قضايا

مستنقعات وأوحال العبودية.. بوابات الانحطاط

مهدي الصافينعتقد ان الفسلفة والفكر لاتولد من القراءة والمطالعة، ولا من ادوات كسب المعرفة، انما هو عالم ما بعد الاساطير والتاريخ والحضارات والاديان، هو العلم الرياضي الكوني للعقل والفهم والتأمل والادراك، يمتزج مع مايسمى الالهام بالفطرة، فينتج للبشرية فلاسفة ومفكرين وعلماء الخ.

بينما الثقافة معرفة مكتسبة تعتمد على الانجازات والابداعات العلمية والفكرية المتواصلة مع تطور الحياة الطبيعي، سواء كانت سنن كونية او صيرورة...

عدم التمييز بين الفكر والثقافة يجعل واقع اية امة او شعب مشوها، ولديه ضبابية كثيفة في تعريف الهويات المرنة (غير المغلقة على الخصوصيات الدينية او الاثنية، اي المقصود بها هوية المجتمع او الدولة والوطن المتحضر)،

لان الفكر يصنع اساس منظومة القيم او مرجعية الامة الاخلاقية والثقافية والاجتماعية والسياسية، بينما الثقافة هي التربية والتعليم وكل ادوات المعرفة المتغيرة مع الزمن نحو الافضل، فالحضارة التكنولوجية او الالكترونية الفضائية تدفع بالامم والشعوب الى الامام بقوة، ومن يتعذر عليه اللحاق بهذا الركب الكوني الفائق السرعة يسقط في المستنقعات والاوحال الاسنة، ويتراجع الى الوراء ايضا بقوة عكسية هائلة، ولن يتمكن الخروج منها الا بمعجزة...

البيئة والهويات البدائية، والموروث والنفاق والانتهازية والفساد،  والنظريات الاقتصادية الرأسمالية الخاطئة،  وجشع المصالح والمنافع الشخصية وعوامل اخرى،  تلعب دورا محوريا في السيطرة على تلك المستنقعات، بعض هذه الانتكاسات ذاتي، واخر قادم من خارج الحدود، بمعنى ان هناك امم او دول وقوى عظمى تعتقد ان من الحضارة تطبيق مفهوم بسط السيطرة والهيمنة والنفوذ على مقدرات وحياة الامم والدولة الضعيفة، مما يعطي لوحة واسعة للبؤوس والشقاء، يمكن تخيلها وجدانيا وتعبيريا في صورة كبيرة بحجم الالم ومعاناة الشعوب المضطهدة والمقهورة، فيها تفاصيل التقسيم الارضي بين القوي والضعيف ومابينهما من متوسطي القوة، هناك تقبع المجتمعات الفاشلة في اودية سحيقة معدة سلفا ومخصصة لهم، تحيط بهم من كل جانب

المرتفعات والجبال الشاهقة،  يقف على القمة اسياد الارض، وهم يدخنون سجائرهم الغالية الثمن، وينظرون الى ساعاتهم الفاخرة، والى افق الحياة المغلق على ضحاياهم، انه عالم التفاهات والانحطاط،

لماذا يقبل الناس بالكذب والتدليس، والتفاعل بسذاجة مع ثقافة القبول بسياسة الامر الواقع، وازدواجية المعايير؟

العبودية مفهوم سماوي ارضي، اخضع بمرور الزمن الى عبودية الطاغوت، فأصبح مفهوم غيبي ارضي، اي ان الانسان ولد مع فطرة وجود الخالق، فجاءت الهة الاساطير وظهرت بعدها الاديان السماوية، فاختلفت فيما بينها حول تعريف الاله الواجب الطاعة والعبودية، ثم ظهر مانطلق عليه بالاديان الشعبية، فتحولت سلطة العبودية المطلقة العليا الى سلطة دنيوية بيد زعماء الاديان والطوائف والاثنيات.

 (قد يرد سؤال حول الاثنيات وكيف اصبحت سلطة دينية، المجتمعات الخاضعة لسلطة التراث الديني تتعود على عبودية الموروث، تتحول كل مسيرة حياتهم الى شروط واملاءات عرفية، وتتحرك بين خطوط حمراء او حدود فاصلة بين الحلال والحرام او المسموح والممنوع،

فتتوسع دائرة التقديس عندهم،  لتشمل بقية الاعتبارات القبلية والعشائرية والعرقية، وكأنهم يعودون الى عصور الاساطير القديمة والقرى البدائية الخ.)، وهي من اقوى السلطات عبر التأريخ، تتضاعف قوتها تبعا للظروف السيئة المحيطة بالمجتمعات او الشعوب المضطربة، التي تعاني لفترات طويلة من اثار عدم الانسجام الاجتماعي، وغياب الوحدة الوطنية المدنية الحديثة، والمهمة في بناء اي دولة ناجحة، مما يجعلها ساحة للصراع والتنافس المحلي والاقليمي والدولي (ساحة لمافيات الفساد)..

الامم والشعوب التي هربت بعيدا بعد الحرب العالمية الثانية عن تلك الاوحال، هي لم تكن بلا اسس فلسفية او فكرية متحررة من عبودية السلطات التقليدية المتوارثة، ولكنها لم تستكمل مرحلة او مشوار الحضارة الانسانية، ولازالت بالفعل بحاجة الى عقود وقرون طويلة حتى تنتقل من الحضارة العلمية ومفهوم الانسنة الاكاديمي او الثقافي الى الحضارة الانسانية العملية الشاملة، التي ترفض الانحطاط والفساد والحروب والدكتاتورية وسلطة رأس المال الخ.

بلاد الشرق او بلادنا العربية لاتملك اسس وقواعد حديدية ثابت لمنظومة القيم الحضارية الحديثة، وهي تراوح عند منطقة الاستقطاب، والتلقي والكسب الخارجي للمعرفة، وتدور في فلك الصراعات الطائفية والعرقية والقبيلة، لم تتخلى كليا عن فكرة الاستحضار التاريخي للمعرفة البدائية (الموروث، الحكم والامثال الشعبية، الروايات وقصص الجاهلية والماضي السحيق، التربية البدوية للاسرة، النظرة الدونية للمرأة، ذكورية المجتمع والشارع، الدين والطائفية الشعبية وهي اقوال رجال الدين والمذاهب والفرق، الخ.)، فهناك قوتان مدمرتان لهذه البلدان، يصعب الانفكاك منها او مواجهتها بالطرق الثقافية المعتادة، هما القوة الدينية والقبلية العشائرية، وهي طبيعة استبدادية ابوية متحجرة، تقترب وتبتعد من السلطة حسب الواقع المتاح امامها، وكأنها قوة تربص دائمة، تستغل الانتكاسات والانكسارات والاخفاقات السياسية، وضعف السلطات الرسمية الدستورية والامنية، فتندفع بقوة نحو مراكز السلطة الجديدة والاندساس معها، للانقضاض على الفريسة (الغنائم والفرهود) اي على كيان الدولة، للتفرد بالمناصب والموارد والثروات، فهؤلاء طائفة اجتماعية لاتؤمن بحدود الدولة الوطنية، انما بالحدود الخاصة بها، وفق التصورات والاعتبارات والعقائد (هناك عقائد دينية او اثنية او حتى قبلية، مع انها متفاوتة احيانا من حيث التقديس) الموروثة المكونة لها، وهي طبيعة قروية همجية التفكير والطموح، لاتؤمن بضرورة العمل الجماعي العقلاني التكاملي،  لضمان الامن والاستقرار، ولابقاء عجلة التنمية الشاملة على الطريق الصحيح...

العبودية لاتعني انها تمثل ثقافة الاستسلام تحت سلطة الاقوياء فقط، انما هناك عبودية من نوع اخر، اي مع وجود القدرة على التخلص منها، وهذا بالفعل مانود طرحه ليس على غرار مفهوم العبودية الطوعية التقليدية (التي طرحت على انها تمثل خضوع الشعوب لحكامها)،  هي عبودية اختيارية لاعتبارات وحسابات ومفاهيم وتربية خاطئة، اساس ثقافتها الموروثات والاديان والثقافات الشعبية كما ذكرنا، ففي بلادنا العربية الى ماقبل القرن الحالي كانت تنظر الشعوب (والقبائل الحاكمة للجزيرة العربية) بريبة الى الحضارة التكنولوجية الحديثة، تتعامل معها وفق منظار الحلال والحرام الشائك (او مايطلق عليه بمخاطر الثقافة الغربية)، الذي كان سببا رئيسيا في تأخر النهضة العربية، وابتعادها عن الركب الحضاري،  ووضعها في ميدان العودة المحتملة الى مربع الدين السياسي والبداوة (الجاهلية الاولى)، التي قطعا لايمكنها ان تضع الشعوب اوالامم على مسار بناء الدولة الوطنية المتكاملة، ذات السيادة والاستقلال الثابت، التي يمكن لها ان تبتعد بشكل دائم عن مستنقعات الفوضى القبلية او الاثنية او الطائفية،  تحت اية ضغوطات او صراعات او انهيارات سياسية داخلية (كتلك التي حدثت في بعض الدول العربية بعد ثورات الربيع العربي، حيث انهار كل شيء واصبحت اسس الدولة ومؤسسات انقاض كحديد الخردة بلا فائدة الا بعد اعادة الصناعة والتأهيل)، تلك القوى الهدامة لها تأثيرات طويلة الامد ان استمرت بالتمدد على حساب مؤسسات الدولة واجهزتها، ليس لان الخلل ذاتي فيها فحسب، ولكن هي قوى متغيرة ومتناقضة وتخضع للاهواء والتفسيرات والرغبات الشخصية وامزجتها المتقلة، ولان تلك الاماكن والمواقع (اي مواقع العمل السياسي والحكومي)بحاجة الى عباقرة وعقول واعية ومنفتحة على العالم، لا ان يدخلها الجهلة والاغبياء والمتطفلين، فتصبح كلعبة اطفال بايديهم او يعتبرها البعض منها اقرب الى احد حلقات الدروس الدينية او المجالس العشائرية الاعتيادية، فيعتقد مثلما انصت لحكمته الساذجة الاخرون سينصت له الشعب او اتباعه  (تجربة صدام والقذافي وابو تفليقة وعلي عبد الله صالح والبشير وغيرهم يطرحون انفسهم كقادة وفلاسفة في كل المجالات والاختصاصات، الخ.) .....

دولة الزعامات هي دولة اقطاعية بدائية اساس بقاءها استعباد الشعوب واذلالهم، تستخدم كل الطرق المشروعة وغير المشروعة لترسيخ مبدأ التوريث والتسلط في الحكم، تعمل على احكام قبضتها على جميع مفاصل الدولة، يرمي كل زعيم منهم شباكه الحديدية في جميع الاتجاهات، ويجعلها متواصلة خيطيا به مباشرة، الا انه يبقى خارج اللعبة احيانا، لابعاد نفسه عن دائرة الاتهامات (كما يفعل زعماء المافيات او تجار المخدرات -يبقى بعيدا عن الواجهة)، ولهذا تجده يتدخل في كل تفاصيل حياة اتباعه ومنافسيه كما تفعل الانظمة الدكتاتورية الشمولية، لا من اجل ترسيخ مبادئ الديمقراطية والحريات العامة والعدالة الاجتماعية والانصاف الحكومي، وانما لديمومة فعالية اليات السيطرة،  وضبط ايقاعات احتمالية المواجهة مع الاخرين، وصد اية تغييرات جانبية او طارئة (قد تحدث فجأة)، هذه الحالات تأخذ منحى اخر عندما يكون زعماء هذه الدولة المحطمة والمقسمة، هم زعماء قبائل وطوائف مسلمة، اي يتم استخدام وتطويع العصبيات القبلية والمقدسات الدينية لخدمة مواقعهم السلطوية العليا المسلطة على رقاب الشعب او المجتمع، تصل بعدها الى قمة الفساد والظلم والانحراف، عندما تكون لديها اذرع مسلحة تهدد او تغتال كل من يقف بوجهها او يعترض على اسلوب الحكم العشوائي، او يرفض عملية تقاسم السلطة العبثية فيما بينهم، او ينتقد اطروحة قدسية الزعيم وحاشيته وتحريم المساس بها حتى لو ثبت فساده وحماقته واجرامه (على الطريقة التيمية الوهابية الداعشية التي تقبل بالحاكم المسلم وتحرم الخروج عليه وان كان ظالما او فاسقا مادام لم يعلن كفره او شركه)، ولعل التاريخ اكد خطورة اجتماع مثلث القوى الثلاث (الامبراطور او القيصر او الحاكم، جلاوزة القصر والتاج والسيف المتوارث، ورجال السلطة الدينية....)، هي بوابات الانحطاط الرئيسية، سلطة الزعيم، وسلطة اتباعه اي الشرعية الدينية او القبلية،

وسلطة الجماعات المسلحة والاجنحة العسكرية التابعة له، هذه التركيبة الخبيثة تعارض ارادة الله سبحانه وتعالى في صيرورة التطور الكوني، والفطرة الانسانية والعقلية السليمة، فهي تعمل على تحويل المدن الى قرى وحارات مفككة وموزعة على زعماء الطوائف والاثنيات، بينما ارادة الخالق عزوجل تقضي بدفع البشرية بعيدا عن ثقافة القرى  (لايعني ان كل قرية فيها عادات وموروثات سيئة،  انما لكل قرية الحق في التحول الى مدن متحضرة، المتخلف منهم من لايرغب في مغادرة قروية العادات والتقاليد البالية، و يعتبرها افضل من الاديان والمدن والحضارة) وموروثاتها البالية الى التحضروالتمدن والحياة العلمية....

الاصرار على البقاء في الاوحال والمستنقعات هو قمة الرذيلة والانحطاط، مهما ادعى زعماء الطوائف والاثنيات انهم يقفون مع حضارة الشعوب وتمدنها، وانهم اهل الجهاد والاصلاح، لان الاسس والخطوات والاساليب والنتائج لاتدعم اطروحاتهم النفاقية المخادعة، فالسيد او الزعيم او شيخ القبيلة يعلم قبل غيره ان العدالة والمساواة وحقوق الشعوب تتعارض تماما مع الطبقية والفوقية والاقطاعية الاسرية او القبلية او حتى الدينية، وتحارب قوى الجهل والضلال، وترفض التمييز على اساس اللون او العرق او الدين او تاريخ الاسرة والقبيلة او العشيرة، من هنا تجدهم يمعنون باشاعة ثقافة ظاهرية دعائية عن الزهد والتواضع والفقر والحرمان بين اتباعهم من العوام (وليس الخواص الذين يعرفون اسرار فساد الزعيم وعائلته، وحالة البذخ والترف والاسراف الذي يعيشون فيه)، ومن ان الفقر والمرض عقوبة الهية دائمة للمجتمعات الضالة (الخ.)، وهم على علم تام من ان الافقار ونهب الثروات يخلف مجتمعا محطما هشا، يخضع للمساومة والابتزاز، ويكون احد الاسباب المباشرة التي تـأخذ الشباب والاجيال المتعاقبة الى ميادين الاحباط واليأس والتفكير السلبي، وتورطهم بالوقوع في ايدي عصابات الجريمة والانحراف، وهو بالطبع ليس فقرا وقدرا سماويا، وقد وزع الله عزوجل الثروات الطبيعية بين القارات والامم بطرق متساوية وعادلة نسبيا  (هناك دول لاتملك النفط والغاز وهي اغنى وافضل من بعض الدول النفطية، بل ان القارة السمراء كما يطلق عليها افريقا الفقيرة هي التي يقال عنها انها قارة الثروات الحديثة غير المستغلة بطريقة مناسبة، ان سعر لعبة الكترونية يعادل سعر برميل النفط واكثر احيانا).....

هذه القيود المتوارثة يمكن ان تزول بسهولة، عبر التفكير العقلاني السليم، وبالارادة والتحرر من القيود والاغلال الداخلية للانسان (التخلص من الانتماء البدائي المتعارض مع الحضارة العلمية الحديثة،  الذي يعرقل محاولات الانعتاق من قيود العبودية)، بالبحث والتفكير والاتزان الشخصي،  وبالتعلم والاطلاع المعرفي، والاعتماد على الثقافة النخبوية العلمية الصادقة المحلية والعالمية، دون الحاجة الى ان يكون الانسان على مستوى عال من الدرجة العلمية او الاكاديمية، انما على الاقل ان يفهم بتجرد حقوقه الوطنية والدينية والاجتماعية الحقيقية، لا ان يبقى اداة رخيصة يتلاعب بها زعماء مافيات الفساد والبرجوازية القروية العفنة، اسير النفاق والانتهازية والتقديس الفارغ..

متعة الحياة ورفاهية العيش ليست حكرا على الزعماء والاثرياء وابناءهم وافراد عوائلهم، هي حق طبيعي فطري ومكتسب ولكل البشر ..

***

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم