قضايا

نيتشة.. حين يعيش الحياة كفن

3819 نيتشهتجسّد تراجيديا اليونان القديمة الفهم النيتشوي لمعنى الفنان. وسواء أحببناه ام كرهناه فان الفيلسوف نيتشة (1844-1900) قدّم طريقة متفردة في النظر الى الإبداع في أول عمل كبير له (مولد التراجيديا) الذي نُشر عام 1872.

طاقتان إبداعيتان متنافستان

في هذا العمل المبكر والكبير، تصوّر نيتشة الحياة كفن وجسّد فكرة ان نعيش الحياة بإبداعية. طاقتان إبداعيتان متنافستان هما الطاقة الأبولوية (نسبة الى الاله أبولو) والطاقة الدايونيسية (نسبة الى الاله داينوسيس). الطاقة الأبولوية هي الفهم العقلاني البارد، اما الطاقة الثانية هي مظهر للشغف العاطفي الحار. كان نيتشة يخشى من ان المجتمع في زمانه اهتم فقط بالمظهر الأبولوي وأهمل الدور العاطفي الدايونسي. هو اعتقد بأهمية التوازن بين الاثنين والذي تجسّد في الأعمال الفنية العظيمة مثل تراجيديات اليونان القديمة. هذا التوازن بين الرأس والقلب لازال هاما حتى اليوم مثلما كان في أيام نيتشة. نحن كأناس مبدعين، ننتج الأشياء والأفكار والأفعال.

مقابل اولئك الذين يدّعون ان نيتشة كان عدميا، نرى ان فكرة نيتشة في الإحتفال بالحياة والعيش بابتكارية يمكن تفسيرها كتأكيد للحياة ذاتها، ولأنفسنا وللفن بالمعنى ألاوسع. هو يكتب في مولد التراجيديا:

"نحن يجب ان نعمل الكثير لأجل علم الجماليات، حينما نتصور ليس فقط عبر الاستدلال المنطقي، وانما عبر اليقين الحدسي المباشر بأن التطور المستمر للفن هو مرتبط بثنائية الأبولوي والدايونيسي: تماما مثلما يعتمد الإنجاب على ثنائية الجنس، مستلزما انقساما دائما مع تدّخل متكرر من التسويات".

يصر نيتشة على ان المأساة اليونانية تحقق العظمة من خلال دمج كلا الطاقتين الابتكاريتين المتداخلتين: الأبولوية العقلانية المنضبطة، المسؤولة عن الحوار، والدايونسية العاطفية اللاعقلانية التي تلهم الموسيقى والفريق الموسيقي. في العزف، يتعزز معنى الكلمات باللحن المصاحب لها. عند إستعمال الأعمال الفنية الدرامية اليونانية كمثال لنا، نحن نستطيع ان نتعلم من الفن العظيم لكي نرى جمال الحياة. الأبطال المأساويون يعرضون قيما مؤكدة للحياة مثل الشجاعة حتى عندما يواجهون أقسى الظروف . المهم هو ان لا ننكر عواطف المرء، حتى عندما نكافح فكريا لفهم حياتنا كشيء ذو معنى.

"الفن.. يرغب بإقناعنا بالمرح الأبدي للوجود: نحن نبحث عن هذا المرح ليس في الظاهرة وانما خلفها. علينا ان نعترف بأن كل ما يأتي الى الوجود يجب ان يكون مستعدا للنهايات المحزنة، نحن مجبرون للنظر في أهوال الوجود الفردي ولكن لا يجب ان نكون شديدي القسوة: راحة ميتافيزيقية تسحبنا للحظات من صخب الأشكال المتغيرة".

يتحدث نيتشة عن الفن العظيم كوسيط نتوحد من خلاله، نناقش صراع البطل المأساوي مع المصير، انتصار النظام الاخلاقي للعالم، وتنفيس العواطف من خلال التراجيديا. هذا هو المفضل لدى نيتشة على العقلاني الخالص "البربري الخطير". هو اعتقد ان المفكرين الكلاسيك مثل سقراط حطموا هذا التناغم بين العقل والعاطفة بتركيزهم فقط على المظهر المنطقي والعقلي، مع القليل من الاعتبار لدور العاطفة . بالطبع، سقراط كان قلقا من ان العواطف قد تكون مضللة وقد تؤدي الى استنتاج زائف.اما بالنسبة لنيتشة فهو يرى ان الحياة بدون عاطفة ستكون كئيبة.

الفن والحياة

الفن العظيم يقدم لنا طريقة لتصور حياتنا كشيء ذو معنى لو اعتبرنا انفسنا كالفنان الذي يخلق معنى لحياته الخاصة عبر إعتماد كل من العقل والعاطفة. في اللغة المعاصرة، نحن قد نرى العواطف كقوة محفزة تقف خلف أفكارنا. لو نختارعملا بشكل عقلاني، نحن ايضا نحتاج للتمتع به او نمتلك نوعا من العاطفة للعمل الذي نقوم به اذا اردنا الشعور بالهدفية. هذه الفكرة تبلغ ذروتها في فكرة نيتشة عن الرغبة في السلطة، نحن نتحمل وحدنا المسؤولية عن خياراتنا في الفعل. في هذه الطريقة، نحن نخلق حياة جميلة ذاتية ومتفردة.

ماذا عن الآخرين؟

الخوف هنا هو ان الحياة التي نخلقها لأنفسنا، وأفعالنا الراغبة بالسلطة ربما تكون انانية ولا تأخذ الاخرين بنظر الاعتبار. النقد لنيتشة هو انه عدمي، وان ذاتيته تقتل أي معنى للأخلاق عندما كل شخص له الحرية في ما يحب وما يرغب وما يخلق. مع ذلك، تأكيد الحياة او الحياة الجميلة يجب ان لا يقيّد حرية الآخرين الذين هم ايضا اشخاص ذوي ارادة حرة في محاولة خلق حياتهم الجميلة الخاصة. نرى ان الحياة الأصيلة تفشل في ان تكون جميلة لو هي أنكرت حرية الناس الآخرين. نيتشة يحتج ضد أي شكل من العبودية، لكنه ايضا يترك للافراد ادراك انهم احرار. تسمية الطاقتين الابداعيتين بأبولوية ودايونيسية انما تتحفز بالآلهة: ابولو اله الشمس، ويمثل الضوء والحقيقة اللذان يلهمان أعمال النحت والبناء، ودايونيس اله الارض ويمثل الربيع والتجدد وهو الملهم للموسيقى والمرح : شعور بالحماس المفرط بجمال الحياة. ان الفن العظيم يولد من اجتماع كل من العقلاني واللاعقلاني. هاتان الطاقتان الفنيتان حسب نيتشة، ينبعان من الطبيعة ذاتها، "بدون وساطة الفنان الانساني" ويتم التعبير عنهما في شكل تصويري حي من خلال أحلامنا التي تخلق "شعور صوفي بالوحدة". عادة لم نسمع ان نيتشة بدا عاطفيا. انه شعور بالرعب والألم الذي يوحّد كل البشر. التحدّي أمامنا هو ان نستمر بالكفاح لخلق حياتنا الجميلة حتى في مواجهة الصعوبات. مبدأ نيتشة الابتكاري يرانا جميعا كفنانين، نخلق أفضل الحياة لأنفسنا. نيتشة ايضا يشير لأهمية الصحة الثقافية التي يحتاج بواسطتها ليس فقط الافراد وانما ايضا الثقافات للتوازن بين العقل والقلب. "رغم الخوف والأسف، نحن كائنات نعيش بسعادة، ليس كأفراد وانما ككائنات حية". من خلال الفن وفي الحياة نشهد قوة العواطف، القوة التحويلية لـ "العواطف الجبارة."

هذه العاطفة يمكن ان تكون بنّاءة او تدميرية ولهذا تحتاج للإسناد من العقلانية. بهذه الطريقة، يمكن ان يؤدي الانصهار بين الابولوي والدايونيسي الى تحوّل في الذات، يخلق فنانا ومحبا للحياة.

***

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم