا يحب التراب كمادة جامدة، بل كرمز للأمة التي عاشت ولا تزال عليها. وحين يتعامل العامل مع آلات مصنعه، وينسجم معها كأنه في جوقة موسيقية، فإنه لا يتعامل مع الحديد، إنما مع البشر الذين سوف ينتفعون منها. إن حبلا قويا يشد هؤلاء وغيرهم إلى بعضهم، وروحا واحدة تجمع قلوبهم وتضيئها بقنديل الأمل. ولكن إذا ضاعت شخصية الأمة، ولم يعد يشعر أبناؤها بالروح الواحدة التي تجمعهم، فإن كل واحد سيتخذ طريقا مختلفا، وسيشعر الجميع بالضعف والعجز والهزيمة.

والسؤال: ما هي شخصية الأمة وبأي شيء تتكون؟

الجواب: إن وحدة القيم والثقافة، والاشتراك في الهدف والتاريخ، هي حدود شخصية الأمة. فمن دون الثقافة ذات القيم السامية، التي يؤمن بها الجميع إيمانا راسخا يبعثهم على العطاء من أجلها والتضحية لها، يسقط الجدار المعنوي لبناء الأمة. ومن دون الهدف، ذي التجربة التاريخية، الذي يكون نقطة ارتكاز لنشاطات الأمة، ينهار الجدار المادي لبناء الأمة.

لهذا كله ومن أجل أن تشارك الأديان في بناء الإنسان وتهذيب نوازعه، من الضروري التأكيد على أصالة القيم ونعني بها ترسيخ الإيمان والحق والحرية والعدالة الاجتماعية.

إننا نخسر كثيرا بتخلفنا الذي دام أكثر من اللازم، وليس من المعقول الاستمرار فيه. ولكن، كيف نفتح أبواب الحضارة على أنفسنا؟

في تقديري إن أية حضارة لا تبدأ إلا بتكامل عاملين: العقل والروح، الفكر والإرادة وبالتالي العلم والإيمان.

والإيمان بوحده لا يكفي، إنه كطائر بجناح واحد، كرجل يملك القوة، يملك الرجل واليد والنشاط، ولكنه لا يملك العين. لهذا فإننا جميعا حينما نحكم العقل والمنطق السليم، يسهل علينا التعاون والمشاركة الفعالة في بناء الإنسان. الأمر الذي قد يتيح للشعوب المستضعفة أن تكتشف في الدين الحركي معنى الحرية والعدالة، فتلتقي بالإيمان به من خلال جهاده السياسي في خط المواجهة للظلم العالمي كله، ليقف المسلم ضد المستكبر حتى لو كان مسلما، ويقف المسيحي ضده حتى لو كان مسيحيا، فذلك هو الذي يمثل اختصار المسافة الطويلة للوصول إلى عقل المستضعف، لأن الكثيرين من الناس يفهمون الإيمان من خلال المشكلة التي يتخبطون فيها أكثر مما يفهمونه من خلال المفردات اللاهوتية التييفكرون فيها، لأن أقرب طريق إلى عقل الإنسان قلبه، كما أن أقرب الطرق إلى القلب قضاياه وحاجاته الطبيعية الملحة في الحياة.

وبناء الإنسان بحاجة بشكل مستديم إلى قيم ومبادئ، تزيل ركام الجمود والانحطاط، وتحفز قيم الخير والفعالية، وتبرز البعد الإنساني بكل تجلياته في حياة الإنسان. ولعل هذا هو الدور والوظيفة الأولى التي يقوم بها الدين في مشروع بناء الإنسان.

ومهمتنا جميعا ومن موقع إيماننا الديني، أن ننفتح على قضايا الحرية والعدالة والمساواة للإنسان، ونتحرك بمحاولات ومبادرات مستديمة للوصول إلى الكلمة السواء في كل القضايا التي تهم الإنسان واستقرار وسعادة البشرية جمعاء، ولنحفز الفضاء الإنساني بأسره صوب المزيد من الانفتاح على ما لدى كل منا من قيم روحية وأخلاقية وإيمانية مشتركة.

ثمة حقيقة أساسية ينبغي أن ننطلق منها في هذا السياق وهي: أن بناء الإنسان وتنمية مداركه ومواهبه، لا يمكن أن يتم إلا بتنمية دوافع الخير والصلاح والمحبة في نفس الإنسان. فالإنسان الذي يمتلئ قلبه محبة للناس هو الذي يمارس فعل الخير والتنمية في الفضاء الإنساني، والإنسان الذي يختزن في عقله قيم الحوار والالتزام، هو الذي يح و ل حياته إلى شعلة من النشاط والحيوية بما يفيد الإنسان الفرد والجماعة.

والدين بما هو منظومة قيمية وأخلاقية وإيمانية، هو الذي ينمي في الإنسان دوافع الخير والصلاح، ويدفعه نحو تجسيد هذه القيم في الواقع الخارجي. لذلك فبمقدار تمكن قيم الإيمان من نفس الإنسان، بذات القدر يمارس الخير والمحبة للجميع. فالإيمان ليس هروبا من الحياة أو انزواءً وانكفاءً عن قضايا الإنسان والتزاماته المتعددة بل هو حركة في العقل.

فكل ما في الوجود لا بد من أن يكون للعقل دور في رصده، وإن لم يملك هذا الأخير وسائل البحث في بعض امتداداته، فالوجود لا بد أن يكون عقلانيا، وإن كان العقل لا يتمتع بالقدرة على معالجة ما في داخله من مفردات وتعقيدات تخرج عن دائرة الحس والمألوف. فنحن ندرك الله بالعقل، ولكننا لا نملك الوسيلة للبحث في ذات الله.. في البرهان الديني نحن نرصد الغيب بالعقل حقيقة ووجودا، ولكننا لا نعرف ما وراءه وكنه وجوده، تماما كما هي الفلسفة، قد لا تستطيع من خلالها معرفة كنه الجوهر، ولكنك تستطيع أن تشير إليه.

فالإنسان مؤمن بما يعقل، وعلى هذا الأساس كان لا بد له من خوض تجربة الشك، من أجل الوصول إلى اليقين، وذلك يتطلب رحلة طويلة في عالم الصراع الفكري الداخلي، حيث تتجاذب الإنسان الاهتزازات من خلال تناقض الاحتمالات، وتضاد الأفكار، وتعارض الاتجاهات، التي تتم مناقشتها وجدانيا وعقليا بكل موضوعية وانفتاح، ليعرف الحق من الباطل، وينتقل من الجهل إلى العلم. ويقول تبارك وتعالى: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) (سورة آل عمران، الآية-191).

وقال عز من قائل: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير (العنكبوت-20).

فالتفكير والتأمل في ظواهر الكون ومتغيراته وأسرار الإنسان وخباياه، هو الذي يقود إلى تعميق مفهوم الإيمان في نفس الإنسان. وبذلك يتحول الدين والإيمان بقيمه ومبادئه ونظمه، حافزا للعمل والبناء والعمران. لذلك نجد أن آيات الذكر الحكيم تحث وتحض على التفكير والتأمل حتى يتحرر الإنسان من كل القيود والضغوطات. إذ قال رب العزة: (قل إنما أعظكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد( سبأ-46).

وفي ذات الوقت هدد القرآن الحكيم أولئك النفر الذي يحتكرون المعرفة ويكتمون ما أنزل الله من البيناتباللعنة الإلهية. إذ يقول تبارك وتعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) (البقرة-159).

ونبذ احتكار المعرفة بوحده لا يكفي من أجل خلق الشروط الضرورية لبناء الإنسان على أسس الإيمان والحرية والعلم. لذلك يؤكد القرآن الحكيم في العديد من آياته على قوة العلم وسلطان الحجة. فالجدال ليس هدفا بذاته، لذلك من المهم أن يستند إلى قوة العلم والحجة والبرهان. يقول تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) (الحج-8).

وبهذا تتأسس كل شروط ومرتكزات البناء السليم للإنسان. فمشروع البناء الحقيقي للإنسان، يبدأ من نبذ احتكار المعرفة وكتمان الحق، وحث العارفين والعلماء بنشر العلم والمعرفة وتعميمهما والاحتكام الدائم إلى الحجة والبرهان والخروج من كل دوائر الجدل الذي يبتعد عن الحقائق أو لا يستهدف الوصول إليها. وتوج الباري عز وجل كل هذه القيم والمرتكزات بضرورة اتباع أسلوب اللين والكلمة الطيبة والطرق المرنة التي تفتح القلوب على الحق وتقرب الأفكار إلى دائرة مفاهيمه وأحكامه. إذ يقول تعالى) ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين * ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (فصلت، 33- 35).

فالأساليب العنفية والانفعالية في التعامل مع الآخرين، ليست من الإسلام في شيء، وهي أساليب تهدم ولا تبني. ووظيفة الأديان في عمليات البناء الإنساني، تنطلق حينما يتحرر الإنسان من كل أساليب العنف والنبذ والإلغاء التي قد يستخدمها البعض باسم الدين.

وعلى هذى ما قيل أعلاه، سواء في المستوى الفردي، أو السياق الاجتماعي، نصل إلى حقيقة جوهرية في حياة الإنسان الفرد والجماعة. وهي أن وعي الحياة، لا يمكن أن يتحقق على الصعيد الجوهري، بدون معرفة الموت واستيعابه كحقيقة خالدة. وتبقى رؤية "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا" هي البوصلة، وهي ميزان الرؤية، ورافعة وجودنا صوب البناء والعمران والازدهار والتمتع بخيرات الأرض.

والخوف من الموت حالة طبيعية في حياة الإنسان، وذلك لأنه انتقال من عالم عايشه وألفه وفيه معاشه ومصالحه وأحباؤه، إلى عالم آخر، يستند وضعه فيه إلى طبيعة حياته وخياراته فيها.

ولكن هذا الخوف الطبيعي، قد يتحول إلى رهاب ومرض حقيقي، يصيب الإنسان فيتحول فيه الموت من قنطرة إلى الدار الآخرة، إلى عدم، فيتشبث الإنسان بكل ما يملك من أجل الخلود في هذه الدنيا، ويتحول فيه الموت إلى رهاب، يؤرق حياته، ويدخله في أتون صراعات نفسية وعقلية، تزيد من ورطة الإنسان.

ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول: إن بعض النظريات العلموية والمادية والعقلانية الصرفة، هي محاولة في أحد جوانبها لإنهاء هذا الرهاب. ولكن ومن خلال التجربة العملية يمكن القول: إنه حتى النظريات العلموية، والتي تقدس المحسوس، وتبالغ في الخضوع إلى مقتضياته ومتطلباته، لم تتمكن على المستوى العملي من إنهاء مشكلة رهاب الموت. ولقد اعتبر (ميشيل غوشيه) أنه زال الزمن الذي كان يعتبر فيه الدين ترجمة عقلية للعجز وللجوء الإنسان العاري والمجرد تماما والفاقد للتأثير على طبيعة مسحوقة إلى ما يعينه، ليحل محله زمن أصبح فيه الدين ترجمة عاطفية تتيح التغلب على قوته - الزمن - القصوى ورغبة تخيلية في التخلص من المخاطر التي ينطوي عليها دون إنتاج الميكانيزمات التي تسمح بتصحيح مسارها. فالعلم لا ينهي هذه المشكلة ولم يحل اللغز، وهو أكثر استفهاما عن نفسه وأكثر وعيا لحدوده، إنه يقطع المعرفة ويتوصل إلى تعقيد يجبره على استكشاف دائم أو أقل اكتمالا .

ولقد أعاد (جاكوب) للتدليل منذ زمن قريب على ما هو خارج العلم، على ضرورة تقديم رؤية للعالم وتأسيس معنى وإنتاج أخلاق، وعلى أن سحر التقنية يقلق ما تكتسبه من قوة متزايدة تتراكم على الدوام، وبفعل عدم القدرة على احتوائها وتقييدها بحدود وظهورها كما لو أنها متعهدة لا مبالاة بالأخطار التيتكثرها، وبفعل اندفاعها بآلة عمياء ربما يستطيع مآلها الكارثي أن يستحوذ.

ويبدو أن الدين والإيمان، هما القادران وحدهما على إنهاء هذه المعضلة. وقدرة الإيمان لإنهاء هذه المعضلة، تتم عن طريق الاستعداد النفسي والسلوكي للحياة الخالدة، وعن طريق إعادة صياغة رؤيتنا للموت. فهو ليس نهاية المطاف أو العدم المطلق. وإنما هو القنطرة الوحيدة للانتقال من عالم إلى آخر، ومن حياة لأخرى.

والتجلي الإيماني على الصعيدين النفسي والسلوكي هو الذي ينهي حالة الرهاب، ويبعث الاطمئنان واليقين. يقول تبارك وتعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).

فالإيمان الذي يهذب النفس وأطماعها ونزواتها، ويوجه صاحبه نحو العمل الصالح والعظيم من الأمور التي تفيد الإنسان حاضرا ومستقبلا، وينهي حالة الفصام النكد بين الظاهر والباطن، ويفتح للإنسان آفاقا رحبة على أكثر من صعيد ومستوى. أقول إن هذا الإيمان، هو القادر على الإجابة على أسئلة الإنسان الوجودية، وهو الذي يضبط مخاوفه وهواجسه، ويجعل بحق دنياه مزرعة للآخرة.. وإن محاولات التفلت من الإيمان وحقائقه، لا تجيب على هذه الأسئلة الحائرة، بل تزيدها حضورا وضغطا على نفس وعقل الإنسان.. لهذا كله فإن تجسيد قيم الإيمان في واقع الإنسان الخاص والعام، هو الذي يؤسس الوعي المطلوب، للتعامل مع حقيقة الموت بوصف الوعي بها )هذه الحقيقة( هو طريقة الوعي بشروط الحياة الصحيحة والسليمة. ففعالية الإيمان على صعيد النفس والسلوك، هي التي تنهي حالة الرهاب لدى الإنسان من مرحلة الموت وما بعده.

***

محمد محفوظ

 

في المثقف اليوم