قضايا

أن تملك أو أن تكون

درصاف بندحرأحيانا تقرأ كتابا فيساعدك في حسم كثير من الأفكار العالقة .. أحيانا يكون الكتاب صديقا لك بل يمكن أن يعوضك عن الصديق الذي تحتاجه لتسمع منه ولا تجده..

في هذا، يعد كتاب عالم النفس والفيلسوف "إريك فروم" (1900-1980) Éric Fromm "الإنسان بين الجوهر والمظهر"* من الكتب التي تجعلك تشعر بالطمأنينة حتى لو كان كل ما حولك يبعث على القلق والريبة. أن تطمئن هو أن تعي بنفسك وتعي بالوجود من حولك..أن تفهم.

تقوم فكرة الكتاب على التفريق بين نمطين من أنماط الشخصية: نمط التملُّك، ونمط الكينونة.**

المجتمع عند فروم يتصارعه نمطان للعيش.

نمط يقوم على "التملك"حيث الاستهلاك والاكتناز والرغبة في الاستحواذ وامتلاك الأشياء، وكذلك الرغبة في الشهرة والسلطة والسيطرة على الآخرين.

ونمط آخر هو نمط “الكينونة” أوالوجود حيث اهتمام الإنسان بعلاقته مع الآخر وسعيه إلى الارتقاء أخلاقيًّا وروحيًّا..حيث الحب والإيثار والعطاء.

يقول فروم "في نمط التملُّك لا توجد عَلاقة حية بيني وبين ما أملك فأنا وما أملك أصبحنا جميعًا أشياء، وأنا أملكها لأن لدي القوة التي تمكِّنني من جعلها ملكي. ولكن ثمة عَلاقة عكسية أيضًا، فهي أيضًا تملكني لأن إحساسي بهويتي ... يتوقف على ملكيتي لها (ولأكبر عدد ممكن من الأشياء)..."

اليوم، أصبحنا نلاحط أنه كلما زادت ممتلكات الفرد، زادت مكانته وارتفع قدره بين الناس. أصبحت قيمة الأنسان تساوي قيمة ما يملك. وهذا النمط قي التفكير لا يقتصر على الأغنياء، بل يمتد حتى إلى أفقر الفقراء، ما دامت تسيطر على هؤلاء الرغبةُ في التملُّك، وتغلب عليهم متعة الاقتناء وزيادة الممتلكات. في هذا النمط لا يتوقف التملُّك على ملكية الأموال والأشياء، بل يمتد إلى تملُّك الأشخاص.

يضيف فروم "ففي المجتمعات الأبوية يمكن لأتعس الرجال في أفقر الطبقات أن يكون ذي ملكية، وذلك في عَلاقته بزوجته وأطفاله وحيواناته، حيث يمكن أن يشعر بأنه السيد بلا منازع...".

سيد حتى وإن لم يكن لديه أي من مقومات السيادة.

إن التوجه نحو "التملك" غذى الرغبة المهووسة في المال، والشهرة، والقوة التي أصبحت تسيطر على الحياة.

استنادا على نظرية التملك أصبح تحقيق اللذة والسعي وراءها هو الهدف الوحيد للإنسان. كذلك السعيُ إلى المصلحة الشخصية بشكلٍ أنانيّ أضحت الميزة التي تجعل من الفرد نموذجا يحتذى به في فهم الحياة، حياة المظاهر التي باطنها خواء.

فهل أن سعادة الإنسان تحققت فعلا وهو يتوجه بكليته نحو الاستهلاك؟

يقول فروم: "إن نمط الملكية لا يقوم على صيرورة حية ومثمرة بين الذات والموضوع، وإنما هي عَلاقة تجعل من الذات والموضوع أشياء والعلاقة بينهما علاقة موات، وليست علاقة حياة. "

نفهم من هذا أن اقتناء الأشياء عندما يكون هدفا أوحدا في الحياة لا يحقق سعادة الإنسان.

في مقابل نمط التملك يستعرض أريك فروم نمط الكينونة.

إن أسلوب الكينونة يكمن في عدم اشتهاء امتلاك الأشياء لغاية امتلاكها، حيث لا ينفع الإنسان أن يربح كل شيء مادي ويفقد نفسه.

حسب هذه النظرية الهدف من الحياة ليس العمل على امتلاك الأشياء، بل العمل على تحقيق الكينونة.

إن الفارق بين نمط الكينونة ونمط التملك عند فروم، هو: "الفارق بين مجتمع محوره الأساسي الناس، وآخر محوره الأساسي الأشياء".

إن نمط الكينونة يرتكز على النشاط، وليس المقصود بالنشاط هنا مجرد الانشغال الخارجي، بل الأهم من ذلك ألا وهو النشاط الداخلي الذي يتجلى في العطاء، والنمو الداخلي، والتعبير عن المواهب، والاستخدام المثمر للطاقة.

مثال ذلك قد يدرس الطالب في كليته، أو يذهب الموظف إلى عمله تدفعهما قوى خارجية كضغط الأسرة أو المجتمع، أو اتِّباع ما هو سائد، شأنهما شأن السجينُ أو العبد. هذا مجرد انشغال عاري عن أي رغبة أو طاقة داخلية.

في كتابه يضرب فروم مثالًا على مفهومي الكينونة والتملُّك من خلال بالتعبيرات الشعرية الواردة عن اثنين من الشعراء، أحدهما الشاعر الإنجليزي “تينسون” الذي يقول:

"يا زهرة في جدار متصدِّع،

إني أنتزعك من بين الشقوق،

وأقبض عليكِ،

هنا في يدي بجذورك وكيانك كله”.

أما الشاعر لآخر فهو الياباني “باشو” الذي، يقول:

"وإذ أنظر وأمعن النظر،

أرى "النازونا"*** مزدهرة في سياج النباتات"...

بالنظر إلى التعبيرات الشعرية عند "تينسون" نجد أنها تتحدث عن أسلوب "التملك" فردة فعله تجاه الزهرة هو الرغبة في امتلاكها واقتلاعها من جذورها وكيانها. في المقابل ، ردة فعل "باشو" تجاه الزهرة يعد تعبيرا واضحا عن أسلوب "الكينونة" فهو لا يمتنع عن قطفها وحسب، بل لا يمسها بيده، فلا يرغب في ملكيتها، وكل ما يفعله هو إمعان النظر فيها، مبتهجًا بجمالها.

هل سعادتنا تتحقق عند اقتلاع الزهرة ووضعها في مزهرية على الطاولة داخل منزلنا أم هي تكمن في متعة النظر إليها، في مكانها الطبيعي؟

يلاحظ فروم عند التأمل في اللغة المستعملة اليوم ميلا نحو إحلال أسماء محل أفعال.عندما أقول: "لدي حب كبير لك" فهذا التعبير فارغ من الدلالة. إذ ليس الحب موضوعا يمكن أن نتملكه، بل هو عمليـة، نشاط داخلي أنا هو ذاته الفاعلة.

في هذا يقول الفيلسوف الألماني"مارتن هايدقر" (1889 -1976) أن" العلاقة بين الإنسان والعالم ليست مجرد علاقة بين موجودين كائنين في المكان أو مجرد صلة بين ذات وموضوع وإنما هي علاقة وجودية قِوامها الشعور بالاهتمام."

في عصرنا حيث طغت المادة على الوجود غابت القيم الإنسانية فأصبح الإنسان يسعى بلا هوادة إلى التملك، تملك الأشياء كما الأشخاص. حتى الحب بين الناس طغت عليه نظرية الملكية.

نسي الإنسان أنه يمكن أن يكون محبّا، لكن ليس لديه شيء.

في الواقع كلما امتلك أقل، كلما استطاع أن يحب، ربما أن يحب أكثر.

***

درصاف بندحر - تونس

.................

المراجع:

- الفلسفة، الهوية والذات" مارتن هايدجر"، ترجمة الدكتور محمد مزيان.

- "الإنسان بين الجوهر والمظهر" إريك فروم.

-الهوامش:

* العنوان الأجنبي للكتاب To have or to be: أن تملك أو أن تكون

** تعرف الفلسفة الحديثة الكَيْنُونَة بما هي الحياة، الوجود. تجد الكينونة تعبيرا لها في مختلف نواحي الحياة: التكلم، التفكير، الشعور.

*** النازونا: زهرة متقاطعة بلون السماء.

في المثقف اليوم